والعنفُ هذا ليس محصوراً بشكل واحد، فقد شهد العالم البشري الكثير من مظاهر العنف التي تتدرّج من النظرات والتنمّر اللفظي حتى تصل إلى الحروب الأهليّة أو الحروب بين الدول. ويمكن طرح الأمثلة المتفاوتة على النظرة القيْميّة للعنف بين مؤيّد ومعارض وفق اختلاف الأجندات الأيديولوجية وعبر اختلاف الأماكن والأزمان. فما كان يوماً قيمة عُليا في أعراف الشعوب عن التحرر من الاستعمار بواسطة المقاومة المسلّحة، قد يصبح بعد قرونٍ مثلاً أمراً مُستهجناً. وما هو الآن مقوننٌ بنصوص تشريعية حول حقوق النساء والأطفال في السلامة الجسدية ومنع الاعتداء والضرب والتحرّش مثلاً، كان فيما مضى وقبل عقود ليست بالكثيرة ضرباً من الخيال أو مثار سُخرية على الأقل.
أخيراً نعيش الآن عوالم سحريّة أشبه بالملاحم والأساطير مع ثورة الاتصالات واقتحام الأفراد المجال العام بقوّة لا رادع لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاتها المختلفة
تغيّرت منظومة العلاقات البشرية كثيراً خلال الخمسمئة عام الأخيرة بدءاً من عصر التنوير الأوروبي، وتضاعفت الوتيرة بعد الثورة الصناعية وأخذِ الآلةِ دورها الفاعل في حياة البشر، ثم جاءت السنون الخمسون الماضية لتقفز خطوات هائلة بالعالم الإنساني مع علوم التقانة المتطوّرة، وأخيراً نعيش الآن عوالم سحريّة أشبه بالملاحم والأساطير مع ثورة الاتصالات واقتحام الأفراد المجال العام بقوّة لا رادع لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاتها المختلفة. لقد بات البشر على احتكاك مباشر وتماسّ شديد مع بعضهم بعضا، أو بالأحرى مع أفكارهم ومفاهيمهم واعتقاداتهم، فيكفي أن تلج الشبكة العنكبوتية وتطرح عبر محرّك البحث (Google) أي سؤال لتجد عشرات الأجوبة عنه، وأحياناً المئات والآلاف منها.
يولّد هذا الاحتكاك تصوّرات مختلفة عن الذات وعن الآخرين، ويرسم عوالم غير حقيقية عند بعضهم، فيرى من حقّه مثلاً القيام بتصرفاتٍ أو اتخاذ مواقف لا أساس لها ولا مستند يسندها إلا في خياله. فمجرّد مسير سيدة في الشارع بلباسٍ ما، أو كتابتها بعض العبارات على حسابها في فيسبوك، قد يؤدي إلى عاصفة من التفاعل، يمكن أن يصل في كثيرٍ من الحالات للعنف اللفظي أو حتى الجسدي، وقضيّة المغدورة نيرة أشرف ماثلة للعيان ما زال دمها راعفاً، ومثلها كثير من الصبايا الضحايا. وقد يكتب امرؤٌ رأياً حول قضية دينية أو سياسية، فيجد نفسه في خانة الأبطال والقدّيسين أو في خانة المرجفين أو الهراطقة أو الخونة، وفي كلتا الحالتين يمكن الحديثُ عن عُنفٍ يمارس ضدّه أو ضدّ المجتمع المحيط به، فالتهليل لبعض السخفاء من أبطال السوشيال ميديا مروّجي التفاهة والسُخف، لا يقلُّ خطرهُ عِظَماً عن الترويج لرجال دينٍ متطرفين أو مُلحقين بركب السلطان، واستباحة النساء أو المهمّشين قد لا يقتصر على وزير خارجيةٍ كجبران باسيل في تساؤله عن عدم حضور إحدى موظفاتِ وزارته اجتماعاً مع نظيرٍ له خليجي، لا تفرق عن استباحة رئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي لحقوق اللاجئين السوريين، المفترض أنها مصانة بالقانون الدولي، عندما طالب المجتمع الدولي بإعادتهم إلى سوريا تحت طائلة إعادتهم وفق القوانين اللبنانية!
وبعض العنف نسويٌّ أيضاً، فلم يعُدْ خافياً على أحد حجمُ التهويل المرافق لبعض حركات نسوية متطرّفة، باتت ترى في تحطيم الرجل هدفاً لها، عوضاً عن الأهداف النبيلة والمحقّة لمسيرة التحرر والمساواة التي خاضتها مجموعات كبيرة وشجاعة منهنّ عبر التاريخ الحديث، لتحقيق العدل والعدالة لنصف البشرية هذا الذي ظُلم طويلاً. لعلّ في محاكمة جوني ديب وأمبير هيرد إضاءة بسيطة على مدى التغوّل الذي يمكن أن تصله النساء أيضاً، إذا ما رُفعت لهنّ القبّعات دونما حساب، أو إذا ما استحالت قرينة البراءة المفترضة بكل متهمٍ قرينةَ صدق لما تقُوله النساءُ غير قابلة للدّحض أو إثبات العكس! أليس في مقولة (صدّقوا النساء) ((Believe Women) التي أطلقتها حركة (أنا أيضاً) النسوية (Me Too) عكسٌ فاضحٌ لهذه القرينة المفترضة عرفاً وعقلاً وعدلاً، والمنبثقة من صلب روح العدالة والمنصوص عليها في كل دساتير العالم بلا استثناء!
مقارنة الضجّة التي يثيرها حدوث زلزال أو إعصار في الولايات المتحدة، مع الإهمال المريب لضحايا زلزال أفغانستان، أو معاناة مسلمي الروهينغيا أو الهند، هي مؤشّرٌ على الأولويات التي لا تنسجم مع ما وضعته البشرية لذاتها
هذا التحيّز الذي يشهده العالم لبعض السرديّات من حياة البشر، مقابل الإنكار وغضّ الطرف عن كثيرٍ منها مماثلة، بل أشدّ وقعاً وألماً، لكن في أماكن أخرى ومع بشر آخرين، يجعل من الضمير البشريّ مختلّاً حتى في تعاطفه أو إنصافه للبشرية ذاتها. مقارنة الضجّة التي يثيرها حدوث زلزال أو إعصار في الولايات المتحدة، مع الإهمال المريب لضحايا زلزال أفغانستان، أو معاناة مسلمي الروهينغيا أو الهند، هي مؤشّرٌ على الأولويات التي لا تنسجم مع ما وضعته البشرية لذاتها من معايير يُطلق عليها وصف القبول من الأمم المتحضّرة!
قرارُ مجلس الدولة الفرنسي بتأييد حكم منع البوركيني في مدينة غرونوبل مثلاً، والذي برّره القضاةُ بأنه يحمي العلمانية ضدّ قرار المدينة بالموافقة على ارتداء البوركيني، الذي اعتبره مجلس الدولة بأنه يهدف فقط إلى تلبية مطلبٍ ذي طابع ديني، وأنه يخالف قواعد النظافة والأمن، معتبراً أنّ ارتداء البوركيني يؤثر على الأداء السليم للخدمة ويقوّض المساواة في المعاملة بين المستخدمين، مما يجعل حياديّة الخدمة العامّة معرّضة للخطر، هو نموذج للعنف الممارس ضدّ فئة محددة من البشر لا يختلفون عن نظرائهم سوى بالمعتقد الديني الذي تحمي حقّهم فيه المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنصّ على:
" لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّيّة الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة."
والمادة 27 منه التي تقول: "لكلِّ شخص حقُّ المشاركة الحرَّة في حياة المجتمع الثقافية، وفي الاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدُّم العلمي وفي الفوائد التي تنجم عنه."
إنه عنفٌ مبرّر إذن، فما يصدر عن السلطة يغدو مقبولاً حتى ولو تغوّل على القيم التي كان أجداد هؤلاء الفرنسيين أوّل من قوننها بإعلانهم الفرنسي المسمّى إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الصادر عن الجمعيّة الوطنيّة التأسيسية في 26 آب أغسطس 1789. ويبقى العنف منظومة بشرية متكاملة، لا تعرف حدوداً ولا تدوّر زوايا، إلا إذا وجد البشرُ عقيدة غيره، أو إصلاحاً تخطو به الحياةُ خطوة إلى الأمام.
----------
تلفزيون سوريا