العودة إلى الذات
فلنقرأ ما كتبه السادات، بنفسه، في مذكراته “البحث عن الذات”، مما قاله لأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، في 24 تشرين الأول 1972: “نحرك الموقف بما معنّا، بمعنى نولع حريقة… عندئذ الكلام يكون له معناه الكامل وله قيمة. لازم نحرك الروس علشان يدوا، ولازم نحرك الأمريكان علشان يحلوا… المعركة تنتهي على أي وضع… ولن يكون الوضع أسوأ من ذلك أبدا@”.هذه هي خطة الحرب ذات الأسماء الخمسة من وجهة السادات، الاستراتيجية: نولع حريقة، ويحصل اللي يحصل.
ولنقرأ، للسادات، في “البحث عن الذات”، أيضاً: “في أوائل يناير سنة 1973 كان الجنرال أحمد إسماعيل قد وضع الهيكل الأساسي للخطة وقد قام بشيء لم يحدث في العسكرية من قبل إذ طلب من كل ضابط على امتداد القناة أن يتسلق الساتر الترابي الذي أصبح 20 متراً- وينظر أمامه على امتداد 10 كيلومترات، داخل سيناء وأن يحدد على الأرض خطته التي يستطيع أن ينفذها بعد العبور. ما أعطى للضباط ثقة في أنفسهم وجعلهم يشاركون مشاركة فعالة ليس فقط في العمل بل وفي التخطيط أيضاً”.
التخطيط، إذاً، كما عرفه كل ضابط على امتداد القناة، كان العبور، ثم 10 كلم، داخل سيناء، فقط، هذا ما تدرب عليه الجنود، والضباط، وخططت له القيادة العليا للمعركة.
ونقرأ للسادات، أيضاً التالي: “التقى حافظ إسماعيل بكسينجر في باريس (الصحيح في واشنطن) في فبراير 1973… لم يكن من الممكن لأمريكا أو لغيرها من القوى التحرك ما لم نتحرك نحن عسكريا… في إبريل جاء الرئيس حافظ الأسد إلى مصر في زيارة سرية.. قلت له: “لقد قررت أن أدخل المعركة هذا العام وأعطيت تعليماتي بذلك للجنرال أحمد إسماعيل فما رأيك؟”، قال لي: “أنا معاك وداخل وبنجهز نفسنا”… يومي 28، 29 آب/ أغسطس 1973 اتفقنا على أن يكون يوم 6 تشرين الأول هو بدء المعركة. وبناء على هذا وضعت توجيهي الإستراتيجي فقلت للقوات المسلحة في أواخر فبراير سنة 1973 إن الذي يكسب الأربعة وعشرين سلعة الأولى سوف يكسب الحرب كلها… ولذلك فلا بد من أن يعتمد الأداء والخطة على عمل من شأنه أن نكسب الأربعة وعشرين ساعة الأولى”.
الخطة، إذاً، بحسب السادات: كسب الـ24 ساعة الأولى.
يمدنا الفريق عبد المنعم خليل بتفصيل أكثر: “في يوم 17 آذار/ مارس 1971 كان لنا لقاء مع الرئيس السادات، حضره الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية والفريق محمد صادق رئيس الأركان، وعدد من قادة تشكيلات الجيشين الثاني والثالث… والحقيقة أنه اتضح في هذا اللقاء فكر السادات عن معركة أكتوبر 1973، ويمكن استخلاص هذا الفكر مما قاله لنا في هذا الاجتماع حتى اتفاق السلام في كامب ديفيد كان له في هذا اللقاء خيوط!، قال السادات: معركتنا القادمة 10 في المئة عسكرية… ولو 10 سنتم فقط شرقاً والباقي سياسياً”.
ويعلق، خليل: “هذا ما تحقق في حرب رمضان 10 كيلومترات شرقاً والباقي سياسي”.
لننظر إلى تطور استراتيجية السادات للحرب، بحسب نموها التاريخي: حريقة واللي يحصل يحصل، تحرير 10 كيلومترات من سيناء، نكسب أول 24 ساعة، 10 في المئة عسكري… ولو 10 سنتم فقط شرقاً والباقي سياسي. هل نجد حتى ولو مضيقاً واحداً في تفكير السادات؛ وتخطيطه للحرب؟
لنترك مسألة المضائق، الآن، فسنعود لها، لاحقاً. ولنترك، أيضاً، التفكير في سؤال: ماذا يعني ما يطلبه القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية من قادتها، هل يحدد لهم مكانتهم، ودورهم، هل ستؤثر كلماته في تصوراتهم عن الحرب والأداء خلالها، وتوقع نتائجها؟ فسنحاول، لاحقاً، تصور إجابة “منطقية” عليه.
ما هو مطروح، الآن، سؤال: كيف اختار السادات قادة الجيش، وكيف يعاملهم؟
تولى السادات رئاسة الجمهورية العربية المتحدة (16 تشرين الأول 1970) ووزير دفاعها والقائد العام للقوات المسلحة هو الفريق أول محمد فوزي، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة هو الفريق محمد أحمد صادق، تولى المنصب بعد يومين من إقالة عبد الناصر للفريق أحمد إسماعيل؛ إثر واقعة الزعفرانة (غارة شنتها القوات الإسرائيلية في 9 أيلول/ سبتمبر 1969 على ساحل البحر الأحمر في مصر خلال حرب الاستنزاف، ويسميها الإعلام الإسرائيلي “حرب العشر ساعات”).
في 15 أيار 1971 أمر السادات بالقبض على فوزي، ووجهت له تهمة عصيان أوامر القائد الأعلى (عقوبتها بحسب القانون العسكري الإعدام)، وترأس محاكمته اللواء عبد القادر حسن، وقد دعم رئيس الأركان (صادق) كل إجراءات السادات في ذلك اليوم، فعينه وزيراً للحربية وقائداً عاماً، وعين اللواء سعد الدين الشاذلي رئيساً للأركان.
في تشرين الأول 1972 أقال السادات صادق من منصبه، إضافة إلى عدد من كبار القادة، كان أبرزهم الفريق عبد القادر حسن (رقي لرتبة الفريق ولموقع نائب وزير الحربية عقب نطقه بالحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على فوزي).
في الليلة التي اتخذ فيها السادات قرار إقالة صادق، والقادة الآخرين، استدعي الشاذلي، وكلفه القيام بمهمات الوزير لحين تعيين آخر مكانه، ثم أخبره أنه يفكر في أحمد إسماعيل، ويطلعنا الشاذلي على وقع ذلك عليه، وتصوره لأسباب الاختيار، وتقديره لمدى صوابه، وعواقبه. يبدأ بالإقالة: “في يوم 26 أكتوبر (1972) أبلغني الرئيس أنه قرر إقالة وزبر الحربية…وأنه طرد اللواء عبد القادر حسن واللواء على عبد الخبير… واللواءين محمود فهمي قائد البحرية، وعبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث، تدخلت أملاً بأن أنقذهما (فهمي وواصل، فشل في محاولته تجاه الأول، ونجح مع الثاني)”.
في موضع آخر من مذكراته يذكر الشاذلي أنه “كان هناك صراع خفي على السلطة بين الرئيس السادات وصادق”.
أما في ما يتعلق بأحمد إسماعيل فيسهب الشاذلي، ويروي رد فعله حين أخبره السادات أنه يفكر في تعيين أحمد إسماعيل وزيراً للحربية، إذ علق: “هناك تاريخ طويل من الخلافات بيني وبين أحمد إسماعيل يمتد إلى نحو 12 سنة مضت، وعلاقاتنا حتى الآن تتسم بالفتور والبرود وأعتقد أن التعاون بيننا سيكون صعباً”، فقال السادات: “أعلم تماماً بتاريخ هذا الخلاف وتفاصيله، ولكنني أؤكد لك أن علاقته بك ستكون أفضل بكثير من علاقتك بصادق”.
ما ذكره الشاذلي للسادات في تلك الليلة لم يكن خافياً على أحد من كبار القادة، الجميع كان يعلم أن العلاقة بين الشاذلي وإسماعيل سيئة، للغاية. ويفصل، الشاذلي، في شرح البداية: “بدأ أول خلاف بيننا عندما كنت أقود الفرقة العربية التي كانت ضمن قوات الأمم المتحدة في الكونغو عام 1960. كان العميد أحمد إسماعيل قد أرسلته مصر على رأس بعثة عسكرية لدراسة ما يمكن أن تقدمه للنهوض بالجيش الكونغولي… وقد تبادلنا الكلمات الخشنة حتى كدنا نشتبك بالأيدي”.
تاريخ قديم، لا بد أن الزمن محاه.
ينفي الشاذلي ذلك، ويذكر محطتين خلال الفترة من “الكلمات الخشنة وحتى التفكير في تعيين وزير وقائد عام جديد”. الأولى حين تم تعيين أحمد إسماعيل رئيساً للأركان في آذار 1969؛ عقب مصرع الفريق عبد المنعم رياض (9 مارس 1969)؛ إثر إصابته بشظايا قذيفة مدفع قوات إسرائيلي التي أطلقتها من مواقعها على الضفة الشرقية لقناة السويس، على الموقع الذي كان فيه على الخط الأمامي للجبهة، في الضفة الغربية.
ويذكر، الشاذلي، أنه فور علمه بقرار التعيين قدم استقالته: “وبعد ثلاثة أيام حضر إلى منزلي أشرف مروان زوج ابنه الرئيس وأخبرني بأن الرئيس عبد الناصر قد بعثه لكي يبلغني الرسالة التالية: “إن الرئيس جمال عبد الناصر يعتبر استقالتك كأنها نقد موجه إليه شخصياً حيث أنه هو الذي عين أحمد إسماعيل”، وعاد مروان بعد يومين، حاملاً رسالة ثانية: “الرئيس جمال عبد الناصر يؤكد لك أن أحمد إسماعيل لن يحتك بك”، ويعلق: “وقد وفى عبد الناصر بوعده؛ فخلال الأشهر الستة التي قضاها اللواء أحمد إسماعيل رئيساً للأركان لم تطأ قدماه قط قاعدة انشاص حيث كانت تتمركز القوات الخاصة التابعة لي، كما أنه لم يحاول قط أن يحتك بي… ومذ قام الرئيس عبد الناصر بعزل أحمد إسماعيل في سبتمبر 1969، فإني لم أره قط”.
وقبل أن نغادر هذه المحطة، علينا أن نحفظ في ذاكرتنا هذا الاسم: أشرف مروان، وهذه صفته: زوج ابنه الرئيس (عبد الناصر)، وهذا التوقيت: آذار 1969، وهذا الدور: حامل رسائل مهمة في الشؤون العسكرية. ونتذكر، أيضاً أنه (أشرف مروان) أصبح، من يوم 15 أيار 1971، مديراً لمكتب الرئيس السادات، فسنحتاج تذكر هذه المعلومات في مرحلة تالية.
المحطة الثانية بدأت، كما يصفها الشاذلي، حين “قام الرئيس السادات باستدعائه (إسماعيل) من التقاعد في 15 أيار 1971 (كان من بين من ألقي القبض عليهم رئيس المخابرات أحمد كامل)، لكي يعينه رئيسا لهيئة المخابرات العامة”، فكان طبيعياً أن يلتقي “الغريمان”، في اجتماعات رسمية، ومناسبات اجتماعية، لكن العلاقة بينهما، بحسب وصف، الشاذلي “بقيت باردة”.
بادرة. هكذا كانت العلاقة بين القائد العام للقوات المسلحة المصرية ورئيس أركان حربها، قبل عام من الحرب (أقل من عام، للدقة، بعشرين يوماً).
أسباب اختيار السادات أحمد إسماعيل يفصلها الشاذلي (من وجهة نظرة بالطبع)، ويعددها: “كان أحمد إسماعيل يكره عبد الناصر كراهية شديدة لأنه قام بطرده من القوات المسلحة مرتين؛ عقب هزيمة يونيو 1967. ولاؤه المطلق للسادات: بقى أحمد إسماعيل لمدة تزيد على عشرين شهراً في التقاعد حتى قام السادات باستدعائه إلى الخدمة وعينه رئيساً للمخابرات العامة، وها هو ذا بعد 18 شهراً يعينه وزيراً للحربية… يبعث فيه الحياة من جديد. لقد كان إسماعيل ينظر إلى السادات على أنه سيده وولي نعمته. وبالتالي فلا يجوز أن يعارضه أو يعصي أمراً من أوامره. شخصيته ضعيفة: لقد كان لطرد إسماعيل من القوات المسلحة مرتين أثر كبير على أخلاقه، إذ أصبح بعد ذلك يخشى المسؤولية واتخاذ القرارات، وأصبح يفضل أن يتلقى الأوامر وينفذها على أن يصدرها. كان رجلاً مريضاً: مات أحمد إسماعيل بمرض السرطان في كانون الأول/ ديسمبر 1974 في مستشفى ويلينغتون في لندن، وقد سجل الأطباء في تقريرهم الطبي أن إصابته بهذا المرض لا بد أنها كانت واضحة وظاهرة قبل ذلك بثلاث سنوات على الأقل. كان شخصية غير محبوبة (مناقشاته مع الضباط والجنود تتسم بالخشونة والغلاظة). كان على خلافات مع رئيس أركان حرب القوات المسلحة: لقد كان السادات يطبق مبدأ “فرق تسد” الذي مارسه الحكام الطغاة منذ فجر التاريخ”.
يقرر الشاذلي أن تعيين إسماعيل وزيراً للحربية وقائداً عاماً كان قراراً خاطئاً… لا يخدم مصالح مصر بل يخدم مصالح السادات. لقد كان في استطاعتنا أن نحقق خلال حرب أكتوبر 1973 نتائج أفضل بكثير مما حققنا، لو كان هناك قائد عام أكثر قوة وأقوى شخصية من الفريق أحمد إسماعيل. لو تيسر هذا لكان في إمكاننا أن نكبح جماح الرئيس السادات ونرفض تدخله في الشؤون العسكرية البحتة. ولو تيسر هذا لما كان في استطاعة العدو إحداث ثغرة الدفرسوار.
الجمسي يقدم صورة، وسيرة، نقيضة، تماماً، لأحمد إسماعيل، وللدقة يرسم صورتين: صادق كمعطل، وإسماعيل كمنقذ.
فهكذا كتب: “كان الفريق أول محمد صادق وزير الحربية لا يخفي انتقاده وعدم ثقته في الاتحاد السوفياتي خلال أحاديثه في القيادة العامة للقوات المسلحة. وجاء يوم 24 يناير 1972 ليعقد اجتماعاً عاماً في القاهرة حضره آلاف من الضباط من جميع الرتب. هاجم الفريق أول صادق في هذا الاجتماع الاتحاد السوفياتي هجوماً عنيفاً، وأعلن أن السوفيات لم يقوموا بتوريد الأسلحة المطلوبة لمصر، وأنهم بذلك يمنعوننا من تحقيق رغبتنا في الهجوم. وأضاف الفريق أول صادق أن السوفيات ينشرون بين صغار الضباط والجنود والطلبة أن القوات المسلحة لديها الأسلحة الكافية التي تسمح لها بالهجوم، ولكن كبار القادة هم الذين لا يرغبون في القتال، وأن هذه الشائعات المسمومة غير صحيحة”.
ويعلق: “لم أكن راضياً- أثناء حضوري هذا الاجتماع- عما قاله الفريق أول صادق لهذا العدد الكبير من الضباط من مختلف الرتب، لأنني كنت أخشى أن يؤثر ذلك في الروح المعنوية للقوات المسلحة على أساس أن الاتحاد السوفياتي يعرقل قيامنا بالعملية الهجومية، على رغم أنه المصدر الرئيسي والوحيد لتسليحنا”.
صادق يؤثر سلباً في الروح المعنوية للقوات المسلحة. هل هناك خطر على جيش يستعد للحرب أعظم من هذا؟
وتحت عنوان “مقابلة بالصدفة” يكتب: “في النصف الأول من عام 1972 تقابلت مصادفة مع اللواء أحمد إسماعيل مدير المخابرات العامة حينئذ في مطار القاهرة الدولي، وكان كل منا يودع أحد الرسميين الأجانب… بادرني اللواء أحمد إسماعيل بسؤال مباشر وبصوت منخفض هامس قائلاً: “متى ستحاربون يا جمسي؟”. كان ردي: “سنحارب عندما تتعين أنت وزيراً للحربية وقائداً للقوات المسلحة، وستعلم حينئذ لماذا لم نحارب حتى الآن”.
-------
درج