فالعلاقات أثناء الثورة كانت مقطوعة، بل لم تكن هناك أي صيغ من صيغ التواصل، وكان ذلك بفعل التخوف من توجهات «جبهة النصرة» وتحالفاتها مع تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي بات يعرف لاحقا باسم «داعش»؛ إلى جانب مبايعتها للقاعدة في عهد أيمن الظواهري. كما أن ماضي محمد الجولاني وهو الاسم المستعار الذي كان الرئيس أحمد الشرع قد تبناه في مرحلة السرية في العراق يثير الكثير من التساؤلات.
وقبل الثورة لم تكن هناك أي معرفة بين القوى السياسية السورية التقليدية وقيادات جبهة النصرة التي كانت بصورة عامة من الشباب. هذا رغم وجود دراسات وأبحاث تناولت موضوع الجهاديين السوريين في العراق، وموضوع السلفية الجهادية بصورة عامة التي كانت تتميز عن السلفية العامة بنزعتها العنفية، ولجوئها إلى استخدام السلاح.
ومع تأسيس المجلس الوطني السوري بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر عام 2012، كان التوجه العام ضمن المجلس هو الالتزام بالمشروع الوطني السوري الذي يدعو إلى الدولة المدنية التي تطمئن سائر مكوناتها عبر احترام الخصوصيات والحقوق، والمشاركة العادلة في الإدارة والموارد. دولة تقوم على فصل واضح بين السلطات، وتعتمد النظام الديمقراطي لاختيار ممثلي الشعب في السلطة التشريعية التي تكلف السلطة التنفيذية، وفق قواعد متفق عليها، بمهامها. سلطة تخضع للمساءلة والمحاسبة أمام السلطة التشريعية؛ هذا إلى جانب وجود سلطة قضائية مستقلة تتدخل لحل الإشكالات وضبط الخلافات في حال بروزها بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وبطبيعة الحال كنا نرى أن هذا المشروع يتعارض مع مشروع جبهة النصرة والفصائل الأخرى المتشددة التي لم تكن تتقبّل فكرة الدولة المدنية والديمقراطية بصورة عامة، وتميل إلى اعتماد الشريعة الإسلامية لتكون هي المصدر الوحيد للدستور السوري والقوانين المنبثقة عنه، وقد تمثل ذلك في وجود شرعي لكل فصيل من تلك الفصائل كان هو الآمر الناهي في المسائل القضائية. ولكننا مع ذلك كنا نرى ضرورة الاستمرار في الحوارات مع فصائل إسلامية متعددة، أقل تشدداً، بغية المحافظة على وحدة الموقف بين السوريين المناهضين لسلطة آل الأسد بكل توجهاتهم.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى المقارنات التي كنا نجريها أثناء اجتماعاتنا سواء في المكتب التنفيذي أم ضمن الأمانة العامة بين داعش، وجبهة النصرة في ذلك الحين. فقد كنا نرى، بناء على المعلومات التي كانت متوفرة لدينا، بأن قيادات وكوادر داعش معظمها من غير السوريين، إلى جانب المقاتلين في صفوف التنظيم المعني، هذا فضلا عن الاختراقات الأمنية للتنظيم من قبل أجهزة الدول، وعملياته الإرهابية في دول أوروبية مختلفة، وفي العراق خاصة في الموصل وضد الإيزيديين في سنجار، إلى جانب العمليات الإرهابية في الداخل السوري التي شملت السوريين وغير السوريين.
من جهة أخرى كنا نتوقف أمام حقيقة أن داعش لم يدخل معركة حقيقية ضد السلطة أو ضد القوات الإيرانية والميليشيات المرتبطة معها، هذا بينما كانت غالبية قيادات جبهة النصرة بالإضافة إلى مقاتليها من السوريين. هذا إلى جانب دخول الجبهة في معارك جدية طاحنة ضد قوات سلطة آل الأسد والميليشيات الداعمة لها. كما كانت هناك أنباء عن محاولات تبذل لإنجاز عملية فك الارتباط بينها وبين القاعدة.
وحينما قررت الولايات المتحدة ادراج اسم جبهة النصرة على لوائح الإرهاب إلى جانب داعش، تمّ إبلاغنا في المجلس بذلك. فحاولنا قدر المستطاع إقناع الأمريكان بضرورة التمهّل بخصوص إدراج الجبهة في اللوائح المشار إليها، وذلك بناء على المعطيات المذكورة، ولكن يبدو أنه كانت لهم حساباتهم، وتم وضع الجبهة على قوائم الحركات الإرهابية من قبل وزارة الخارجية الأمريكية في أواخر عام 2012، ثم اعتمد مجلس الأمن من جانبه في ربيع عام 2013 هذا التصنيف.
هذا رغم أن الولايات المتحدة حاربت في ما بعد داعش وتركت جبهة النصرة، بل تواصلت معها لاحقاّ عبر طرق شتى على مدار سنوات. ثم كانت عملية «ردع العدوان» التي أسفرت عن اسقاط سلطة آل الأسد، وهروب بشار بما خف وزنه وغلا ثمنه إلى روسيا؛ ووصول الشرع إلى قصر الشعب قائداً لإدارة العمليات العسكرية، ثم رئيساً مؤقتا للبلاد بيده الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ومنذ دخوله إلى دمشق ليقود الإدارة الجديدة، التقى الشرع مرات عدة مع مسؤولين أمريكان من المدنيين والعسكريين، وإن بصورة غير رسمية، وهذا فحواه تعليق الحكم الخاص بالإرهاب الذي كان قد أدين به هو وتنظيمه من جانب الولايات المتحدة.
أما بالنسبة للقاءات مع القوى الشخصيات السياسية السورية فإنه حتى يومنا هذا، وفق المعلومات المتوفرة حتى الآن، لم يتم أي لقاء بينها وبين الشرع بصورة رسمية علنية؛ وهذا الأمر في حد ذاته حال دون حصول معرفة متبادلة بينه وبين القوى والشخصيات المعنية عن قرب وبصورة مباشرة. والمعني بذلك معرفة كل طرف بما يفكر فيه، ويصبو إليه، ويعمل عليه الطرف الآخر؛ هذا رغم أهمية ذلك من ناحية إسهامه في عملية تشكيل أرضية صلبة من التفاهمات التي تساعد على العمل المشترك، وتعزز الوحدة الوطنية السورية على قاعدة احترام التنوع والآخر المختلف.
ومما لا شك فيه هو أن تحقق مثل هذا الأمر سيكون موضع تقدير المنتقدين من موقع الحريص على تضحيات وتطلعات السوريين، وعلى ضمان مستقبل أفضل للشباب السوري والأجيال السورية المقبلة. كما أن مثل هذه الخطوة الضرورية ستقطع الطريق أمام من يريد الاصطياد في الماء العكر، ويحاول استغلال هواجس الناس ومشاعرهم وعواطفهم بغية الوصول إلى أهداف انتهازية، أو حزبية، أو حتى إقليمية تتجاوز الحدود الوطنية السورية.
فمن جهة الأهمية، الموضوع هو موضوع مصير السوريين بكل انتماءاتهم المجتمعية وتوجهاتهم السياسية ومصير وطنهم.
ومن جهة الغموض لا يكفي أن يُقال بأنه قد تم تكليف الرئيس بكل الملفات، ليعلن هو من ناحيته بأنه سيحولها إلى لجان بعد استشارة الخبراء القانونيين الذين لا يعرف الناس من هم، وما هي حدود كفاءاتهم؛ وسوريا كما نعلم جميعا زاخرة بأصحاب الاختصاصات والمؤهلات والخبرات القانونية القديرة لا على المستوى الوطني فحسب، بل على المستوى الدولي أيضاً.
كما أن الكثير من القرارات التي تتخذ بخصوص التعيينات، لا سيما ضمن إطار نقابات المحامين، تثير تساؤلات واستغراب السوريين الذين كانوا معارضين لسلطة آل الأسد، ودفعوا أثماناً باهظة لقاء ذلك.
هذه الملاحظات لا تقلل من شأن التحديات التي تواجهها الإدارة الجديدة التي أسقطت سلطة آل الأسد المستبدة الفاسدة المفسدة، وهذا بحد ذاته إنجاز تاريخي حقيقي يُسجل لها. كما أنها (الملاحظات المذكورة) لا تتنكّر للجهود الكبيرة التي يبذلها الرئيس أحمد الشرع نفسه في مختلف الميادين، ولكنها تندرج ضمن إطار ضرورة الاستماع إلى آراء المخلصين من السوريين الذين يريدون كل الخير لشعبهم ووطنهم. هؤلاء الذين لا يتطلعون إلى أي منصب، ولا يزاحمون الآخرين على أي موقع. وإنما يعز عليهم أن يختلف السوريون فيما بينهم حول الامتيازات والأدوار والمظلوميات، وينسون أن سلطة آل الأسد كانت حاقدة عليهم جميعا، وتعاملت مع الكل بوصفهم أعداء وخونة لمجرد مطالبتهم بالحرية والكرامة والعدالة. كلمات ثلاث تحولت إلى أيقونات كلفت السوريين مئات الآلاف من الشهداء؛ وما يفوقهم عدداً من الجرحى والمعتقلين والمغيّبين، وملايين المهجرين نازحين ولاجئين.
ولكن رغم كل الجروح والعذابات، وطول المعاناة، تحمّل الشعب السوري بكل انتماءاته وتوجهاته وصبر، وظل على إيمانه بالمبادئ التي ثار من أجلها إلى إن وصل النصر المبين بفضل الله وشجاعة شبابه. لذلك يستحق هذا الشعب العظيم كل التقدير والاعتزاز والوفاء، وهذا كله لن يتحقق من دون احترام وضمان الأهداف التي ثار من أجلها.
-----------
القدس العربي
*كاتب وأكاديمي سوري
ترجمات ودراسات
الجهات الأربع
|
عيون المقالات
|
الحوار الوطني الحقيقي بين السوريين هو المطلوبمن القواسم المشتركة بين القوى والشخصيات التي كانت معارضة لسلطة آل الأسد يتمثل في قلة معلوماتها، إن لم نقل انعدامها حول الرئيس أحمد الشرع، وأركان حكومته، والمسؤولين سواء من المدنيين أم العسكريين في إدارته، وبنية وتوجهات هيئة تحرير الشام. وذلك بفعل علامات الاستفهام التي كانت حول جبهة النصرة (أصبحت لاحقا جبهة نصرة أهل الشام أو جبهة فتح الشام، ومن ثم هيئة تحرير الشام التي أعلنت في ما بعد فك العلاقة بينها وبين القاعدة) من جهة علاقاتها مع «داعش»، و«القاعدة»، وخطها الإسلامي المتشدد، ووضع اسمها من قبل الولايات المتحدة ومجلس الأمن على لوائح الإرهاب.عبد الباسط سيدا
الخميس 13 فبراير 2025
إقرأ المزيد :
سورية من التحرير إلى تأسيس الحرّية - 13/02/2025لماذا الرئيس الشرع هو رئيس ضرورة للمرحلة ؟ - 13/02/2025الشرع والموعد السعودي - 13/02/2025في خلفيّة علاقات دمشق والرياض - 13/02/2025كيف تدير الإدارة السورية الجديدة علاقاتها الدولية؟ - 08/02/2025 |
|