والكيد في كل هذه الحكايات والقصائد ظاهر وجلي، لكن هل يجوز ان نربط الحب بالكيد والغل والكراهية وهو من طينة مختلفة؟ وقبل ان تسأل: وهل يجوز ربطه بالسياسة...؟ لنعترف بأنه بعيد عن المنحيين لكن يظل اقترانه بالسياسة اخف وطأة واكثر شمولاً، فالعمل السياسي يحتمل الكيد والمكائد، وتسمية الغزل السياسي فيها رحابة ودعابة لذا تظل مقبولة ـ حسب اعتقادنا ـ اكثر من تسمية الغزل الكيدي بكل ما تحمله للحب من عداوة مبيتة تفسد حق التظارف الذي تحفظه السياسة رغم دمويتها في مختلف الامكنة والعصور.
وما دامت سيرة الغزل السياسي قد «انفتحت» ثانية، فسوف نقترب من شاعر لم يكن كل غزله السياسي كيدياً وهو عبيد الله بن قيس الرقيات الذي حصل على ذلك الاسم الفخم لأنه اكثر من التغزل باسم رقية، وأشهد انها لفتة عروبية راقية ومتحضرة ان تنسب الشاعر الى من يتغزل بهن من النساء وهؤلاء كثر وأشهرهم جميل بثينة وعنتر عبلة وقيس ليلى وكثير عزة وقيس لبنى، لكن قبل عبيد الله لا نعرف شاعراً كان يبحث عن الاسم قبل الكسم والروح ولا يكتفي برقية ولا باثنتين بل يثلث ويربع من دون ان يشبع من ذاك الاسم الذي خلب لبه، واحوجه الى الأحجبة والرقيات والتعاويذ.
وكان عبيد الله بن قيس الرقيات زبيريا تعصب لمصعب بن الزبير ولأخيه عبد الله، لذا كان غزله الكيدي بنساء بني أمية ضرورة سياسية لنصر حزبه واثبات فساد اخلاق نساء المعسكر المعادي، وليس أصعب على العربي سياسياً كان ام اقتصادياً ان تذكر علنا نساءه وأهل بيته.
وميزة هذا الشاعر انه تغزل سياسياً ايضاً بنساء مصعب بن الزبير، لكن غزله فيهن كان أقرب ما يكون الى مدح البعل ـ وآمل ألا يخطئ المصححون فيضعوا فوق العين نقطة ـ وان كنت لا تصدق، فإليك ما قاله هذا الشاعر في عائشة بنت طلحة حين كانت ـ بلغة التراثيين ـ تحت مصعب:
جنية برزت لتقتلني مطلية الأصداغ بالمسك
عجباً لمثلك لا يكون له خرج العراق ومنبر الملك
والواضح دون شرح ان المطالبة بمنبر الملك لزوج الست، وليس للست نفسها، وان شئت المفاخرة ـ وهل فوق الجمال من فخر ـ فالشاعر يفاخر بما ضم مخدع قائده، وبما تحت جناحي مصعب من الجمال الفريد والجريء و«الثقيل»، فعائشة بنت طلحة كانت كما زعم من شاهدها ناهدة الصدر عظيمة العجز، وكانت تسكب جرة الماء على شعرها، فلا يصل منه لكعبيها قطرة لوجود ما يحجز مجرى الماء وسط القارة.
* الهروب والشفاعة
* ومقابل كل ذلك الأدب والعفة والاحتشام، والحذر في التغزل بعائشة زوجة مصعب، خذ قصيدة من قصائد عاشق الرقيات في أم البنين الأموية زوج الوليد وسوف تجد فحشاً، واقذاعاً ووصفاً حسياً فاضحاً، فمن شروط الغزل السياسي وصف العلاقات الحسية مع المعشوقة للانتقام من زوجها أو أبيها أو اخيها، وللتدليل على ذلك الجانب الذي اجاده عبيد الله بن قيس الرقيات، ولم يفقد عنقه، بسببه، سنشير الى واحدة من قصائده الكيدية التي خصها بها:
أتتني في المنام فقلت هذا حين أعقبها
فلما ان فرحت بها ومال علي اعذبها
شربت بريقها حتى نهلت وبت اشربها
وأضحكها وأبكيها وألبسها وأسلبها
أعالجها فتصرعني فأرضيها وأغضبها
ولم تغضب هي، انما غضب عمها، وزوجها وعشيرتها، وهموا بالفتك به لو لم يحدث ما لم يكن في الحسبان، فلأول مرة في تاريخ العشق السياسي تتوسط الضحية لشاعرها الذي مرغ سمعتها في الوحل، وهذه قصة صعبة الفهم، وربما كنا سنفهمها أفضل لو نسبت الى عهد الداهية معاوية بن ابي سفيان الذي كان يرد الكيد عن عاتكة بتسفيه المتغزلين بها.
ولا حيلة لنا إلا أن نقبل الرواية كما هي فالرواة ينسبونها الى عصر عبد الملك بن مروان، ويروونها بلسان الشاعر نفسه، فلنستمع الى ما قال أو إلى ما قولوه اياه في تلك الرواية التي تجدها في معظم كتب التراث منسوبة الى الأغاني: يقول قيس بن عبيد الله الرقيات: «خرجت مع مصعب بن الزبير حين بلغه شخوص عبد الملك بن مروان إليه، فلما نزل مصعب بمسكن ورأى معالم الغدر ممن معه دعاني ودعا بمال ومناطق، فملأ المناطق من ذلك المال، وألبسني منها وقال لي: انطلق حيث شئت، فإني مقتول، فقلت لا والله لا أريم حتى أرى سبيلك، وأقمت معه حتى قتل ثم مضيت الى الكوفة، فأول بيت صرت إليه دخلته فإذا فيه امرأة لها ابنتان كأنهما ظبيتان، فرقيت بي درجة الى مشربة فقعدت فيها، فأمرت لي المرأة بما احتاج من الطعام والشراب والفرش والماء للوضوء، فأقمت عندها اكثر من حول تقيم لي ما يصلحني، وتغدو علي كل صباح وأنا في ذلك اسمع الصياح في والجعل ـ مكافأة رأسه ـ فلما طال بي المقام، وفقدت الصياح في وضجرت بمكاني غدت علي، فعرفتها اني ضجرت وأحببت الشخوص الى أهلي فقالت لي: نأتيك بما تحتاج إليه ان شاء الله تعالى، فلما أمسيت، وضرب الليل بأوراقه رقيت الي وقالت: اذا شئت فانزل فنزلت وقد أعدت راحلتين عليهما ما احتاج اليه ومعهما عبد، واعطت نفقة الطريق وقالت العبد والراحلتان لك، فركبت، وركب العبد معي حتى طرقت اهلي بمكة فدققت منزلي، فقالوا من هذا؟ فقلت عبيد الله بن قيس الرقيات، فولولوا وبكوا، فأقمت عندهم حتى أسحرت ثم نهضت ومعي العبد حتى قدمت المدينة فجئت عبد الله بن جعفر بن ابي طالب عند المساء وهو يعشي اصحابه، فجلست معهم وجعلت اتعاجم وأقول يا ريار بن طيار، فلما خرج أصحابه كشفت له عن وجهي فقال: ابن قيس، فقلت: نعم جئتك عائداً. قال: ويحك ما اجدهم في طلبك واحرصهم على الظفر بك ولكني سأكتب الى أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان فهي زوجة الوليد بن عبد الملك، وعبد الملك أرق شيء لها، فكتب اليها يسألها ان تشفع لي الى عمها وكتب الى أبيها يسأله ان يكتب اليه كتاباً يسألها الشفاعة..».
وعليك ان تفهم من السياق ان رسالة الشفاعة كتبت ووصلت، وجاء دور أم البنين لتحصل بدلالها وحظوتها عند عمها على قرار العفو، اما ان كنت تفضل قراءة ما بين السطور، فسوف تجد في بقية الرواية صفة أصيلة في الحاكم المستبد، وهي انه يضمر الغدر ويعد، وعينه على عدم التنفيذ، ولكن من خلال وسائل اخرى بحيث يظل نظرياً طاهر الذيل، ويقوم الآخرون نيابة عنه بنقض العهود والمواثيق، وفي هذا الجزء من الرواية يختفي لسان الشاعر لنسمع بقية القصة على لسان الراوي الذي يقص وكأنه كان يقف بين أم البنين وعمها اثناء طلب العفو التزاماً بكتب الشفاعة: «فدخل عليها عبد الملك كما كان يفعل، وسألها هل من حاجة، فقالت: نعم لي حاجة، فقال: قد قضيت كل حاجة لك الا ان يكون ابن قيس الرقيات، فقالت: لا تستثن علي شيئاً، فنفح بيدها فأصاب خدها، فوضعت يدها على خدها فقال لها: يا ابنتي ارفعي يدك فقد قضيت كل حاجة لك وان كانت ابن قيس الرقيات، فقالت: ان حاجتي ابن قيس الرقيات تؤمنه، فقد كتب اليَّ ابي يسألني ان اسألك ذلك، قال: فهو آمن، فمريه يحضر مجلس العشية، فحضر ابن قيس وحضر الناس حين بلغهم مجلس عبد الملك، فأخر الاذن ثم اذن للناس، واخر اذن ابن قيس الرقيات حتى اخذوا مجالسهم ثم اذن له، فلما دخل عليه قال عبد الملك: يا أهل الشام اتعرفون هذا، قالوا: لا، فقال هذا عبيد الله بن قيس الرقيات الذي يقول: كيف نومي على الفراش ولما تشمل الشام غارة شعواء تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي عن حزام العقيلة العذراء فقالوا: يا أمير المؤمنين اسقنا دم هذا المنافق. فقال مستغرباً ومتحسراً: الآن وقد أمنته، وصار في منزلي، وعلى بساطي قد أخرت الاذن له لتقتلوه، فلم تفعلوا.
* غيرة وحذر
* وقد نافح ابن الرقيات عن الزبيريين وعادى الأمويين، أما الخير الحقيقي، فقد اتاه عن طريق العلويين الذين أمنوا له عن طريق عبد الله بن جعفر «بوليصة تأمين» مدى الحياة حين لم ينفعه الأمان الأموي، ففي الاخبار ان ذلك الشاعر مدح بعد العفو عبد الملك بن مروان بقصائد كثيرة منها البائية التي قال فيها عن عبد الملك: يعتدل التاج فوق مفرقه على جبين كأنه الذهب فقال عبد الملك لما سمعها: تمدحني بالتاج وكأني من العجم، أين ذلك من قولك في مصعب:
انما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيه جبروتُ منة ولا كبرياء
وهكذا ترى ان السياسيين يغارون كالراقصات من بعضهم البعض، وبسبب غيرتهم قال عبد الملك لعبيد الله بعد ذلك الموقف المذل: اما الأمان فقد سبق لك ولكن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاء ابداً. فذهب عاشق الرقيات، وقال لعبد الله بن جعفر: ما نفعني اماني تركت حياً كميت، فقال عبد الله: كم بلغت من السن؟ قال: ستين سنة، فقال: فكم تأمل أن تعيش قال: عشرين سنة اخرى، قال: كم عطاؤك، قال: الفا درهم، فأمر له بأربعين الف درهم عن السنوات العشرين التي قدرها.
وفي مجال الأدب السياسي بشكل عام الشك مطلوب، والحذر مرغوب، فروايات الكرم كقصائد الغزل تبث وتنشر اما للكيد، واما لتلميع المانح وكسب الناس لشخصه وحزبه ولمواقفه السياسية، ومهما كان الموقف فإن الشاعر الذي أذل نفسه بنقل البندقية من كتف الى آخر، ومن حزب الى نقيضه هو الذي يلام على تفننه في الغزل الكاذب والمواقف السياسية المتناقضة لأن الناس، وبغض النظر عن الغنى والفقر، والسلطة وعدمها، يحترمون أصحاب المواقف الثابتة. اما الذين يبيعون قصائدهم في أسواق السياسة غزلاً ومديحاً، فالنظرة الاجتماعية لهم ليست فوق الشبهات، «ومن وضع نفسه موضع الشبهة، فلا يلومن من اساء به الظن».
ان كل ما يبقى من شعراء الغزل السياسي ـ أو الكيدي ـ احتراماً لمن ذكرتنا بهم هو شجاعتهم، التي تشبه الى حد كبير الحماقة المحسوبة، فشاعر الغزل السياسي يحتاج الى جرأة وتهور لا يتوفر عند كثيرين، وهذا ما يجعل قصائده مسموعة، ومحفوظة ومنقولة، فالناس في كل عصر ومكان يحبون من يكسر قشرة الخوف ليطربهم بفضائح الطبقات السياسية العليا، ويسامر ضجرهم بحكايات تخفيه، وهروبه، وقبل هذه وهاتيك وتلك، هناك قصص عشقه الشخصي التي تنتج غير القصائد المرغوبة والمطلوبة للارواء العاطفي الممنوع في مجتمعات كل شيء فيها مباح ومسموح بحدود باستثناء الغرام العلني وحق ممارسة العمل السياسي.