السلاح الشعبي العربي المجرب للانتقام من السياسيين اتهام نساءهم بعشق غيرهم او تحويل بناتهم الى مادة للغزل للاضرار بسمعة الاباء في مجتمعات الشرف عندها رأس المال الاكبر والمقدس الذي تهون امامه المقدسات الاخرى لذا كانت عاتكة دريئة معاوية وصارت حفيدته المروانية ام البنين كعب اخيل الوليد بن عبد الملك اقوى خليفة اموي بعده وبعد عبد الملك .
وقد تم ربط اسم السيدة المروانية الاولى بأكثر من شاعر الى ان استقرت الروايات على حبكة عجيبة للمخيال الشعبي ربطت ام البنين غراميا بشاعريمني اسمه عبد الرحمن بن اسماعيل ولقبه او اسمه الحركي عند صانعيه ( وضاح اليمن ) .
وما اجملها واذكاها تلك الحبكةالناجحة التي طورها المخيال العربي المغبون و التي أسطرت تلك الحكاية الجريئة عن عاشق ينطلق من ديار بلقيس ليغزو ارض جلق فلا يوقف حصانه الا في مخدع الخليفةالاموي في دمشق .
واليمن ليس غريبا عن الأسطرة فهناك تم تعطير بلقيس والباسها مسك الخوارق قبل ان تزرع في التاريخ والوجدان بالف اسم ومليون صفة وصورة .
مع وضاح اليمن يختفي التاريخ تماما وتظهر الاسطورة وحدها عارية عن اصلها التاريخي فقد عجز الباحثون وبينهم اصحاب باع كطه حسين واصحاب جلد ككارل بروكلمان عن العثور على شخصية واقعية بذاك الاسم والكسم والجرأةلذا يكون من الافضل ان نلحقها بالخرافات المطورة شعبيا وهي لا تقل عن الاساطير روعة وقدرية واتقان حبكة .
وزيادة في الاقناع اخترعت اليمانية التي كانت تنتقم لنفسها من القيسية قصة حب موازية للتمويه فام البنين ليست حكاية الحب الوحيدة في حياة ذلك الشاعر – اللغز فقد سبقتها الى قلبه كما تقول الرواية الشعبية امرأة فارسية اسمها روضة اقتضت ضرورة السرد الساذج ان تموت بالجذام لتخلي المكان وقلب الشاعر معا لمنافستها الاموية –القرشية وروضة المجذومة لضرورة السرد هي التي قال فيها عدة قصائد لا تدري الحقيقي من المفبرك منها لكن فرضية فبركة القصة من اساسها تغنيك ضمنا عن البحث في اصالة الشعر وصحة نسبته ومن تلك القصائد :
طرق الخيال فمرحبا الفا
بالشاغفات قلوبنا شغفا
ولقد يقول لي الطبيب وما
نبأته من شأننا حرفا
اني لاحسب ان داءك ذا
من ذي دمالج يخضب الكفا
والواضح من حبكة فهد بلان الشائعة - جس الطبيب لي نبضي- ان الذين صنعوا شعر وضاح اليمن لم يهتموا كثيرا بالتجويد فقصائده في ام البنين اردأ من غزله بروضه الفارسية فالشعر لا يهمهم في شئ بمقدار اهتمامهم بأن تنقل الركبان وتتناقل حكاية –السيدة الاولى -التي فتنها عن بيتها وسيادتها وزوجها شاعر غريب اتى من اقاصي الارض وصار يدخل على نساء الامويين بطريقة اسهل من دخول راسبوتين على نساء القياصرة .
وتبدأ الحكاية على ذمة الهيثم بن عدي في السنة التي قصدت فيها ام البنين زوجة الوليد بن عبد الملك مكة حاجة متنسكة وكانت قد سبقتها كتب زوجها يهدد فيه الشعراء بعدم التعرض لها بغزل وسواه وهنا عنصر التحدي الذي يضيف بطولة اضافية الى الفتى اليمني الذي اهمل تحذيرا جعل جميع الشعراء يرتعشون فرقاوهذه بهارات ضرورية ولازمة لخلب لب العامة الذين يحتاجون دوما اى فارس ينتقم لهم ممن لا يستطيعون الوصول اليه .
وكي تقع السيدة الاولى في غرام الشاعر من النظرة الاولى احتاط الرواة المهتمون بالاقناع للامر فجعلوا وضاح اليمن من اجمل الناس واحد الذين كانوا يضطرون الى ستر وجوههم بالاقنعة خوفا من العين وشفقة على النساء ومن هؤلاء غير وضاح ابو زبيد الطائي والمقنع الكندي .
اما لماذا لم يستر وضاح وجهه بقناعه في ذلك اليوم فلأن حبكة الوقوع بالحب من النظرة الاولى لاتستقيم بوجه مقنع لا تعرف ان كان صاحبه قد اخفاه وقاية من الرمل او هربا من جريمة او حرصا على عدم فتنة النساء
تفاصيل غائبة.
ان الذكاء الحقيقي في صناعة تلك الاسطورة الانتقاميةيكمن في تركها دون تفاصيل فالراوي الشعبي يحكي المقدمة والخاتمة ويترك للمخيال ملأ بقية البياض بما يعجبه ويرتاح اليه وان شئت نموذجا على ذلك الاختصار المريب فاليك واجده في عشرات المصادر على هذه الشاكلة التي يرويها محمد بن جعفر مولى ابي هريرة :
( قدمت ام البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي عند الوليد بن عبد الملك حاجة والوليد يومئذ خليفة فبعثت الى كثير والى وضاح اليمن ان انسبا بي – تغزلا – فاما وضاح فانه ذكرها وصرح بالنسيب بها فوجد الوليد عليه السبيل فقتله واما كثير فعدل عن ذكرها ونسب بجاريتها غاضرة).
ولم يكن طلب السيدة الاموية الاولى الى الشعراء التغزل بها غريبا فتلك عادة سبقتها اليها عاتكة بنت معاوية وعائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وغيرهن من ارستقراطيات قريش فالغزل بحد ذاته ليس عيبا لكن العيب عندهن ان تعقبه علاقة فالغزل لهو برئ لا يعاقب عليه القانون ولا التقاليد الاجتماعية الا حين يتحول الى فعل يستثمر اجساد المفتونات بالنسيب وفي حالة ام البنين كان لا بد من العلاقة والا فلا معنى لكل تلك الاختراعات الانتقامية الشعبية والمناطقية من رؤوس الدولة الامويةوبناتهن وزوجاتهن .
وكل من يقرا غزل وضاح بأم البنين يعتقد انها كان يجب ان تتركه لرداءة شعر ه فيها مقارنة مع غزله بروضة ومن ذلك الغث الكثير قوله فيها :
صدع البين والتفرق قلبي
وتولت ام البنين بلبي
ثوت النفس في الحمول لديها
وتولى بالجسم مني صحبي
وقد قلت والمدامع تجري
بدموع كانها فيض غرب
جزعا للفراق يوم تولت
حسبي الله ذو المعارج حسبي
ان اسطورة ابن الشعب الفقير الذي يحب السيدة الاولى وينتهي مدفونا في حجرة نومها ابتكار عربي محض يخدم اعراض العلاج النفسي الجماعي فالشاعر هنا لا يقتل الزوج –الخليفة ويحصل عليها وعلى العرش كما يحصل في الاساطير الغربية ذات الاغراض المماثلة انما يشوه سمعتها ويختفي تماما كما ظهر دون ان يترك أي اثر الافي الذاكرة الشعبية التي تتبنى قصته وتزيد فيها وتتزيد كلما اقتضت الضرورات وكانت الحاجة للانتقام السياسي ملحة .
ولعل نهاية حكاية وضاح على مرارتها اجمل من بدايتها فهناك خيال خصب خلاق ينهي المسألة بمصالحة عجيبة بين الزوجة وزوجها فوق جثة العاشق يقول خالد بن كلثوم في وصف نهاية العاشق اليمني في قصور دمشق :
( كان وضاح قد شبب بام البنين بنت عبد العزيزبن مروان امرأة الوليد بن عبد الملك فبلغ الوليد تشببه بها فأمر بقتله فقال له ابنه عبد العزيز :لا تفعل يا امير المؤمنين فتحقق قوله ولكن افعل به كما فعل معاوية بأبي دهبل فانه لما شبب بابنته شكاه يزيد وسأله ان يقتله فقال : اذن تحقق قوله ولكن تبره وتحسن اليه فبستحي ويكف ويكذب نفسه فلم يقبل منه ذلك وجعله في صندوق ودفنه حيا ).
اما الدراما الحقيقية ففي رواية ابن الكلبي التي سنقصها عليك بعد قليل وهي تفسر اهتمام اهل دمشق بالياسمين وحبهم له وتفضيله على ما سواه من زهور غوطتهم واشجارها فالمخيال الشعبي يزعم ان ياسمينة نبتت فوق التابوت الذي دفن به وضاح حيا وان عشاق دمشق يذهبون اليها مطلع كل ربيع للاحتفاء باسطورة العاشق اليمني الذي انتهى مدفونا في بلادهم في ظروف غامضة.
وشايةخدم .
والاصل في قصة تلك النهاية ان الشاعرلقي حتفه لانه كان يزور زوجة الخليفة في مخدعها ومن وسائل التمويه التي اخترعها الرواة لتحليل ذمتهم وعدم اتهامهم بقذف المحصنات الايحاء بان زوجة الخليفة كانت مريضة وان الزيارة ربما تكون زيارة مريض وليس زيارة عاشق وفي الحالتين يظل الخليفة مدانا ويسهل تحميله وزر دم العاشق الذي نبت على تابوته الياسمين الدمشقي تخليدا لرائحة طيب العشق ولمزيد من الاقناع على هذه الجبهة كان لابد من صناعة قصيدة تبريرية تلمح الى ذلك الاحتمال الصحي البعيد البرئ:
حتام نكتم حزننا حتاما
وعلام نستبقي الدموع علاما
ان الذي بي قد تفاقم واعتلى
ونما وزاد واورث الاسقاما
قد اصبحت ام البنين مريضة
نخشى ونشفق ان يكون حماما
وقدلا تكون المريضة تعاني سكرات الموت كما يوحي الشاعرلكنها وان كانت وعكة فانها مع العشق الذي يضطرم بالفؤاد تجعل الزيارة حتمية ومتكررة ففي رواية ابن الكلبي الدرامية المثيرة لنهاية العاشق اليمني لابد من ظهور الواشي الذي تم اختياره روائيا على عجل من بين خدم القصر يقول ابن الكلبي مؤكدا تعلق السيدة الدمشقية الاولى بفتاها اليمني :
(عشقت ام البنين وضاحا فكانت ترسل اليه فيدخل اليها ويقيم عندها فاذا خافت وارته في صندوق عندها واقفلت عليه فاهدي الوليد جوهرا قيمة فاعجبه واستحسنه فدعا خادما له فبعث به معه الى ام البنين وقال قل لها : ان هذا الجوهر اعجبني فاثرتك به فدخل الخادم عليها مفاجاة ووضاح عندها فادخلته الصندوق وهو يرى فادى اليها رسالة الوليد ودفع اليها الجوهر ثم قال : يا مولاتي هبيني منه حجرا فقالت : لا يابن الخناء ولا كرامة فرجع الى الوليد فاخبره فقال : كذبت يا ابن اللخناء وامر به فوجئت عنقه ثم لبس نعليه ودخل على ام البنين وهي جالسة في ذلك البيت تتمشط وقد وصف له الخادم الصندوق الذي ادخلته فيه فجلس عليه ثم قال لها:يا ام البنين ما احب اليك هذا البيت بين بيوتك فلم تختارينه؟فقالت: اجلس فيه واختاره لانه يجمع حوائجي كلها فاتناولها منه كما اربد من قرب فقال لها :هبي لي صندوقا من هذه الصناديق فقالت :كلها لك يا امير المؤمنين قال : ما اريدها كلها انما اريد واحدا منها فقالت : خذ ايها شئت قال : هذا الذي جلست عليه فقالت : خذ غيره فان لي فيه اشياء احتاج اليها قال : ما اريد غيره قالت : خذه يا امير المؤمنين فدعا بلالخدم وامرهم بحمله فحملوه حتى انتهى به الى مجلسه فوضعه فيه ثم دعا عبيدا له فامرهم فحفروا بئرا بالمجلس عميقة فنحى البساط وحفرت الى الماء ثم دعا بالصندوق فقال له :يا هذا انه بلغنا شئ ان كان حقا فقد كفناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا اثرك الى اخر الدهر وان كان باطلا فاننا دفنا الخشب وما اهون ذلك ) .
لقد اختيرت هذه النهاية الخرافية لتجعلك تعجب بعد التشفي بالحكام الاقوياء بحبكتها المدروسة وتكف عن التساؤل عن الحقيقي والمفبرك في خرافات وقصائد هذا الشاعر فالجوهري في المسألة كلها ان ظن الخليفة المطعون بشرفه خاب فرغم انتصاره على خصمه ودفنه حيا لم ينقطع اثره وخبره الى اخر الدهر بل ظلت هذه القصة – وبتشجيع من العباسسن لاحقا – تروى ويضاف اليها بحيث صار وضاح اليمن من اشهر عشاق التاريخ العربي الذي لا يفرق بين الحدث والخرافة لافي التاريخ السياسي ولا في مدونات الادب والغزل.
بعض الخرافات تصنع للاستهلاك المحلي المحدودوبعضها للتصدير والناجح منها يخدم الغرضين – امبورت اكسبورت- ومن الفئة الاخيرة الخاصة بالتصدير خرافة العاشق اليمني الذي اختفى في ظروف غامضة ليخدم اغراض الانتقام وولد في ظروف اكثر تمويها خدمة لاهداف الاعتزاز الذاتي لقبائل عريقة تم عزلها وغيرها عن مراكزصناعة القرار وعن الحياة السياسية بشكل عام فلم تجد امامها غير ان تنتقم وان تخترع القصص التي تساعدها على التعويض النفسي واين تجد التعويض ان لم تعثر عليه في فتيانها الذين يغزون مخادع علية القوم ويكفونها مؤنة المعارك غير المتكافئة مع سلطة استأثرت بكل شئ ولم تترك لهم غير فتات الموائد وتأليف الخرافات عن السيدات الأوائل اللواتي يتحرشن بالشعراء ويفتحن أبواب مخادعهن في غيبة الزوج لأي غريب وسيم .
وقد تم ربط اسم السيدة المروانية الاولى بأكثر من شاعر الى ان استقرت الروايات على حبكة عجيبة للمخيال الشعبي ربطت ام البنين غراميا بشاعريمني اسمه عبد الرحمن بن اسماعيل ولقبه او اسمه الحركي عند صانعيه ( وضاح اليمن ) .
وما اجملها واذكاها تلك الحبكةالناجحة التي طورها المخيال العربي المغبون و التي أسطرت تلك الحكاية الجريئة عن عاشق ينطلق من ديار بلقيس ليغزو ارض جلق فلا يوقف حصانه الا في مخدع الخليفةالاموي في دمشق .
واليمن ليس غريبا عن الأسطرة فهناك تم تعطير بلقيس والباسها مسك الخوارق قبل ان تزرع في التاريخ والوجدان بالف اسم ومليون صفة وصورة .
مع وضاح اليمن يختفي التاريخ تماما وتظهر الاسطورة وحدها عارية عن اصلها التاريخي فقد عجز الباحثون وبينهم اصحاب باع كطه حسين واصحاب جلد ككارل بروكلمان عن العثور على شخصية واقعية بذاك الاسم والكسم والجرأةلذا يكون من الافضل ان نلحقها بالخرافات المطورة شعبيا وهي لا تقل عن الاساطير روعة وقدرية واتقان حبكة .
وزيادة في الاقناع اخترعت اليمانية التي كانت تنتقم لنفسها من القيسية قصة حب موازية للتمويه فام البنين ليست حكاية الحب الوحيدة في حياة ذلك الشاعر – اللغز فقد سبقتها الى قلبه كما تقول الرواية الشعبية امرأة فارسية اسمها روضة اقتضت ضرورة السرد الساذج ان تموت بالجذام لتخلي المكان وقلب الشاعر معا لمنافستها الاموية –القرشية وروضة المجذومة لضرورة السرد هي التي قال فيها عدة قصائد لا تدري الحقيقي من المفبرك منها لكن فرضية فبركة القصة من اساسها تغنيك ضمنا عن البحث في اصالة الشعر وصحة نسبته ومن تلك القصائد :
طرق الخيال فمرحبا الفا
بالشاغفات قلوبنا شغفا
ولقد يقول لي الطبيب وما
نبأته من شأننا حرفا
اني لاحسب ان داءك ذا
من ذي دمالج يخضب الكفا
والواضح من حبكة فهد بلان الشائعة - جس الطبيب لي نبضي- ان الذين صنعوا شعر وضاح اليمن لم يهتموا كثيرا بالتجويد فقصائده في ام البنين اردأ من غزله بروضه الفارسية فالشعر لا يهمهم في شئ بمقدار اهتمامهم بأن تنقل الركبان وتتناقل حكاية –السيدة الاولى -التي فتنها عن بيتها وسيادتها وزوجها شاعر غريب اتى من اقاصي الارض وصار يدخل على نساء الامويين بطريقة اسهل من دخول راسبوتين على نساء القياصرة .
وتبدأ الحكاية على ذمة الهيثم بن عدي في السنة التي قصدت فيها ام البنين زوجة الوليد بن عبد الملك مكة حاجة متنسكة وكانت قد سبقتها كتب زوجها يهدد فيه الشعراء بعدم التعرض لها بغزل وسواه وهنا عنصر التحدي الذي يضيف بطولة اضافية الى الفتى اليمني الذي اهمل تحذيرا جعل جميع الشعراء يرتعشون فرقاوهذه بهارات ضرورية ولازمة لخلب لب العامة الذين يحتاجون دوما اى فارس ينتقم لهم ممن لا يستطيعون الوصول اليه .
وكي تقع السيدة الاولى في غرام الشاعر من النظرة الاولى احتاط الرواة المهتمون بالاقناع للامر فجعلوا وضاح اليمن من اجمل الناس واحد الذين كانوا يضطرون الى ستر وجوههم بالاقنعة خوفا من العين وشفقة على النساء ومن هؤلاء غير وضاح ابو زبيد الطائي والمقنع الكندي .
اما لماذا لم يستر وضاح وجهه بقناعه في ذلك اليوم فلأن حبكة الوقوع بالحب من النظرة الاولى لاتستقيم بوجه مقنع لا تعرف ان كان صاحبه قد اخفاه وقاية من الرمل او هربا من جريمة او حرصا على عدم فتنة النساء
تفاصيل غائبة.
ان الذكاء الحقيقي في صناعة تلك الاسطورة الانتقاميةيكمن في تركها دون تفاصيل فالراوي الشعبي يحكي المقدمة والخاتمة ويترك للمخيال ملأ بقية البياض بما يعجبه ويرتاح اليه وان شئت نموذجا على ذلك الاختصار المريب فاليك واجده في عشرات المصادر على هذه الشاكلة التي يرويها محمد بن جعفر مولى ابي هريرة :
( قدمت ام البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي عند الوليد بن عبد الملك حاجة والوليد يومئذ خليفة فبعثت الى كثير والى وضاح اليمن ان انسبا بي – تغزلا – فاما وضاح فانه ذكرها وصرح بالنسيب بها فوجد الوليد عليه السبيل فقتله واما كثير فعدل عن ذكرها ونسب بجاريتها غاضرة).
ولم يكن طلب السيدة الاموية الاولى الى الشعراء التغزل بها غريبا فتلك عادة سبقتها اليها عاتكة بنت معاوية وعائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وغيرهن من ارستقراطيات قريش فالغزل بحد ذاته ليس عيبا لكن العيب عندهن ان تعقبه علاقة فالغزل لهو برئ لا يعاقب عليه القانون ولا التقاليد الاجتماعية الا حين يتحول الى فعل يستثمر اجساد المفتونات بالنسيب وفي حالة ام البنين كان لا بد من العلاقة والا فلا معنى لكل تلك الاختراعات الانتقامية الشعبية والمناطقية من رؤوس الدولة الامويةوبناتهن وزوجاتهن .
وكل من يقرا غزل وضاح بأم البنين يعتقد انها كان يجب ان تتركه لرداءة شعر ه فيها مقارنة مع غزله بروضة ومن ذلك الغث الكثير قوله فيها :
صدع البين والتفرق قلبي
وتولت ام البنين بلبي
ثوت النفس في الحمول لديها
وتولى بالجسم مني صحبي
وقد قلت والمدامع تجري
بدموع كانها فيض غرب
جزعا للفراق يوم تولت
حسبي الله ذو المعارج حسبي
ان اسطورة ابن الشعب الفقير الذي يحب السيدة الاولى وينتهي مدفونا في حجرة نومها ابتكار عربي محض يخدم اعراض العلاج النفسي الجماعي فالشاعر هنا لا يقتل الزوج –الخليفة ويحصل عليها وعلى العرش كما يحصل في الاساطير الغربية ذات الاغراض المماثلة انما يشوه سمعتها ويختفي تماما كما ظهر دون ان يترك أي اثر الافي الذاكرة الشعبية التي تتبنى قصته وتزيد فيها وتتزيد كلما اقتضت الضرورات وكانت الحاجة للانتقام السياسي ملحة .
ولعل نهاية حكاية وضاح على مرارتها اجمل من بدايتها فهناك خيال خصب خلاق ينهي المسألة بمصالحة عجيبة بين الزوجة وزوجها فوق جثة العاشق يقول خالد بن كلثوم في وصف نهاية العاشق اليمني في قصور دمشق :
( كان وضاح قد شبب بام البنين بنت عبد العزيزبن مروان امرأة الوليد بن عبد الملك فبلغ الوليد تشببه بها فأمر بقتله فقال له ابنه عبد العزيز :لا تفعل يا امير المؤمنين فتحقق قوله ولكن افعل به كما فعل معاوية بأبي دهبل فانه لما شبب بابنته شكاه يزيد وسأله ان يقتله فقال : اذن تحقق قوله ولكن تبره وتحسن اليه فبستحي ويكف ويكذب نفسه فلم يقبل منه ذلك وجعله في صندوق ودفنه حيا ).
اما الدراما الحقيقية ففي رواية ابن الكلبي التي سنقصها عليك بعد قليل وهي تفسر اهتمام اهل دمشق بالياسمين وحبهم له وتفضيله على ما سواه من زهور غوطتهم واشجارها فالمخيال الشعبي يزعم ان ياسمينة نبتت فوق التابوت الذي دفن به وضاح حيا وان عشاق دمشق يذهبون اليها مطلع كل ربيع للاحتفاء باسطورة العاشق اليمني الذي انتهى مدفونا في بلادهم في ظروف غامضة.
وشايةخدم .
والاصل في قصة تلك النهاية ان الشاعرلقي حتفه لانه كان يزور زوجة الخليفة في مخدعها ومن وسائل التمويه التي اخترعها الرواة لتحليل ذمتهم وعدم اتهامهم بقذف المحصنات الايحاء بان زوجة الخليفة كانت مريضة وان الزيارة ربما تكون زيارة مريض وليس زيارة عاشق وفي الحالتين يظل الخليفة مدانا ويسهل تحميله وزر دم العاشق الذي نبت على تابوته الياسمين الدمشقي تخليدا لرائحة طيب العشق ولمزيد من الاقناع على هذه الجبهة كان لابد من صناعة قصيدة تبريرية تلمح الى ذلك الاحتمال الصحي البعيد البرئ:
حتام نكتم حزننا حتاما
وعلام نستبقي الدموع علاما
ان الذي بي قد تفاقم واعتلى
ونما وزاد واورث الاسقاما
قد اصبحت ام البنين مريضة
نخشى ونشفق ان يكون حماما
وقدلا تكون المريضة تعاني سكرات الموت كما يوحي الشاعرلكنها وان كانت وعكة فانها مع العشق الذي يضطرم بالفؤاد تجعل الزيارة حتمية ومتكررة ففي رواية ابن الكلبي الدرامية المثيرة لنهاية العاشق اليمني لابد من ظهور الواشي الذي تم اختياره روائيا على عجل من بين خدم القصر يقول ابن الكلبي مؤكدا تعلق السيدة الدمشقية الاولى بفتاها اليمني :
(عشقت ام البنين وضاحا فكانت ترسل اليه فيدخل اليها ويقيم عندها فاذا خافت وارته في صندوق عندها واقفلت عليه فاهدي الوليد جوهرا قيمة فاعجبه واستحسنه فدعا خادما له فبعث به معه الى ام البنين وقال قل لها : ان هذا الجوهر اعجبني فاثرتك به فدخل الخادم عليها مفاجاة ووضاح عندها فادخلته الصندوق وهو يرى فادى اليها رسالة الوليد ودفع اليها الجوهر ثم قال : يا مولاتي هبيني منه حجرا فقالت : لا يابن الخناء ولا كرامة فرجع الى الوليد فاخبره فقال : كذبت يا ابن اللخناء وامر به فوجئت عنقه ثم لبس نعليه ودخل على ام البنين وهي جالسة في ذلك البيت تتمشط وقد وصف له الخادم الصندوق الذي ادخلته فيه فجلس عليه ثم قال لها:يا ام البنين ما احب اليك هذا البيت بين بيوتك فلم تختارينه؟فقالت: اجلس فيه واختاره لانه يجمع حوائجي كلها فاتناولها منه كما اربد من قرب فقال لها :هبي لي صندوقا من هذه الصناديق فقالت :كلها لك يا امير المؤمنين قال : ما اريدها كلها انما اريد واحدا منها فقالت : خذ ايها شئت قال : هذا الذي جلست عليه فقالت : خذ غيره فان لي فيه اشياء احتاج اليها قال : ما اريد غيره قالت : خذه يا امير المؤمنين فدعا بلالخدم وامرهم بحمله فحملوه حتى انتهى به الى مجلسه فوضعه فيه ثم دعا عبيدا له فامرهم فحفروا بئرا بالمجلس عميقة فنحى البساط وحفرت الى الماء ثم دعا بالصندوق فقال له :يا هذا انه بلغنا شئ ان كان حقا فقد كفناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا اثرك الى اخر الدهر وان كان باطلا فاننا دفنا الخشب وما اهون ذلك ) .
لقد اختيرت هذه النهاية الخرافية لتجعلك تعجب بعد التشفي بالحكام الاقوياء بحبكتها المدروسة وتكف عن التساؤل عن الحقيقي والمفبرك في خرافات وقصائد هذا الشاعر فالجوهري في المسألة كلها ان ظن الخليفة المطعون بشرفه خاب فرغم انتصاره على خصمه ودفنه حيا لم ينقطع اثره وخبره الى اخر الدهر بل ظلت هذه القصة – وبتشجيع من العباسسن لاحقا – تروى ويضاف اليها بحيث صار وضاح اليمن من اشهر عشاق التاريخ العربي الذي لا يفرق بين الحدث والخرافة لافي التاريخ السياسي ولا في مدونات الادب والغزل.
بعض الخرافات تصنع للاستهلاك المحلي المحدودوبعضها للتصدير والناجح منها يخدم الغرضين – امبورت اكسبورت- ومن الفئة الاخيرة الخاصة بالتصدير خرافة العاشق اليمني الذي اختفى في ظروف غامضة ليخدم اغراض الانتقام وولد في ظروف اكثر تمويها خدمة لاهداف الاعتزاز الذاتي لقبائل عريقة تم عزلها وغيرها عن مراكزصناعة القرار وعن الحياة السياسية بشكل عام فلم تجد امامها غير ان تنتقم وان تخترع القصص التي تساعدها على التعويض النفسي واين تجد التعويض ان لم تعثر عليه في فتيانها الذين يغزون مخادع علية القوم ويكفونها مؤنة المعارك غير المتكافئة مع سلطة استأثرت بكل شئ ولم تترك لهم غير فتات الموائد وتأليف الخرافات عن السيدات الأوائل اللواتي يتحرشن بالشعراء ويفتحن أبواب مخادعهن في غيبة الزوج لأي غريب وسيم .