لا تسلني متى عيد الحب لكن لو سألتني أين عاصمته لقلت دون تردد : قرطبة زرياب فكلما عبرت الاندلس يشدني الشوق الى قرطبة أكثر من غيرها لا شوقا لولادة وابن زيدون وابن ميمون وابن رشد بل قبلهم جميعا لابن حزم الفقيه العاشق الذي صنع بلطفه ورقته وجمال مخيلته المشدودة الى واقعها بخيوط من حرير تاريخا لرومانسيات القرون الوسطى عند الاوربيين وعندنا فلهجته وتسامحه وبذخه الروحي الحميم تختلف جميعها عن كل ما ألفناه من كتب الحب وحكاياته في التراث المشرقي .
بعض الناس تشدهم غرناطة بحمرائها ومآسيها وتنهيدة العربي الأخير فيها لكنها في النهاية ومهما قيل عنها مدينة دسائس سياسية ومكائد سلطوية ودم يسيل ليملأ الآبار و يجري في النوافير كما حدث أبان نكبة بني سراج
وهذا ما لم يكن ينقص قرطبة لكنها وكلكل المدن الذكية التي تحتفي بجماليات الروح على قدم المساواة مع عربدة الجسد قدمت رومانسياتها وفلسفتها على دسائسها فصارت مدينة للعشق وتسامح الروح الباذخة التي تتنشقها الى اليوم صافية على قنطرة الوادي الكبير.
وقد كان ابن حزم من أكثر ابنائها نجابة وسعة أفق لذا لم يصعب عليه ان يكون عاشقا وفقيها في الوقت نفسه وان يشتهر بكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل )بذات المقدار – وربما أكثر – الذي اشتهر به بكتاب (طوق الحمامة في الألفة والآلاف)الذي ألفه كما ينص في المقدمة لخيران صاحب المرية من حيث الظاهر – وهوظاهري –أما من حيث الباطن والتأوبل فذاك الكتاب كما أظن باقة اخلاص لحب قديم تملكه وسد عليه منافذ الأفق وكان لابد لتلك التجربة ان تخرج بطلب او دونه فالحب المعتق
في قوارير الماضي كعفاريت القماقم يظل يتلجلج ويدور في المسارب والفضاءات المغلقة حتى يكسر القمقم ويخرج الى النور .
ولا يخفي ابن حزم حكاية روحه المعذبة بحب أفلت صاحبته ولم يأفل فهو يخبرنا تلميحا بلطف منذ اول الكتاب في باب (من احب صفة لم يستحسن بعدهاغيرها مما يخالفها )انه احب- بلوندية - شقراء في صباه ولم يفكر بعدها في الشعر الاسود وصاحباته مهما بلغن من الجمال والفتنة (ولو انه على الشمس او على صورة الحسن نفسه )
ثم يصرح بالقصة كلها في باب البين في نهاية الكتاب :
(وعني اخبرك اني احد من دهي بهذه الفادحة وتعجلت له هذه المصيبة وذلك اني كنت من اشد الناس كلفا واعظمهم حبا بجارية لي كانت فيما خلا اسمها نغم وكانت امنية المتمني وغاية الحسن خلقا وخلفا وموافقة لي وكنت ابا عذرها وكناقد تكافأنا بالمودة ففجعتني بها الاقدار واخترمتها الليالي ومر النهار وصارت ثالثة التراب والاحجار وسني حين وفاتها دون العشرين وكانت هي دوني في السن فلقد اقمت بعدها سبعة اشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة اسعادها وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الان ولو قبل فدا لفديتها بكل ما املك من تالد وطريف وببعض اعضاء جسمي العزيزة علي مسارعا طائعا وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها ولقد عفى حبي لها على كل ما قبله وحرم ما كان بعده ) .
رقصة التحدي
لقد كانت ذكرى نغم – حب في زمن الحرب – فزمن ابن حزم كان من حيث الاضطراب السياسي كزماننا استطيب فيه السياسيون قوانين القوة الغاشمة فلم يعملوا بغيرها ولم يكن بيد الفيلسوف العاشق وخبير الملل والنحل غير عقله وقلمه فاستخدمهما بالتوازي والتقاطع ليحكي عن عالم قلق ويحلم بآخر أفضل فيه الكثير من الحب والقليل من الدم والكراهية .
لقد كتب علي بن احمد الاندلسي كتاب الطوق الذي صار علامة فارقة في تاريخ العشق العربي والانساني في لحظات انكساره السياسي والفكري فقد حبسه صاحب المرية لاحقا بتهمة التحريض لقلبه واعادة الحكم الاموي وقبل ذلك نهبت ضياعه وصودرت امواله وشرد من دياره ومنازل حبه وغرامه فلم يعد اليها الا ليجدها قاعا صفصفا وليرثيها شعرا ونثرا في نصوص حفظها وزير غرناطة المنكوب مثله لسان الدين بن الخطيب :
(وقفت على اطلا ل منازلنا بحومة بلاط مغيث من الارباض الغربية ومنازل البرابر المستباحة عند معاودة قرطبة فرأيتها قد محت رسومها وطمست اعلامها وخفيت معاهدها وغيرها البلى ... وكررت النظر فيها ورددت البصر وكدت استطار حزنا عليها وتذكرت ايام نشأتي فيها وصبابة لداتي بها مع كواعب غيد الى مثلهن يصبو الحليم ) .
وانطلاقا من هذه المصائب المركبة والخلفيات تصبح استعاديات الحب واللحظات السعيدة عمل احياء وبناء عوالم متوازية للسلوى التي قد تتحول حين تتكثف بفنية عالية الى حياة ثانية ألم يكتب مارسيل بروست ملحمة ضخمة من عدة اجزاء ليعيد رسم الاشياء والاحداث التي تعبربسرعة وتختفي فلا يظل منها الا أشباح الذكرى فكتاب طوق الحمامة بهذه المعاني ووسط تلك الاضطرابات رقصة من رقصات التحدي التي تنتصر لثوابت الحياة واقانيمها العادلة الرهيفة واولها الحب الذي نظنه ضعيفا قليل التاثير ثم نكتشف كما قالت( سيلين ديون)في احدى اشهر اغانيها بعد ابن حزم بالف عام انه سحر خفي لا يفوت الى روحك ليحتلها حلالا زلالا فحسب لكنه ايضاقوة غامضة نورانية تحرك الجبال الشوامخ وتخلق للعاشق أجنحة ليحلق مثل الطيور الى الاعالي ويخف الى لقاء من يحب :
لا شئ يمنعنا من التحليق
ان نكون في قلب الليل وقلب الضوء
الحب يمكنه ان يحرك الجبال
ولانه بجانبنا سنطير ونلمس السماء
يمكننا عمل كل شئ والوصول الى كل شئ
الحب وحده من يمكنه تحريك الجبال
لقد كانت هذه المعاني الحديثة كلها واضحة في ذهن الفقيه العاشق الذي أثر كتابه شرقا وغربا وصار مرجعا لتاريخ الرومانسية لأنه قدم الحب على ما سواه لمعرفته انه مفتاح السعادة او الشقاءونظرا لتلك الاهمية رفع ابن حزم العشاق فوق الجميع فالعشاق عنده أهم من الحكام ونفوذ المحب المتأكد من حب حبيبته وهيبته عندها وفي نظر نفسه والناس لا يعدلها اي نفوذ ولااية هيبة :
(الحب مكان تتقاصر دونه اللغات وتتلكن بتحديده الالسنة ولقد وطئت بساط الخلفاء وشاهدت محاضر الملوك فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه ورايت تمكن المتغلبين على الرؤساء وتحكم الوزراء وانبساط مدبري الدول فما رأيت اشد تبجحا ولا أعظم سرورا بما هو فيه من محب أيقن ان قلب محبوبه عنده ووثق بميله اليه وصحة مودته له ).
ولا عليك من لفظة - تبجحا – فالمؤلف يعنيها في سياقها الطاووسي حين ينفش المحب ريشه كالطواويس في القصور مدلا بمكانته عند من اختارها القلب فردت التحية باحسن منها وأجرت كل ما عندها من بحار الحب ومحيطاته باتجاه من كانت تكفيه ساقية ليسعد بالسباحة في ذلك الكون الرهيف الاليف الودود الحميم الذي يحلم به خلق كثير ولا تدركه الا القلة المحظوظة .
وقد افترضت ذات يوم وما زلت الح على هذه الفرضية دون ان أعثر على وثائقها بان ثرفانتس بكل براحه الروحي الاندلسي النبيل ربما يكون قد اطلع على الطوق وربما كانت شخصية ابن حزم من النماذج الطوباوية التي استوحاها في رسم ا الخطوط العامة لدون كيخوته دي لامانتشا فكل مواقف ذلك الفيلسوف والفقيه والعاشق الكبير كانت في صف العدل والاخاء والمساواة والحرية وكان في كل ما كتب حربا على الطغاة والمستبدين والظلمة وليس من المستبعد ان يكون ثرفانتس الذي تطفح رائعته بالسماء العربية قد عرف الطوق وغيره من مؤلفات ابن حزم فقد تم اسره وامضى في الحبس اعواما في الجزائر في محيط عربي اطلع فيه على الكثير من المخطوطات بعد ان تعلم العربية هناك في السنوات الخمس التي امضاها بانتظار من يفك اسره ثم ان ثرفانتس عاش كما هو معروف ردحا من حياته في ايطاليا وتعلق بثقافة الايطاليين وبشيخهم دانتي وهذه قرينة اخرى فهناك من يفترض ايضا اطلاع دانتي على طوق الحمامة ويدل على ذلك بوجود كتاب للعبقري الايطالي اسمه (الحياة المجددة –لافيتا نوفا)وهذا التعبير من صفات الحب في الطوق ففي باب الوصل يقول ابن حزم :
(ومن وجوه الوصل وهو حظ رفيع ومرتبة سرية ودرجة عالية وسعد طالع بل هو الحياة المجددة والعيش السني والسرور الدائم ورحمة من الله عظيمة ولو لا ان الدنيا دار ممر ومحنة وكدر والجنة دار جزاء وامان من المكاره لقلنا ان وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه والفرح الذي لا شائبة فيه ولا حزن معه وكمال الاماني ومنتهى الأراجي ).
وقد تساءل الدكتور الطاهر احمد مكي صاحب اكمل تحقيق للطوق وهو يعلق على تعبير – الحياة المجددة - الذي اعاد استخدامه دانتي :أكان مجرد التقاء فكر بين عبقريين ام ان الاديب الايطالي عرف الطوق ؟وما يزال هذا السؤال معلقا بانتظار دراسة معمقة كتلك التي جرت بين الكوميديا الالهية ورسالة الغفران وكانت نتائجها لصالح ابي العلاء المعري من حيث اثبات تاثيره في رائعة دانتي .
الفروسية العقلية
وبالسنبة لدون كيخوتة يظل ابن حزم اقرب للتاثير والتأثر من حيث استيحاء النموذج الطوباوي للفارس النبيل لا لوجوده في الاندلس بل لالحاحه على معاني الفروسية العقلية وذاك هو الهدف المضمر لثرفانتس الذي سخر في كتابه الجميل سخرية مرة من الفروسية الفارغة البلهاءالتي لا تنتج الادما ودمارا ولا تزدهر الا بالاكاذيب والتبجح والعنجهية .
وفي ما يتعلق بالفروسية العقلية كان ابن حزم فارسا لا يشق له غبار وأحد المتحدين الكبار لجهل العامة ولاستبداد الولاة فحين احرقت كتبه في اشبيليا في زمن المعتضد بن عباد والد المعتمد نظم تلك الابيات التي تنضح باحتقار اعداء المعرفة وتقلل من انتصاراتهم بعد حفلات احراق الكتب التي تتكرر بوتيرة مخيفة في التراث العربي المشرقي والاندلسي
يقول الفقيه العاشق للذين أحرقوا كتبه :
دعوني من احرا رق وكاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
فان تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل ان انزل ويدفن في قبري
ومع هذا التحدي المعرفي لاعداء السماحة والمعرفة و الذي يدل على فروسية عقلية باهرة وثقة بالنفس لا يمكن انكارها كان ذلك الفارس الذي لا يبارى في المحاججة العقلية والمناظرة يذوب رقة حين يحكي عن الحب وعذابات القلب وكانت الخبرة الشفافة المرهفة تطل من كل حرف من حروف كتابه الممتع الاليف :
(الحب – اعزك الله –أوله هزل وآخره جد دقت معانيه لجلالتها ان توصف فلا تدرك حقيقتها الا بالمعاناة وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور بالشريعة )ومن يبدأ هكذا بدايات حيية خجولة لا بد ان يتابع على ذات الوتيرة من الرومانسية العفيفة المبرأة من الشهوانية الصريحة – وكل مكشوف ممجوج –ولعله بسبب هذه الصفة بالذات تم اخراجه من سياق الرومانسية العربية بجرة قلم استشراقية فالعرب شهوانيون حسيون لذا يجب ابعاده عنهم ونسبة طريقته في التعبير عن العواطف الى العالم الغربي .
واول من شجع على هذه الطريقة في التفكير وفي ابعاد ابن حزم عن جذوره المستشرق الهولندي ( رينهارت دوزي ) مكتشف مخطوطة طوق الحمامة في جامعة ليدن بين المخطوطات الغزيرة التي جلبها (فون وارنر)في القرن السابع عشر من الآستانة .
يقول دوزي معلقا على غرام ابن حزم في كتاب – تاريخ مسلمي اسبانيا- :
( يلاحظ في هذه القصة ملامح عاطفية رقيقة غير شائعة بين العرب الذين يفضلون بصفة عامة الجمال المثير والعيون الفاتنة والابتسامة الساحرة والحب الذي كان يحلم به ابن حزم يختلط بما هو حسي وجذاب لكن فيه ايضا ميلا الى ما هو اخلاقي من رقة بالغة واحترام وحماسة من يأسره جمال رائع وديع فياض بالكرامة الحلوة لكن يجب الا ننسى ان هذا الشاعر الاكثر عفة – واكاد اقول الاكثر مسيحية – بين الشعراء المسلمين ليس عربيا خالص النسب انما هو حفيد اسباني مسيحي لم يفقد كلية طريقة التفكير والشعور لبني جنسه هؤلاء الاسبان الذين تعربوا يستطيعون ان يهجروا دينهم وان يبتهلوا بمحمد بدل المسيح وان يلاحقوا بالسخرية اخوانهم القدامى في الدين والوطن ولكن يبقى دائما في اعماق ارواحهم شئ صاف رهيف و روحي غير عربي ) .
ومن هذا الدليل الذي ينضح بثقافة عنصرية تدرك ان ابن حزم الذي عاش في القرن العاشر الميلادي كان أكثر تحضرا من دوزي ابن القرن التاسع عشر فالمسألة لها علاقة بالنفوس لا بالاعراق والاجناس والتواريخ والنفس الحسنة – بلغة ان حزم – ترى الجوانب الحسنة وتبحث عن المتآلف بين الافراد والشعوب وتجعل من قيم الحب بوصلة تبعد صاحبها عن الذم والمثالب والاساءة دون معرفة فالحب الاخلاقي الوديع الفياض بالكرامة عرفه العرب في باديتهم قبل ابن حزم بقرنين من الزمان في مضارب بني عذرة وعند شعرائها الذين تشكل قصصهم مع الذين جنوا عشقا ثلث قصص الحب في التراث العربي .
ان الحب على مذهب ابن حزم ليس حب الذكر للانثى وحسب لكنه اكثر شساعة وبراحا من الثنائية الجنسية فهو يمتد عبر الكون كروح خفية خلاقة تبعث الحياة في الكائنات وتعطي للوجود معناه الغائب المفقود الذي نحتفي به سنويا في عيد واحد ولو عقلنا لقدمناه على تلك المناسبات المملة الرتيبة كلها وأعطيناه كل يوم ومع شروق كل شمس ألف مهرجان وعيد .