بلغت ذروة التصعيد في العراق بين التيار الصدري وجماعة إيران (الإطار التنسيقي) عندما تخلّى المرجع كاظم الحائري عن مرجعيته، مطالبا مقلديه، وهم أتباع التيار الصدري بتقليد المرشد الإيراني علي خامنئي، معرّضا بزعيم التيار مقتدى الصدر “من سعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين (رضوان الله تعالى عليهما)، أو يتصدّى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعيّة فهو، في الحقيقة، ليس صدريّاً مهما ادّعى أو انتسب”. ورد عليه مقتدى “يظن الكثيرون، بمن فيهم السيد الحائري، أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إن ذلك بفضل ربي أولا، ومن فضل والدي محمد صادق الصدر الذي لم يتخلَّ عن العراق وشعبه”.
أوقع المرشد الإيراني الصدر في حيرة وسدّد له ضربه موجعة، لماذا؟ عندما سـألت الصدر، في أول لقاء معه بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، إن كان يعتبر نفسه مرجعا، فأجاب أنه يعتبر نفسه “وكيلا” للمرجع كاظم الحائري الذي أوصى به والده. وفي مسيرات التيار الصدري كانوا يهتفون “يا حائري عود عود. شيعة علي كلها جنود”، لكن الحائري لم يعد، ذهب مقتدى إلى قم، ليتم دراسته الحوزوية. وهو ما يعكس تعقيد العلاقة المرجعية بين إيران والعراق، فلا مهرب من إيران إلا إليها.
دخلت إيران بسرعة وقوة على التيار الصدري، محاولة السيطرة عليه واختراقه، رغم تشكيكها به تاريخيا. وذكاء القيادة الإيرانية لم يجعلها تحصر دعمها بجماعتها التي تعاملت معها مبكّرا، مثل المجلس الأعلى وحزب الدعوة، فانفتحت على التيار الصدري الذي كان هو بحاجتها أيضا. على سبيل المثال، زودت قيادات التيار وفاعليه بخطوط الثريّا المرتبطة بالأقمار الصناعية في غياب شبكة اتصال بعد سقوط نظام صدام. وقدمت لهم، عبر حزب الله، مساعدات عسكرية تدريبا وتجهيزا. وفي تسجيله المسرّب، يتحدّث نوري المالكي كيف زودت إيران الصدريين بمضادّات دروع، عندما شن عليهم حملة “صولة الفرسان”.
تمكّنت إيران من شقّ التيار الصدري عبر تنيظم عصائب أهل الحق بشكل أساسي، وكان زعيم العصائب، قيس الخزعلي، من أخلص تلاميذ الصدر، وانخرط في العمل العسكري ضد الأميركان، واعتُقل في سجن بوكا، ولا أنسى أول حشد قاده دفاعا عن مقتدى الصدر، عندما تعرّض بيته لحصار أميركي، وكانت المظاهرة الأضخم في حينها في بغداد، وهو من قاد الهتاف “أرواحنا كلها فدى للصدر وابنه مقتدى” .
تمكّنت إيران من اختراق التيار الصدري وشقّه، ولكنها لم تتمكّن من السيطرة على الصدر وتأطيره في “إطارها”. يسخر المالكي، في تسريبه، من أن إيران اعتقدت يوما أن الصدر مثل “نصرالله”، والواقع لو تعاملت معه كما تعاملت مع حزب الله لتجنّبت هذين الطلاق والمواجهة الدموية. ومع أن نصر الله كان قريبا من مقتدى، إلا أنه ظل يشكو من عناده، إلى درجة القول “مقتدى عجّزنا”.
لا تريد إيران شركاء ولا حلفاء في العراق بقدر ما تريد أتباعا. ولم تتعلم من دروس ثورة تشرين التي أظهرت مدى السخط الشيعي عليها. لا تستطيع إيجاد زعامة بوزن مقتدى، وهي تعلم أن “الإطار التنسيقي” الذي يضم الفصائل الموالية لا يقارن وزنه بوزن التيار الصدري. وأن قوته تعتمد على الإغراء بالمال العام المسروق من خزائن الدولة والترهيب بالمليشيات، فالعراقيون يعلمون أن بلادهم دخلها خلال حكم المالكي نحو ترليون دولار سُرقت وبدّدت، ولم تستطع الحفاظ على البنية التحتية التي تركها صدّام حسين.
نضج الصدر خلال عقدين من المعترك السياسي، وتكرّس من زعيم طائفي خلال الاحتراب الطائفي في منتصف الألفية إلى زعيم وطني له حضور عربي، عكس نصرالله الذي تحوّل من زعيم وطني لبناني له حضور عربي إلى زعيم طائفي. وهو يمتلك تيارا جماهيريا يقوده باقتدار، وتنظيما عسكريا (سرايا السلام)، ونفوذا في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والمدنية. وتدرك إيران أن المواجهة معه خاسرة.
من مصلحة العراق ومصلحتها أن تلم إيران جماعتها، ولا تغرق البلاد في حمام دم، وتسمح للتيار الصدري، مع حلفائه السنة والكرد، بممارسة حقهم في تشكيل حكومة الأكثرية، أو تسمح بانتخابات مبكّرة. ومؤكد لو طلب قائد قوة القدس، إسماعيل قاآني، من قيس الخزعلي، أكثر أطراف “الإطار” تشدّدا ضد الصدر، أن يعيد هتافه اليوم “أرواحنا كلها فدى للصدر وابنه مقتدى” لما تردّد.
ومن الممكن أن تتحسّن صحة الحائري ويعود إلى المرجعية، وإن لم يعد، فبحسب وصية الصدر، فإن من ورثوا مدرسة الصدر الأول، هو و”كاظم الحائري ومحمود الهاشمي”، فإن الأول اعتزل والثاني توفي، فالتيار في حلٍّ من الوصية، وقد يقلّد مقتدى، وهو ليس أقلّ تأهيلا حوزويا من المرشد علي خامنئي عندما ورث زعامة الخميني، وربما يجد مرجعا آخر في المسائل الدينية، ويظل مقتدى الصدر الزعيم السياسي. المؤكّد أن التيار الصدري لن يقبل بزعامة خامنئي، وإن قلّده دينيا فكما يقلد السيستاني أو غيره. للتذكير، كان المالكي يقلد حسين فضل الله دينيا، لكنه سياسيا ظل تابعا لخامنئي
العربي الجديد