نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


الديكتاتوريات العربية وأشكاليات المجتمع المدني





ان التربية السياسية وهي في الهند أفضل منها في العالم العربي مسؤلية الطليعة المثقفة والنخب الحاكمة وبما ان الشريحة الاولى محرومة كالجميع من حقوق الممارسة السياسية من السهل ان نخمن من يقف وراء فشل مشروع الدولة الوطنية (القطرية ) في العالم العربي فقد عومل ذلك المفهوم في الفكر السياسي العربي بازدراء واضح من قبل التيار القومي الذي ظن ان الدولة القطرية –الوطنية خطرا على الوحدة العربية ومن التيار الاسلامي الذي تعامل معها دوما بوصفها نزوعا شعوبيا وقطريا يفتت وحدة الامة الاسلامية ولم تسلم فكرة تلك الدولة حتى من اليسار العربي الذي نظر اليها من شرفته الآيديولوجية كعقبة أمام الحلم الأممي



يروي مالك بن نبي عن (تيبور ماند) ان الثاني ذهب الى الهند بعد استقلالها واحتك بالناس العاديين كالحمالين والموظفين والباعة ولاحظ دون ان يتهمهم بالخيانة انهم جميعا أبدوا بعض الاسف لرحيل المحتل البريطاني الذي كان يحقق لهم على علاته بعض المكاسب وبعد تلك القصة التي لها مثائل كثيرة في الدول العربية علق الفيلسوف العربي قائلا : (هنا تكمن الحقيقية المرعبة فالحرية عبء ثقيل على الشعوب التي لم تحضرها نخبتها لتحمل مسؤليات استقلالها ) .-1-
ان التربية السياسية وهي في الهند أفضل منها في العالم العربي مسؤلية الطليعة المثقفة والنخب الحاكمة وبما ان الشريحة الاولى محرومة كالجميع من حقوق الممارسة السياسية من السهل ان نخمن من يقف وراء فشل مشروع الدولة الوطنية (القطرية ) في العالم العربي فقد عومل ذلك المفهوم في الفكر السياسي العربي بازدراء واضح من قبل التيار القومي الذي ظن ان الدولة القطرية –الوطنية خطرا على الوحدة العربية ومن التيار الاسلامي الذي تعامل معها دوما بوصفها نزوعا شعوبيا وقطريا يفتت وحدة الامة الاسلامية ولم تسلم فكرة تلك الدولة حتى من اليسار العربي الذي نظر اليها من شرفته الآيديولوجية كعقبة أمام الحلم الأممي .
وعلى العكس مما توحي به هذه المقدمات فان الدولة العربية الحديثة قويت داخليا بدل ان تضعف وما ذاك الا لانها خلت بالقوة والقمع من أي شكل من أِشكال العمل السياسي المعارض ولم تفسح أي هامش تعبير أو تحرك للقوى التي تملك رؤية مختلفة عن برنامج النخبة الحاكمة ومن هذا المنطلق ظلت بعض دولنا رغم كل شعارات التحديث كدول القرون الوسطى الامر الذي يقتضي ان نقر بصواب رأي المفكرين الذين قالوا ان الدولة العربية الحديثة لم تنشأمع حملة نابليون انما كانت امتدادا لدولة العصبية الخلدونية في القرن الرابع عشر .-2-
ولا يحتاج الباحث لذكاء كبير ليدرك ان قوة الدولة العربية كانت ضد مواطنيها وليس ضد أعدائها الخارجيين ففي دولة العصبية الحديثة سواء كانت محكومة من قبل نخبة أو حزب واحد أو مجموعة ريفية أو حفنة ضباط يظل القرار دوما بيد فرد واحد او عدة أفراد يستميتون لتضييق دائرة المشاركة السياسية فالحكم من المنظور الخلدوني عصبة يتزعمها فرد و من حقها وحدها ان تتمتع بالسلطة والثروة والنفوذالى ان تطيح بها عصبة أخرى وقد لاحظ باحث ومفكر عربي بارز ان الجذر اللغوي نفسه الذي تم اشتقاق اسم الدولة منه (دال - يدول ) يوحي بعدم الاستقرارفهو يدل على الدولة الغالبة المؤقتة –الدائلة والمعرضة لأن (تدول ) وهذه القلقلة الدائلة وغير المستقرة على العكس تماما من المفهوم الستاتيكي ا لراسخ لمصطلح الدولة في الفكر الغربي - 3- .
ومع دولة العصبية والتحكم الفردي لا بد ان يأتي الاستبداد ابن الاضطرابات والكوارث وهذا نقيض العدل كما أفادنا (جان جاك روسو) بل ونقيض الدولة المدنية ذات القوانين والحقوق فدولة الاستبداد الشرقي ليست دولة بالمفهوم الحديث للدول وليس لمواطنيها الا دور واحد هو الطاعة يقول روسو:( ومن احضان هذه الاضطرابات والثورات يطل الاستبداد برأسه البشع شيئا فشيئا فيفترس ما تقع عليه عيناه من صالح وسليم في جميع اجزاء الدولة حتى يتوصل في آخر الامر الى دوس القوانين والشعب ...وبذا لا تعود الفضيلة موضع تقدير ونظر لأنه حيثما ساد الاستبداد فلا محل لسيد آخروان تكلم الاستبداد فلا نزاهة ولا واجب يرجع اليهما ويستشاران والطاعة العمياء هي الفضيلة الوحيدة التي تبقى للعبيد ) .-4-
وبعده بقرنين سيأتي مصلحنا عبد الرحمن الكواكبي ليوافق روسو على ان (الاستبداد أصل كل فساد )لكن تنظيرات الدولة المدنية التي جاء بها عصر الانوار الفرنسي ستتأخر في العالم العربي والاسلامي - باستثناء مشروطة ايران- نصف قرن آخر بعد الكواكبي فباستثناء ملاحظات متناثرة عند فرح انطون والكواكبي ظل الشكل الشرقي للدولة هو المطلب وظل مفهوم المواطنة غائبا واستبدلت الديمقراطية بالشورى التي لا يرضى الاسلاميون عنها بديلا وظل الفكر السياسي العربي أسير تقاليد الجماعة المتكاتفة التي لا دور للفرد فيها ولا يكاد يشذ عن هذا السياق بمطالبة واضحة بالدولة المدنية التي تقرفصل السلطات غير مفكر تنويري واحد شدد على وضع حاجز بين الرئاسة (السلطة الروحية ) والسياسة (السلطة المدنية ) فالاولى متعلقة بأمور ثابتة لا تغيرها الازمان بخلاف السياسة المتغيرة والقابلة للاصلاح حسب ظروف زمانها -5- .
ورغم ان هذه الدعوة التي تعتبر فصل الروحي عن الزماني شرط لقيام دولة التمدن تعود الى منتصف القرن التاسع عشر فاننا لا نجد بعدها جرأة في طرح هذه القضية بهذا الوضوح فالكواكبي وغيره ظلوا غامضين فيما يتغلق بفصل السلطات وما ذاك الالأن المشاعر الوطنية ظلت مختلطة بالديني والقومي في مراحل النضال من أجل الاستقلال عن المستعمر وهكذا لم يجد الاستبداد صعوبة في ان يتجذر ويستمرليتحول الاستبداد الشرقي الى اطروحة ثابتة في الفكر الغربي وهنا يستحسن ان ننتبه قبل الانبهار بتلك النظريات الى ان( مونتسكيو)منتقد دولة الاستبداد الشرقية كان يعيش في عهد – اللواوسة- تحت ظل نظام مشابه لم يجرؤ على انتقاده بحرف وربما كان ينتقد الاستبداد الشرقي البعيد لينبه ضمنا الى الاستبداد الغربي القريب الذي تم كبحه لاحقا بالديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني التي ولدت مبكرة هناك وما تزال ولادتها تتعثر في دولة الاستبداد الشرقي الذي استمر واستمرت معه دولة العصبية الخلدونية التي تعيش معناعربيا في القرن الحادي والعشرين بالرغم من كل الطروحات المعاكسة التي تحاول تلطيف تخلفنا السياسي حين يتعلق الامر بالدولة والمواطنة والاشكاليات المعقدة لولادة مؤسسات المجتمع المدني.
وأمام نموذج عام لحكم استبدادي يشمل تاريخنا كله ودولنا معظمها لا بد ان نسأل:
هل كان الحكم الفردي في العالم العربي صدفة أم نسقا عاما يستمد شرعيته من الفكر السياسي العربي القديم وتطبيقاته عبر عصور مديدة لم يكن فيها لمفهوم المواطنة والمشاركة الشعبية في الحكم أي وجود ...؟
واذا كان أفضل ما وصل اليه ذلك الفكر في قمة تنوره عند رجال عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر هوتلك الفكرة الساذجة المتناقضة عن - المستبد العادل- فلك ان تتصور ماذا كان يجري في الوديان السحيقة لتلك العصور التي ليس فيها نهضة ولا تنوير .
تعتقد نخبة من أهل الرأي السديد شرقا وغربا ان الحكم الفردي في العالم العربي ليس صدفة بل نسقا مستمرا وتيارا متسقا مع الفكر الديني ثم القومي ففي الفكر السياسي العربي الكثير من المثل والافكاروالمقولات التي تسهل وتسمح بقبول حكم الفرد :( باختصار يمكن القول انه لا يوجد في تاريخ الفكر السياسي العربي ما يمكن مقارنته بالانفصال الجذري عن الماضي الذي قام به مكيافيللي وهوبز في القرنين السادس عشر والسابع عشر ثم جرى صقله في عقيدة ليبرالية ديمقراطية عند أجيال لاحقة بواسطة لوك وروسو بحيث أصبحت فكرة السيادة الشعبية مبدأمسلما به وغير قابل للنقاش) -6- .
ان ما أصبح في اوروبا واقعا عمليا بديهيا - مبدأ السيادة الشعبية- ظل في العالم العربي الى اليوم في الاطار النظري فمعظم الدساتير العربي تدعي ان الشعب مصدر السلطات لكن الدستور العربي كالمواطن العربي معتقل الارادة ومعطل
ومهمش بل ان مفهوم المواطنة نفسه ما يزال غامضا وملتبسا ناهيك عن مشتقاته وتوابعه الخاصة بمصطلحات ومؤسسات المجتمع المدني الذي يتردد اسمه كثيرا في ادبياتنا السياسية الحديثة واعلامنا دون ان يكون له على أرض الواقع أي مدلول او وجودمادي محدد فالمجتمع المدني العربي –باستثناء دولتين-غائب عن عشرين دولة عربية ما يزال اقتصادها ريعيا و تركيبتها الاجتماعية والسياسية قبليةأومختلطة ومعظمها كما تركها الارث الاستعماري مستقلة نظريا فقط فالاستعمار بشكليه القديم والحديث سلما القرارات الصغرى للدولة الوطنية واحتفظا بنفوذهما على القرارات المصيرية الكبرى .
ولأنه ليس هناك من يراقب ولا من يجرؤ على المحاسبة لم تخجل بعض النخب السياسية العربية الحاكمة من التبعية فقد تربى جيل كامل على انه من الطبيعي ان تترك القرارات الكبرى للقوى الخارجية فباستثناء المحاولة الناصرية المجهضة للاستقلال بالقرار الوطني كاملا لاحظ اكثر من باحث ومفكر في الدوائر المقربة لصناعة القرار الغربي ومن الفئة التي تستشار بعمق في شؤن المنطقة : (ان الانتلجنسيا العربية ونخبتها السياسية تعيش على الاعتقاد بان القرارات الخطيرة التي تحول مصائر الاقطار العربية تتخذ دائما من الخارج فكأن الداخل ما عليه الا القبول او التفنيذ ).-7-
عمليا وفي المفارق الحاسمة التي تم تجريبها مرتين خلال أقل من من حقبة ونصف كانت الدولة الوطنية العربية متفرجة أو منضوية تحت لواء قوى خارجية تقرر وتنفذ مما أضعفها باستمرار امام جماهيرها التي تتبنى وجهات نظر مختلفة اتجاه القضايا الكبرى والصغرى لكن ذلك الاضعاف المستمر لم يقلص من سلطة تلك الدولة ولم يوسع من آفاق المشاركة السياسية الشعبية فقواعد العمل السياسي في المحيط العربي مشلولة أو معدومة أو مصادرة ومؤجلة لاشعار آخر حسب ظروف كل دولة لذا من الأفضل منهجيا الحديث عن كل دولة عربية على حدة فدرجات التطور الاجتماعي و حجم الوعي السياسي يختلف من دولة لأخرى .
ولم يكن غياب المشاركة السياسية مستغربا فالجماهير العربية نفسها غير منظمة وربما تكون محنتها بالمعارضة السياسية العربية أكبر من محنتها بالحكومات التي تسلبها حق المشاركة فالجميع ( حكومات ومعارضة وجماهير ) لم يعملوا على ترسيخ مبدأ المشاركة الشعبية بالقرار السياسي ولم يتمكنوا من بناء المؤسسات التي تلزم بالمشاركة في الثروة والسلطة فهم جميعا مع اختلاف الادوار ابناء ثقافة سياسية ليس فيها الا الواجبات وتعاليم الطاعة خوف الفتنة (سلطان غشوم ولا فتنة تدوم ) ويعيشون في ظل دول صنعها الاستعمار لحاجة تنظيم الدوائر الخارجية اللازمة لاستراتيجياته لا لصناعة الاستقرار والازدهار اللذان لا يتحققان الا في مجتمع مدني فالدولة العصرية والمجتمع المدني متلازمان ولان الاثنان بالمفهوم المتطور غائبان عن الحياة السياسية العربية ظلت الامور انتقائية وتمويهية وانشائية ونظرية فالحديث عن المشاركة والتعددية في كل مكان ومنبر لكن القرار ما يزال فرديا ومركزيا بالرغم من القفزة الهائلة في الوعي السياسي التي وفرها التلفزيون بقدرته على تجاوز محنة الامية ومخاطبة جميع القطاعات التي كانت مغيبة بسبب اميتها عن ساحة التنوير الذي كان يتم ضخه عند اسلافنا عبر قنوات الاعلام المكتوب .
لقد كان المشهد السياسي العربي أوائل القرن الحادي والعشرين - مع بعض الفروقات- كالمشهد السياسي في أواخر القرن التاسع عشر انشاء فخم و تزييف للمفاهيم وقفز فوق الاستحقاقات وعموميات ملساء مطاطة وغير ملزمة بحيث لا يستطيع ان يتعامل معها أي رجل دولة حصيف تمرن على الوقائع لا على النظريات وسرحات الخيال و الاوهام .
ومن الأدلة على استمرار هذا النهج الانشائي الى الربع الأخير من القرن العشرين ما يحكى عن محاولة هيكل اقناع كيسنجر بان مصر الثورة غير مصر الدولة ومن حقها ان تتدخل في محيطها العربي فهي تجسيد لفكرة ولمد تاريخي وقومي ويقال ان كيسنجر رد عليه بالقول :هذا كلام جميل لكني كسياسي لا استطيع ان اتعامل مع القوى الكامنة ولا ان اتفاوض مع الفكرة .-8-
وخلال هذه الحقب كلها أجادت دولة العصبية الخلدونية بشكلها المعاصر التلاعب بالوعي الشعبي كما كانت تفعل دائما وحين نقرأ اليوم ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في الطبائع قبل مائة عام نحس وكأن الدنيا لم تتغير كثيرا في قرن كامل :(....... والخلاصة ان المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الامة باسم خدمة الدين او حب الوطن او توسيع المملكةاو تحصيل منافع عامة او مسؤلية الدولة او الدفاع عن الاستقلال والحقيقة ان كل هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الاسماع والاذهان ما هي الا تخييل وايهام )-9-
وفي وقت متزامن مع وصف الكواكبي لسياسات الوطنية الوهمية لدول زمانه كان هناك مفكر آخر من ديانة اخرى وفي البلد ذاته يحذر ايضا من ذئاب الدولة الذين أجبرتهم الظروف الدولية كما أجبرت الكثيرين من معاصرينا على التخفي بصوف حملان التمدن ففي زمن فرانسيس مراش الحلبي أواخر القرن التاسع عشر حين بدأت افكار المواطنة والمشاركة والدستور ودورالمؤسسات وتقليص سلطة الفرد تنتشرفي الساحة السياسية سارع بعض السلاطين والملوك الى تبنيها دون وجود أية نية لتطبيقها- تماما كما يحصل في أيامنا مع قضايا حقوق الانسان- فقال ذلك المصلح الاديب الذي رصد تلك الظاهرة التلفيقية بدقة عن أهل عصره : (الجميع يتوهمون انهم محكومون من ملك التمدن وما ذلك الا لأن ملك التوحش أمكنه أن يتزيابزي ملك التمدن ) .
ومع فروقات الزمن ونوعية الوعي السياسي والخطاب ستختلف نوعية اللافتة التضليلية المرفوعة في كل عصر ففي ايامنا تتأخر الاصلاحات الجذرية للدولة العصرية بحجة الحفاظ على الهوية فهناك دوما مؤامرة على هويتنا ينفذها العدو السري والعلني من خلال اشاعة ثقافة المواطنة وحقوق الانسان والعولمة التي لا تتناسب - كما يقال لنا - مع مجتمعاتناوالنتيجة ان منظمات حقوق الانسان لا تتلقى من معظم الدول العربية تقارير دورية عن موقف أجهزة الدولة من الناس لأن هذه المطالب تدخل في الشؤن الداخلية ولان ثقافة حقوق الانسان بدعة غربية تفسد مجتمعاتنا كما تقول الانظمة المحافظة اما الأقل محافظة فتقفز الى الحل السهل وتتبنى نظريا على سبيل المراوغة كل ما يطلب منها وهكذا يصير الخطاب السياسي عندها كله خطاب تعددية وديمقراطية وانتخابات وحقوق لكن كل هذا الكلام الفخم يظل في حدود الشعارات فثلاثة أرباع الدول العربية التي تدعي التطبيق الديمقراطية لا يتوفر فيها عمليا أي شرط من شروط المناخ الديمقراطي المتعارف عليه عالميا.
ان الديمقراطية كما يقول أحد أبرز دارسيها (روبرت دال)تحتاج الى عدة شروط وعوامل لتستحق ذلك الاسم وأهم تلك الشروط والعوامل :
-عدم وجود هيمنة أجنبية تؤثر على القرار الوطني
-اقتناع المجتمع المدني باقتصاد السوق ونبذ الاقتصاد الموجه
-السيطرة على الشرطة والعسكر بواسطة موظفين منتخبين -10-
فهل هذه الشروط متوفرة في الدول العربية التي تزعم انها حققت المشاركة الشعبية في القرار السياسي ...؟
الجواب معروف سلفا ولا يحتاج لاضاعة وقت وشمولية معرفته هي التي تحرج الذين زيفوا الارادة الشعبية وزعموا حصول قسم من العرب على حقوق المواطنة مع ان مفهوم المواطنة في فكرنا السياسي الحديث ما يزال غامضا وقلقا أكثر من الدولة الوطنية نفسها .
ان أول ما تعنيه المواطنة في التعريفات الحديثة نقل الولاء من القبيلة للدولة والدخول في عقد طوعي اجتماعي وسياسي مع الدولة والمجتمع بحيث يقوم المواطن بواجبات ويحصل مقابلها على حقوق تنص عليها القوانين الدولية واحيانا القوانين المحلية وأهمها حق التعبير والعمل والاعتقاد والسفر والامان من الحاجة والخوف ويكون لذلك المواطن بنص القانون الحق في تقاسم السلطة والثروة دون أية قيود .
ولأن المواطنة انتماء مصيري لكيان سياسي جعل بعض المفكرين مسألة تنمية الثقة وحس الانتماء من أول مهام المؤسسات الرسمية للدولة :( الوظيفة الاساسية للسلطات العمومية هي انماء الثقة المتبادلة الموجودة داخل الكيان الاجتماعي وبالمقابل فان غياب الثقة في مجتمع ما يشكل عراقيل جسيمة في وجه بناء المؤسسات العامة وازدهارها ).-11-
وأمام هذه العلاقة التبادلية القائمة على الثقة و المتفق على ضرورتها للمجتمع المدني لتنظيم العلاقة بين الدولة والمواطنين هل يمكن القول بتوفر- ولو الحد الادنى - من هذه العلاقة في الدولة العربية ام ان العكس هو الصحيح ...؟
نظريا الصيغة موجودة على الورق وفي خطاب السياسة والاعلام لكنها غائبة تماما على أرض الواقع فلا مفهوم المواطنة ترسخ وتبلورولا الدولة حسنت سلوكها لتشجع المواطنين على الانتماء والتعاون والذي حصل عمليا قطيعةحتمية متوقعة و متفق عليها ضمنا تبدأ بها الدولة بحرمان المواطن من حقوقه الاساسية فيهتز ولاؤه ويعتبر نفسه خارج العقد الافتراضي وهذا ما يسميه بعض الكتاب والمفكرين النفي المتبادل :
(...وكما ينفى المجتمع في غير أرضيته تنفى الدولة من أرضيتها لتصبح غريبة عن وطنها وعصرها)-12-
لقد صدر كتاب خالد محمد خالد (مواطنون لا رعايا)منذ عام 1951ورغم مرور أكثر من نصف قرن على ذلك الكتاب الذي بشر بعصر المواطنة ما تزال الدولة العربية تتعامل بمفهوم الرعية فمبدأ المواطنة شبه معدوم في العالم العربي والفرد ما يزال ينظر اليه كرقم في جماعة واحساسه بالمواطنية يجب ان يختلط بمشاعره القومية أو الاسلامية كما يفترض مفكرون وباحثون اسلاميون وقوميون يحاول كل منهم ان يحدد دوائر الانتماء الملزمة التي لا تعطي لاستقلالية الشعور الوطني كبير أهمية مما يمهد سلفا للتقليل من أهمية حقوق المواطنة فهي ليست في المقام الأول عندنا كما وضعها عصر الأنوار :( تخيير المسلم بين الانتماء للاسلام وبين الدوائر الاخرى للانتماءلا يكون الا في حالات قيام التعارض والتناقض والتضاد بين الانتماء للاسلام كانتماء جامع واول وبين الانتماءات الاخرى كدوائر فرعية اما اذا اتسقت دوائر الانتماء في فكرية الانسان وتكاملت في ممارساته الحياتية فلن يكون هناك تناقض في الفكر والعمل الاسلاميين بين كل دوائر الانتماء الفطري للانسان بل ان الامر في علاقة الانتماء الاسلامي بالانتماء الوطني ليتعدى حدود نفي التناقض الى دائرة الامتزاج والارتباط )-13- .
والحقيقة ان الشيخ حسن البنا كان أوضح وادق واكثر ايجازا حين قال عن المسألة الوطنية ( ان الوطنية لم تخرج عن انها جزء من تعاليم الاسلام ).
ان هذا النوع من المواقف المتوجسة من الوطنية و المواطنة دينيا وقوميا هو الذي جعل السياسة بمفهومها الاغريقي والحديث شبه ممنوعة في العالم العربي وتفسير ذلك واضح ومقنع عند مفسر الآيديولوجيات المهزومة الذي اعتبره البعض مبالغا وتعميميا مع ان كلامه لا يخلو من دقة ولا من حقيقة :(تاريخيا في البلدان المتأخرة بوجه عام ومنها الوطن العربي لم تمارس السياسة بالمعنى اليوناني للكلمة أي كمجموعة من مسؤليات وحقوق وواجبات ملقاة على عاتق عضو حر ومسؤل بشكل لا يتجزأ من مجموعة بشرية متجمعة في مدينة ....في المدينة الاسلامية كانت الانسانوية مفتقدة والتعددية مدانة والانفصال بين السلطة والشعب قائم لذا كانت السياسة ممنوعة ) -14-.
ومهما قلبنا المصطلحات دون خلط بين الوطنية والمواطنة وحقوق المواطن والانسان لا نستطيع الا ان نلاحظ ان كل ما يقال في الدوائر الاسلامية والقومية عن المواطنة ومشتقاتها لا يشبه مفهومها الثابت المستقر في ادبيات المجتمع المدني العالمي المستند اصلا الى صياغات غربية ولدت في ظروف مختلفة وتم الاتفاق منذ البداية عند منظريهاعلى فصل كيان الفرد – الانسان عن الدين والامة ومما سهل ذلك في العالم الغربي كما يعتقد الفرنسي (سيرج لاتوش)ان فكرة الاعتراف بالفرد كقيمة مطلقة في المسيحية أوضح منها في الاسلام -15- .
ولا شك ان في ارجاع الفردية الى الفكر المسيحي بعض الخلط فعصر الانوار الفرنسي الذي تطورت منه مصطلحات المواطنية والدولة المدنية مرجعيته الثورة الفرنسية التي زعمت :( انها تؤسس امة جديدة لا علاقة لها بالمرجعية البيولوجية (دم الاسلاف ) ولا بالمرجعية الدينية فمرجعيتها الوحيدة قرار مستقل من مواطن حر يريد ان يعيش بالتضامن مع بقية الاحرار في ظل قوانين مدنية يسنونها لمصلحة الجماعة المدنية ) -16- .
وفي ما يتعلق بالمواطنة والمجتمع المدني واشكاليات مؤسساته المتراكمة يستحسن ان نعترف مبكرا اننا عيال على هذه الفكرة فليس في فكرنا السياسي القديم ما يماثلها واغلب مفكرينا المعاصرين يعودون الى التراث الاغريقي حين يتعلق الامر ببدايات الديمقراطية و الى عصر الانوار لمتابعة تفاصيل نشوء المواطنة والدولة المدنية والغريب انه ومع كل ما نطالعه يوميا عن المجتمع المدني في الاعلام العربي فان غرامشي الاب الحقيقي لتنظيرات المجتمع المدني المطورة في القرن العشرين ما يزال غريبا على دوائر الثقافة العربية التي ظلت مشغولة بالمفاهيم السارترية المثيرة عن المثقف – الشاهد والشهيد –لانها اقرب من حيث المنحى والتكوين الى ثقافة الطليعي العربي الخارج من رحم تراث لا يكون المفكرفيه فاعلا ومغيرا بل مراقبا وناقلا وفي أحسن الاحوال شارحا ومترجما.
لقد كان الفيلسوف البريطاني ( لوك ) صاحب رسالة التسامح والمجتمع المتمدن علامة بارزة في الفكر الغربي على بدء عصر المواطنة فهو الذي عارض توماس هوبز في نظرية السلطة غير المقيدةة فكل الناس عنده احراربالطبيعة ويجب ان ينظموا مجتمعهم السياسي دون منح صلاحيات مطلقة لاحد اما النقلة الحقيقية على هذا الصعيد فجاءت كما هو معروف على يد ( جان جاك روسو) مؤلف العقد الاجتماعي والباحث عن علل التفاوت بين الناس فهو وبعد نقده للاستبداد السياسي بكافة الصيغ انتقل للتأكيد على ان القوة محكومة بالزوال و سيأتي دوما من يطيح بها ان لم تتحرى الحق والعدل ( لن يكون الاقوى بالقوة الكافية لكي يكون السيد دائما الا اذا حول القوة الى حق والطاعة الى واجب).
ولتنظيم تلك العلاقة بين المجتمع والدولة التي شغلت مفكري جميع العصورمنذ شيشرون الروماني الذي جعل المصلحة محورها طالب روسو بارجاع السلطة الى مشرع تعاقدي بين كائنات حرة من خلا ل مؤسسات تتيح استشارة ارادة كل مواطن وتشرع مستندة الى تلك الارادات للارادة العامة التي هي الدولة يقول روسو : (الارادة الثابتة لجميع اعضاء الدولة هي الارادة العامة وبواسطتها يكونون مواطنين أحررا فعندما يقترح شخص قانونا في جمعية الشعب فان ما يطلبه بالضبط من الاعضاء ليس رأيهم الشخصي وانما ما اذا كان القانون يطابق الارادة العامة ).
في العالم العربي لم نمر بهذه المخاضات كلها لذا ظلت الارادة العامة مرهونة بيد أفرادلا يمتلكون معظم الاحيان الشرعية التي تؤهلهم لاتخاذ القرارات نيابة عن غيرهم مما يجعلهم هم وليس المواطنين فحسب في حالة من التوتر والقلق السياسي الدائم على المستقبل فحين لا يكون هناك مجتمع مدني وقوانين مطبقة وغير موضوعة للزينة على الرفوف يسود التوتر علاقات الجميع وتكون قوات الجيش والشرطة (وهي بامرة أشخاص غير منتخبين ) صاحبة القول الفصل في كافة المشاكل لذا تعيش الانظمة غير الديمقراطية حالة هروب دائمة الى الامام لانها تعد بالكثير ولا تنجز الا القليل وتجد دوما من يشكك بشرعيتها وهذا ما جعل بعض المفكرين والباحثين العرب يقترحون حل مشكلة الشرعية السياسية كمدخل للانفراج العام .
ومن هؤلاء من وضع بحثا عن الشرعية الدستورية للتشجيع على تبنيها وقد أطلق على ذلك البحث الذي تحول الى كتيب نظري عن الشرعية السياسية اسم (نحو عقد اجتماعي عربي جديد )واكتشف الباحث بعد مقارنة عدة تجارب ان هذا المنحى غير مرحب به غالبا لاسباب شرحها بقوله) تفتقت اللحظة الدستورية العربية في جو ملتبس تداخلت فيه مطالبات الاشتراك بالسلطة بعناصر اخرى اقل ايجابية جعلت من الفكرة الدستورية ومن الايديولوجيا الليبرالية التي كانت تحيط بها وتؤمن لها المبررات امرا لا يندفع العربي تحت رايته بحماسة غير مشروطة)-17- .
واذا كان المجتمع المدني العربي سينتظر تواجد أنظمة شرعية قبل ان يبدأ عمله فقد لا نصل ابدا الى دولة المواطنة لذا لا بأس من تخفيف سقف الطموحات على هذا الصعيد ولابد من عبور هذا الطريق بنظريات أكثر رحابة كنظرية (تالكوت بارسونز)الذي يضفي الشرعية على كافة انواع السلطات فمجرد امساك فئة ما بمفاتيح القوة والمال ومؤسسات الامر والنهي في اي مجتمع يضفي عليها شرعية خاصة تزيد وتنقص حسب نجاحها في تسيير شؤن الناس .
ان السلطة في التحليل( البارسونزي) مثل العملات الورقية التي ترتفع قيمتها بالسوق استنادا الى قوة غطائها الذهبي وتهبط كلما نقص هذا الغطاء ونقطة الالتقاء بين( دي جوفنال وروسو وبارسونز) اعتبار الاخير ان الغطاء الذهبي للشرعية السياسية هو ثقة الناس ويشبه هذا المفكر الذي قد تفيدنا افكاره اكثر من افكار غيره في هذه المرحلة الثقة بين الحاكم والمحكوم بمبداالائتمان المصرفي والاعتمادات البنكية فصاحب الائتمان لا يدفع المبلغ كاملا انما يعد بدفعه حين الطلب وهذا بالضبط ما تفعله الحكومات بثقة الناس اذ تحتفظ بها كرصيد ثمين لا تسحب منه الا في حالة الطوارئ.
ويشدد هذا المفكر الذي يعرف حجم اغراء السلطة شرقا وغربا وقابلية من يتسلمها للانحراف على آليات الرقابةالحكومية اكثر من تشديده على آليات الحكم فقابلية الانحراف السياسي موجودة عند الجميع لذا تصبح الرقابة على الدولة وليس رقابة الدولة الاساس المقبول لبناء الدولة المدنية المعاصرة .
وهذا الموقف ليس جديدا تماما على الفكر السياسي الحديث فمنذ القرن السابع عشر قال( جان باتيست ديلولم )مؤلف كتاب (دستور انجلترا)ان النظام الانجليزي يضمن المواطنين من كل تجاوز فالشعب يعطي ثقته ليس للذين يحكمون بل للذين يراقبون الحكام .
ان المفيد عربيا من نظرية بارسونز هو الحل المؤقت لمشكلة الشرعية فدون هذه الخطوة يصعب الانتقال الى ما بعدها لأن شرعية الانتخابات وصناديق الاقتراع ليست حلا سحريا يجهز بقرار وهي لا تتحقق بين ليلة وضحاهاوالذين يتوقعون ديمقراطية عربية كالديمقراطية البريطانية العريقة التي اصدرت أول قانون مدني لحقوق المواطنة (الماجنا كارتا) منذالقرن الثاني عشرعليهم ان يخففوا من طموحاتهم قليلا فالديمقراطية تربية ومران وتدرج وخبرات متراكمة باستمرار وليست دواء سريعا له مفعول السحر وأهم ما يضمن التصاعد البياني لتك التجربة اكتمال مؤسسات المجتمع المدني فالدولة العصرية والمجتمع المدني يحضران معا او يغيبان معا ولا وجود لاحدهما دون الاخر اما كيف تكون العلاقة بينهما ؟ وكيف يمكن تطويرها ؟ فهذا ما يحتاج للبحث العميق الذي يمكن ان يثري نظريا النظام السياسي العربي المتآكل الذي يحتاج الى ترميم كامل .
أحد الذين تفرغوا لهذا الموضوع وتخصصوا فيه خرج بنتائج تكاد تكون من الأسس المتفق عليها لتلك العلاقة الملتبسة بين الحكومات والمواطنين : (ان بناء المجتمع المدني لا يكمن في رفض الدولة او في استمرارية معارضتها بل في تبلور القوى والتكوينات الاجتماعية وممارستها لانشطتها بعيدا عن تدخل وسيطرة الدولة وهذا يتطلب توفر اطر قانونية لتقيد تدخل السلطة في جميع اوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي من ناحية واقامة علاقات متوازنة بين الدولة والمجتمع بوسائل سلمية منطقية )-18- .
ان أرضية الأطر القانونية متوفرة بنسب متفاوتة في معظم أرجاء العالم العربي لكن الذي ينقص هو النية في تطبيق تلك القوانين والفصل العملي الحاسم بين السلطات وليس الفصل النظري (الكاريكاتوري)الذي تطبقه بعض الدول لادعاء العصرية وفي كل ازمة صغرت او كبرت يتبين الناس ان هناك سلطة واحدة وحيدة بيد الاجهزة التي تتلقى أوامرها من شخص واحد او عدة أشخاص يحيطون به و يحكمون دون أية مساءلة قانونية فالحاكم في معظم ارجاء العالم العربي لا يقدم حسابا لأحد بالرغم من وجود مؤسسات تشريعية ودستورية صورية تتبدل قوانينها دوريا لتلائم مقاس القائد الذي يتسنم السلطة التنفيذية في كل مرحلة .
واذا زعمنا ان الدولة المدنية غير موجودة في تراثنا الفكري فنحن لا نستطيع الزعم ان حس العدالة كان غائبا فعبارة (العدل اساس الملك )لم تأت من فراغ وهذا الامام ابن تيميه منذ القرون الوسطى يؤرقه هاجس العدل وغياب القوانين فيقول مستبعدا العنصر الديني من القضية: ان الله ينصر الدولة العادلة وان كانت كافرة .
ولاشك ان سيادة القانون هي التي تحددالعلاقة بين الدولة والمجتمع وتدفعها اما باتجاه الربط والتعاون او القطيعة وان سادت الثانية ولم يكن هناك قانون ينظم علاقة الدولة بالمجتمع اختفت كافة المفاهيم المدنية وعاد جوهر دول الاستبداد ليحكم في غياب القوانين لذا يربط ( توكفيل) بين القطيعة وبين التوحش جاعلا من( مبدأ الربط ) القانون الاساسي لضمان التمدن :(من بين القوانين التي تحكم المجتمعات البشرية هناك قانون يبدو أكثر دقة ووضوحا من سائر القوانين ،اذا كان للناس ان يظلوا متمدنين أو ان يصبحوا كذلك ينبغي ان ينمو مبدأ الربط بينهم ويتقدم بالنسبة نفسها لأزدياد المساواة في الاوصاع الاجتماعية ) وقد علق ( صموئيل هنتجنتون )على هذا النص لتوكفيل بقوله:ان فقدان الاستقرار السياسي في اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية ناشئ بالتحديد عن الاخفاق في توفر هذا الشرط فالمساواة في المشاركة السياسية تنمو بسرعة اكبر بكثير حين يتحقق مبدأ الربط بين الناس -19- .
ومع الربط والثقة يبرز العنصر الأهم في المجتمع المدني وهو التسامح وبكل أسف فان رصيدنا على هذه الجبهة قليل ايضا فلا مناهجنا تعلم التسامح ولا أسلوب حياتنا يشجع على تلك الفضيلة الغائبة وثالثة الأثافي ان ذلك المصطلح ليس من تربتنا فالجذر اللغوي للتسامح كما يرد في المعاجم يحيل الى السماحة والجود او الى التساهل وقد استخدمه رواد النهضة العربية بالمعنى الثاني لكنك حين تنظر في دائرة المعارف البريطانية او قاموس( لاروس ) الفرنسي تجد معانيه هناك تنصب على حرية العقل وقبول مبدأ الاختلاف والعمل به ونبذ تسلط الرأي الواحد مما يوحي ان التدرب على التعايش وفق ذلك المفهوم الانساني جزء من التدريب السلوكي في مجتمع المواطنة المدني الذي تنهار اسسه كاملة ان غابت فضيلة التسامح والتسامي فوق الخلافات التي لا بد منها في كل تجمع بشري .
ان التسامح آية من أبرز آيات التفتح العقلي والدولة كما نص على ذلك معظم الذين درسوها هي مفهوم عقلاني بالدرجة الاولى وعند هذا المفترق تتوضح نقطة هامة غالبا مانهملها وهي ان غياب معظم هذه المفاهيم المدنية عن حياتنا السياسية مرتبطة بغياب العقل النقدي الذي لم نسمح له ان يأخذ دوره لافي نقد النص ولا في نقد الآيديولوجيا ولا في نقد الأشخاص ولا في نقد القبائل الجديدة – الاحزاب- فكانت النتيجة ان كل شئ عندنا على صعيد التقدم المدني يسير ببطء ويتعثر أكثر مما يتقدم
ولا يتحرك نحو أهداف محددة الا بضغوط دولية تعكس أزمة العالم اكثر مما تعبر عن الحراك الصحي في المجتمع العربي وأكبر الأمثلة على ذلك الأولوية التي أعطيت لدور المرأة العربية و اصلاح مناهج التعليم في الدول المحافظة في الأشهر الأخيرة فالدور الدولي في هذه النقلة أوضح من ان يتم انكاره أو تغليب الحراك الاجتماعي الداخلي عليه لأن الاحداث أثبتت اكثر من مرة سلبية المواطن العربي المفتقر للوعي السياسي وللتنظيمات والجمعيات ذات البرامج الحضرية التي تقود عمليات التغيير في المجتمعات الاخرى .
والمفارقة المحزنة في اقتراب العالم العربي اقترابا ايجابيا من هذه المفاهيم بفعل قوانين التطور الطبيعي والضغوط الخارجية اننا بتنا ندرك شروط قيام الدولة الوطنية في زمن تتعرض فيه سلطة الدول للانتقاص والتهميش من جراء نفوذ الشركات العابرة للقارات التي تسلب الدول بعض سيطرتها على الارض ومن جراء شيوع وشعبية مفاهيم العولمة التي تخلق بالتدريج شكلا من أشكال السلطة الكونية والتجمعات ذات الهوية الحضارية المتقاربة وتخلخل الخصوصيات المستقرة لمجتمع المواطنة التقليدي الذي لا يملك أفراده رفاهية الحفاظ على ما ألفوه وتعارفوا عليه فالمؤشرات رغم كل أشكال الصراع الدموي تشير باتجاه مرحلة المواطن الكوني الذي حلم به ( فولتير) في نقد مبكر لسلبيات الدولة الوطنية:(الدولة لا يمكن ان تكسب الا اذا خسرت الدولة الاخرى والبلد لا ينتصر الا على حساب شقاء بلد آخرفليس لاحد ان يتمنى العظمة لبلده الا اذا تمنى الشر لجيرانه اما من يريد وطنه لا اصغر ولا اكبر ولا افقر ولا اغنى فليس له الا ان يكون مواطن الكون ) .
وأمام هذه المرحلة المتقدمة والمعقدة من التطور التاريخي هل يكفي ان يقال ان الاهتمام بالمرأة وتغليب العقل النقدي وتوطين التكنولوجيا واعطاء هامش أوسع للمجتمع المدني خطوات كافية لاستدراك ما فات العرب في تاريخهم السياسي الحديث ....؟
الأرجح ان الأمور ليست بهذا التبسيط فمجتمع المواطنة ليس عموميات ولافتات ونظريات وشعارات فحسب لكنه تفاصيل مضنية وبرامج عمل وتنظيمات دقيقة وتظاهرات لا تتوقف من أجل الحقوق وترسيخ دولة القانون واسلوب تربية مستدامة وحثيثة تنقض القديم وتؤسس على أنقاضه شكلا جديدا من العلاقات الأفقية باتجاه الأخر والعمودية للحفر في الذات المنقسمة والمحبطة و الباحثة عن الخلاص الفردي و الجماعي .
الحل كما ورد على لسان مفكر عربي معاصر معني بمجتمع المواطنة والأنسنة ومتخصص بعصر الأنوار :
(تفكيك العصبيات القديمة وايجاد عصبية جديدة محلها اي العصبية العامة للدولة الحديثة التي تتجاوز القبائل والطوائف والعشائر وتتخذ موقفا متساويا من جميع المواطنين وهذا يؤدي بدوره الى تشكيل الفرد- المواطن واحلاله محل الانسان القديم الذي لا وجود له الا من خلال الجماعة بمعنى ان لا وجود له كانسان مستقل او كفرد حر او كمواطن ينتسب الى دولة حديثة تحميه وتحتضنه وتشعره انه مهم بغض النظر عن اصله وفصله وهذه عملية طويلة ومعقدة لانها ذات مرحلتين مرحلة سلبية ومرحلة ايجابية وقد دخلنا بالكاد في المرحلة السلبية (مرحلة التفكيك ) فما بالك بالمرحلة الايجابية أي مرحلة البناء وايجاد البديل )-20- .
وليس المطلوب في مرحلة البحث عن البدائل اعادة اختراع البارود فالفكر الكوني والتجربة الانسانية استقرا على دولة المواطنة والقانون التي أثبتت نجاحها حتى في دولة اسلامية متعددة الاعراق والطوائف مثل ماليزيا فالمشكلة في العالم العربي ليست البحث عن بديل بل القدرة على التفعيل فنحن في مجتمعات سلبية متواكلة فقد انسانها بعد قرون طويلة من الاستبداد الثقة بنفسه وبقدرته على الفعل والتغيير واستسلم لقدرية محبطة استعصت حتى الان على كل محاولات التحريك وكل شئ يبدأ كما علمنا التاريخ من التربية ثم يثبت ويترسخ بالتراكم ومن خلال دينامية التفاعل بين الانسان ومحيطه وثقافته الكونية في عصر المعلومات يتفتح الوعي السياسي باستمرار على آفاق جديدة يزداد نفعها كلما تم تقاسمها بين اوسع الشرائح الاجتماعية فالنصيحة الذهبية ل (غرامشي ) رائد تنظيرات المجتمع المدني الحديث ان يتم كسر نخبوية المعرفة وهذا العصر بطرق معلوماته السريعة خير من يساعد على تفكيك نخبوية المعرفة التقليدية لانتاج معرفة جديدة يتلاقى عند حدودها ومفاصلها الفاعلة أفضل ما في الثقافة الشعبية بأحدث ما في الثقافة العالمية من نظم وتيارات ونظريات والغرض من كسر نخبوية المعرفة نزع احتكار المثقفين لها وافساح المجال لوعي سياسي متطور تشارك فيه نظريا جميع الفئات :(يستلزم تشكيل وعي جماعي توحيد ي مبادرات وشروط متعددة فنشر نمط متجانس من الفكر والفعل انطلاقا من قيادة متجانسة هو الشرط الاساسي لذلك لكنه ليس الشرط الوحيد فمن الاخطاء الشائعة الاعتقاد بان كل فئة اجتماعية تصوغ وعيها الذاتي وثقافتها الذاتية بطرق متماثلة وبنفس المناهج اي بمناهج المثقفين المحترفين )-21- .
ان الاختلاف بين المفكرين أصحاب الوزن في هذا المضمار ليس حول كسر نخبوية المعرفة بل حول حجم التسييس المطلوب فبعضهم يعتقد ان كثافة التسييس مضرة بالمجتمع المدني وان مشكلة العالم العربي في كثافة التسييس ووفرته لا في قلته وليس سرا ان معظم الجهود الغربية التي تبذل لانشاء الجمعيات الأهلية وتطوير مؤسسات المجتمع المدني انما ترمي حسب خططهم الى تقليل كثافة التسييس في العالم العربي فالبنك الدولي لا ينصح في الاقتصاد والمال فحسب ولكن في السياسة ونصائحة لها لهجة شبه الزامية ومن تلك النصائح التي تكررها الادارات الغربية ايضا وليست خافية على سياسيي العالم العربي ومفكريه ان التسييس المكثف والعشوائي يفرض على صانع القرارالسياسي ضغوطا غير مستحبة ويدفعه الى اتخاذ قرارات متسرعة استجابة للرغبات الشعبية العفوية وغير المدروسة لذا لم يكن غريبا ان تظهر في السنوات الاخيرة كما لاحظ باحث عربي (أزمة من السياسات والاجراءات والنصائح المباشرة وغير المباشرة لحكومات عربية بهدف خفض درجة هذا التسييس ) -22- .
وتهمل هذه النصائح الاقرار بان السياسة كما تتم ممارستها في الغرب الليبرالي تكاد تكون غائبة تماما في العالم العربي حيث لا مؤسسات مجتمع مدني ولا اعلام حر وهكذا ينصب اهتمام الجماهير المتحمسة من كافة أشكال العمل السياسي - قبل العراق- على الصراع العربي - الصهيوني .
ولا أظن ات تلك الجهود الدولية لتقليل نسبة التسييس في العالم العربي سيحالفها النجاح قبل الوصول الى حلول واضحة ونهائية أو شبه نهائية لذلك الصراع فالعرب لا يمكن لن ينزاح عنهم شبح تهديد الوجود طالما ظل المجتمع الصهيوني محكوما بقيادات ليست بعيدة عن تفكير( مائير كاهانا) الذي يقول عن جيرانه العرب بالحرف الواحد :(العرب سرطان في وسطنا لكن ليس هناك رجل واحد في اسرائيل مستعد للوقوف وقول ذلك...اني اقول لكم ما يفكر فيه كل واحد منكم في قرارة نفسه هناك حل واحد فقط ولا حل سواه طرد العرب ،نعم طردهم ولا تسألوني كيف دعوني اصبح وزير دفاع لمدة شهرين ولن يكون لديكم صرصار واحد هنا ،أعدكم بأرض اسرائيل نظيفة ...)- 23- .
مع وجود عدو خارجي من هذا النوع يصبح تخفيف التسييس في المجتمعات العربية ضربا للمشاعر الوطنية ولاستراتيجيات الدول المعلنة ثم ان مقولة (التسييس المكثف يعيق حركة المجتمع المدني )لا تبدو دقيقة في ظل معرفة من يطلقونها ان مؤسسات ذاك المجتمع غائبة تماما أو تكاد في العالم العربي .
في حالة المجتمع العربي ومع محاولات ممارسة السياسة بمفهومها الليبرالي داخل كل دولة وليس في الصراع مع العدوالخارجي فقط يصبح تكثيف التسييس - على عكس ما تنص النصائح - من صالح مؤسسات المجتمع المدني التي تحتاج الى توسيع اهتماماتها ورقعة نشاطاتها بين مجتمعات محرومة منذ زمن طويل من ممارسة حقوقها الطبيعية والاساسية بشكل عام وعلى وجه التحديد حقها في المشاركة بالقرار السياسي مع كل ما يتبع ذلك من تقاسم للسلطة والمال والنفوذ بين جميع أفراد الشعب .

مصادر وهومش
---------------
1- مالك بن نبي - من أجل التغيير – ص 64 دار الفكر المعاصر - بيروت
2- فهمي جدعان – الماضي في الحاضر - ص500 المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عمان
3- محمد جابر الانصاري - تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية – ص 82 مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت
4- جان جاك روسو - أصل التفاوت بين الناس – ص132 موفم للنشر –الجزائر
5- محمد عابد الجابري - الخطاب العربي المعاصر – ص68 مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت والرأي لبطرس البستاني نقله الجابري عن أديب نصور
6- الأمة والدولة والاندماج في الوطن العربي – مجموعة مؤلفين – ص89 مركز دراسات الوحدة العربية بالاشتراك مع معهد الشؤن الدولية بايطاليااما صاحب الرأي فهو تشارلزباتروورثاستاذ الفكر السياسي في جامعة ميرلاند الاميركية
7- برنارد لويس – مجلة فورين أفيرز الاميركية عدد فبراير - شباط1991
8- دانيال برومبرغ – التعدد وتحديات الاختلاف ...المجتمعات المنقسمة وكيف تستقر ؟ص 262 مكتبة الساقي – لندن والقصة من مرويات فؤاد عجمي
9- عبد الرحمن الكواكبي - طبائع الاستبداد- ص57 موفم للنشر الجزائر
10- روبرت دال - عن الديمقراطية – ص135 منشورات جامعة يل
11 -الامة والدولة والاندماج في الوطن العربي - مجموعة مؤلفين – ص81
مركز دراسات الوحدة العربية بالاشتراك مع معهد الشؤن الدولية بايطاليا
والرأي لدي جوفنال الذي استشهد به عبد الباقي الهرماسي في بحثه عن
(المدخل الثقافي الاجتماعي لدراسة الدولة )
12-عبد الكريم غلاب- تجديد الدولة وتغيير السياسة – مطبعة الرسالة –الرباط
13-الوطنية كائن هلامي - مجموعة مؤلفين – الرأي لمحمد عمارة ص35 -
الناشر مجلة المعرفة السعودية –الرياض
14- محمد عابد الجابري – الخطاب العربي المعاصر – ص66 والجابري ينتقد
في هذا الفصل رأي ياسين الحافظ مؤلف (الهزيمة والآيديولوجيا المهزومة)
15 - سيرج لاتوش – تغريب العالم ص34- دار لغات العالم الثالث – القاهرة
16- سمير أمين –في مواجهة أزمة عصرنا – ص198 طبعة مشتركة سينا
للنشر ودار الانتشار العربي –بيروت والقاهرة
17- غسان سلامة- نحو عقد عربي جديد- ص58 مركز دراسات الوحدة
العربية – بيروت
18- كامران الصالحي –حقوق الانسان والمجتمع المدني بين النظرية والتطبيق-
ص 208 مؤسسة الرافد – لندن
19- صموئيل هنتنجتون –النظام السياسي لمجتنعات متغيرة – ص 11 دار
الساقي لندن
20- محمد اركون –الاسلام ،اوروبا ،الغرب- ص 206 دار الساقي – لندن
21- غرامشي وقضايا المجتمع المدني – مجموعة باحثين – ص 205 مركز
البحوث العربية – القاهرة
22- سيد ياسين – الزمن العربي والمستقبل العالمي – ص360 دار المستقبل
العربي - القاهرة والرأي حول ضرر كثافة التسييس لجميل مطر
23- فريد هاليداي – الاسلام والغرب :خرافة المواجهة - ص 194












محيي الدين اللاذقاني
الجمعة 24 أكتوبر 2008