وزعمت وزارة الدفاع الإيرانية أنها اعترضت إحدى الطائرات الثلاث المسيَّرة، مع نجاح “الفخاخ الدفاعية” في استهداف المسيَّرتين الأخريين، مما ألحق أضرارًا طفيفة بمبنًى، وكشفت وزارة الدفاع في بيانها الرسمي أن الضرر الناتج عن التفجيرات كان ضئيلًا للغاية وبلا خسائر في الأرواح، لذلك وصفت التفجيرات بالفاشلة. ويحاول تقدير الموقف هذا أن يقدّم قراءة في أبعاد هذا التفجيرات ودلالاتها والأطراف المتورطة وأهدافها، ثم مستقبل المواجهة بين إيران وإسرائيل.
أولًا: هجوم على إيران في ظلّ توترات داخلية وخارجية
يرتبط الهجوم العسكري على إيران من حيث التوقيت بعدد من التطورات والملفات المهمة التي لها أهميتها، أبرزها ما يأتي:
1. تعثر مفاوضات فيينا وتعزيز إيران قدراتها واقترابها من العتبة النووية: توقفت مفاوضات فيينا في سبتمبر 2022م بعدما كانت الأطراف المنخرطة في المفاوضات على مقربة من التفاهم حول خريطة طريق يستعاد معها الاتفاق النووي. بدلًا من الدبلوماسية، دفعت إيران ببرنامجها النووي خطوات إلى الأمام، للوصول إلى العتبة النووية. وأقرت الوكالة الدولية في تقاريرها الأخيرة في نوفمبر 2022م بزيادة إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب، واستمرارها في منع مسؤولي الوكالة من مهامّ التفتيش والرقابة على المواقع النووية، كما صدر تقرير منفصل يتهم إيران بعدم التعاون مع الوكالة في التحقيق بشأن وجود جزيئات يورانيوم مصنع في ثلاثة مواقع. ولم يمنع ذلك إيران من اتخاذ مزيد من التدابير التي تقربها من الوصول إلى صناعة القنبلة النووية، إذا ما قررت ذلك. وأثارت هذه التطورات قلق القوى الإقليمية والدولية، خصوصًا الولايات المتحدة، التي توعَّد رئيسها بأنه قد يوافق على الخيار العسكري ضد إيران في حال فشل الدبلوماسية والضغط والعقوبات.
2. التورط الإيراني في حرب أوكرانيا والتغير الذي طرأ على الموقف الأمريكي والأوروبي: إذ إنّ الغموض الذي بات يحيط بالملف النووي، فضلًا عن مشاركة إيران إلى جانب روسيا في الحرب على أوكرانيا، وإمدادها بالمسيرات والمستشارين، أحدث تحولًا جوهريًّا في الموقف الأمريكي والأوروبي، وبات الطرفان أكثر تنسيقًا بشأن سياسة موحدة لمعاقبة إيران ومواجهتها. الطرف الأمريكي بدأ يتحدث عن مسارات أخرى بديلة عن مسار الدبلوماسية، الذي طالما أصرت عليه إدارة بايدن على مدى قرابة عامين منذ وصوله إلى السلطة، والأطراف الأوروبية أعادت سياسة العقوبات على إيران، وخلَق ذلك إجماعًا عبر الأطلسي في ما يخصّ فرض مزيد من العقوبات على إيران.
3. عودة نتنياهو إلى السلطة ومواجهة حكومته أزمات داخلية تهدد بقاءها: تنخرط إيران وإسرائيل في حرب ظل واسعة النطاق، وبينهما صراع إقليمي ودولي لا يتوقف عند حدود، ولا شك أن هذه الأجواء المشحونة بالصراع وسلوك إيران العدواني، جميعها عوامل أتاحت أجواءً مناسبة لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، للتورط في مثل هذا الهجوم، لأنه ينسجم مع حملة واسعة للضغط على إيران ومواجهة سياساتها، التي ينظر إليها على أنها عدوانية، لا سيما أن لهذه الحكومة الإسرائيلية موقفًا صارمًا من برنامج إيران النووي، وشكوكًا في الاتفاق النووي عمومًا، فضلًا عن أن لها مصلحة في تصدير أزمتها الداخلية إلى الخارج، إذ تواجه هذه الحكومة استقرارًا داخليًّا هشًّا.
4. توقيت حرِج يفاقم أزمة النظام الإيراني ويشير إلى إخفاقه: جاءت الحادثة فيما يواجه النظام اضطرابات داخلية واسعة النطاق منذ وفاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، وهي الاضطرابات التي عكست مدى تراجع شرعية النظام، وجسّدَت إخفاقه وفشله، كما وقعت في توقيت كان يستعدّ فيه خامنئي للمشاركة في معرض للمنتجات العسكرية من ضمنها الطائرات المسيَّرة، وهي رسالة إحراج كبيرة للنظام الإيراني وقيادته.
ثانيًا: الطرف الضالع في الهجوم وأهدافه
لم تعلن وزارة الدفاع الإيرانية رسميًّا حتى الآن، عن الطرف المتورط في سلسلة التفجيرات التي طالت مواقع عسكرية حساسة في أصفهان، غير أن أصابع الاتهام تشير إلى ضلوع إسرائيل في التفجيرات، بالنظر إلى:
1. تأكيدات الصحافة الإسرائيلية وقوف الجيش الإسرائيلي وراء التفجيرات: عادة لا تعلن السلطات الإسرائيلية رسميًّا عن عملياتها التي تنفّذها في إيران، لكن وسائل الإعلام الإسرائيلية كشفت نقلًا عن مسؤولين استخباراتيين إسرائيليين أو أمريكيين لم تسمِّهم، أن الجيش الإسرائيلي نفّذ العمليات العسكرية النوعية في العمق الإيراني، كما نقل موقع “جيروزاليم بوست” بالإنجليزية عن مصادر، قولها إن التفجيرات كانت ناجحة رغم المزاعم الإيرانية، بالنظر إلى عمق التفجيرات والفيديوهات المتداوَلة على مواقع التواصل الاجتماعي.
كما أثارت تغريدة ميخايلو بودولاك مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، شكوك طهران حول احتمال مشاركة كييف تل أبيب في التفجيرات، بقوله: “منطق الحرب مُمِيت ولا يُطاق، ويجبر أمير الحرب والمتواطئين معه على التعويض”. وردّت إيران عبر مجلس الأمن القومي بأن عدم محاولة كييف تبرئة ساحتها يؤكّد أنها شريكة في التفجيرات، “وأنه ما لم تعلن كييف رسميًّا براءتها، فعليها أن تكون مستعدَّة لقبول عواقب هذا الموقف غير المسؤول”.
2. الاتهامات الإيرانية السابقة لتل أبيب في عمليات تفجيرية مماثلة: سبق أن اتهمت السلطات الإيرانية الجانب الإسرائيلي بالوقوف وراء عديد من الانفجارات في مواقع إيرانية حساسة في البلاد، طالت شخصيات فاعلة في النظام الإيراني، مثل العالم النووي محسن فخري زاده، وكذلك اتهمت تل أبيب في هجوم أبريل 2021م على موقع التخصيب النووي في نطنز على نحوٍ أثَّر في إمدادات الطاقة للمنشأة الإستراتيجية وألحق أضرارًا بالغة بعدد من أجهزة الطرد المركزي، وتزامنت آنذاك مع زيارة وزير الدفاع الأمريكي لإسرائيل، وفي يوليو 2022م كشفت طهران عن اعتقالها مجموعة وصفتها بالمخربة تعمل لصالح إسرائيل، كانت تخطط لتفجير مركز صناعي دفاعي حساس (لم تحدِّده) في أصفهان.
3. التهديدات الإسرائيلية المتتالية بتوجيه ضربة وقائية إلى إيران: تردِّد إسرائيل منذ وقت طويل رغبتها في تنفيذ عمل عسكري ضدّ إيران حال فشل المحادثات النووية بين إيران والغرب في إنقاذ الاتفاق النووي الْمُبرَم عام 2015م، وذلك لمنع إيران من اكتساب القدرة على تطوير سلاح نووي بما يجعلها قوة نووية تهدِّد الوجود الإسرائيلي، إذ تعتبر إيران، بل تعتقد أن أي دولة شرق أوسطية وفي مقدمتها إيران تمتلك سلاحًا نوويًّا هي مهدِّد للبقاء والوجود الإسرائيلي، فأزمة إسرائيل الجوهرية بالمنطقة هي أزمة بقاء ووجود.
تشير الدلائل السابقة إلى تورُّط إسرائيل بالشراكة مع أوكرانيا في سلسلة التفجيرات باعتبارها الطرف المستفيد الرئيسي، لاعتبارات تتعلق بحسابات القوى الإقليمية ومساعيها لتعظيم معدلات قوتها ومكانتها وثقلها الإقليمي والدولي من ناحية، مقابل إضعاف قوة ومكانة القوى المنافسة على الريادة والقيادة من ناحية أخرى، لذلك قد تهدف إسرائيل من وراء سلسلة التفجيرات الأخيرة في إيران إلى ما يلي:
أ. بداية مرحلة جديدة من التصعيد اليميني الإسرائيلي ضد إيران: تريد الحكومة الإسرائيلية تأكيد دخول التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد إيران مرحلة جديدة أكثر حسمًا وصرامة، بوصول بنيامين نتنياهو مجددًا إلى الحكم في إسرائيل، إذ احتوى برنامج نتنياهو الانتخابي على سياسات وتوجهات أكثر تشددًا ضد إيران وبرنامجها النووي وميليشياتها المسلحة المنتشرة في سوريا وبقية مناطق النفوذ الإيرانية، لا سيما تلك التي تعتبرها إسرائيل مهددة لوجودها. وبالتالي، تأكيد مصداقية وعود نتنياهو، التي تضمنها برنامجه الانتخابي من ناحية، وطول اليد الإسرائيلية إلى العمق الإيراني من ناحية ثانية، والحفاظ على إسرائيل متفوقة على دول محيطها من ناحية ثالثة، خصوصًا أن نتنياهو يريد أن يثبت لمعارضيه في الداخل أنه القائد القوي الذي عرفته إسرائيل.
ب. إبراز إيران دولة ضعيفة ومخترقة أمنيًّا: عاد نتنياهو بسياسته القديمة الجديدة تجاه إيران، عبر إبرازها دولة ضعيفة مخترقة أمنيًّا أمام الداخل والخارج، وبالتالي تعرية النظام الحاكم أمام الشعب الإيراني، بل والعالم الخارجي، والتشكيك في ما تزعمه إيران من امتلاكها مقدرات قوة جعلتها تمد نطاق نفوذها في عديد من الدول في الشرق الأوسط، من خلال تنفيذ ضربات وتفجيرات -كما وصفها الإسرائيليون- في العمق الإيراني، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من تآكل صورة النظام الإيراني أمام الداخل، ويعمق الأزمات التي يواجهها النظام على ضوء إخفاقاته في معالجة أزماته الداخلية، لتبنّيه سياسات خارجية تخريبية وتوجهات نووية وبرامج باليستية على حساب الشعب الإيراني.
ج. الربط بين التفجيرات واستهداف مصانع المسيَّرات: تهدف إسرائيل بالشراكة مع أوكرانيا -حال صحة رواية تورُّط أوكرانيا-إلى إيصال الرسائل إلى إيران بأن صناعة المسيَّرات باتت ضمن الأهداف الإسرائيلية والأوكرانية، وأن إيران ستدفع ثمن دعمها لروسيا بالمسيَّرات في حربها ضد أوكرانيا، الأمر الذي لعب دورًا بارزًا في الحرب لصالح الروس في بداية الأزمة، ودورها الداعم للمساعي الروسية لتحدِّي القواعد الدولية المفروضة منذ نهاية الحرب الباردة. كما تريد إسرائيل في ظلّ عهد نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة كبح جماح إيران ومواجهة قوتها المتنامية في صناعة المسيَّرات التي باتت تلعب دورًا مركزيًّا في مستقبَل عديد من المعارك والحروب في عالم اليوم.
د. احتواء أصفهان على أهداف عسكرية حساسة: تستهدف إسرائيل بالتحديد أصفهان لكونها تحظى بأهمية عسكرية كبرى لدى القيادة الإيرانية، لاحتوائها على مواقع عسكرية حساسة للغاية، إذ تحتضن قاعدة جوية ضخمة مع عديد من المواقع النووية، بما في ذلك منشأة نطنز النووية، التي تُعَدّ مركز برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، كما تحتضن مصنع “توحيد” الذي هو من أهمّ منشآت تصنيع المسيَّرات في إيران، كما يحتوي على طائرات مقاتلة من طراز F14، ومركز لإنتاج الوقود النووي. كذلك تضمّ أصفهان كثيرًا من مواقع الأبحاث النووية بما في ذلك محطة لتحويل اليورانيوم، مع إبلاغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران من قبل بأن بعض الأنشطة النووية التي كانت تجري في منشأة كرج النووية حتى يونيو 2021م، نُقلَ إلى أصفهان. وإجمالًا تُسَمَّى أصفهان بـ”قلب إيران النابض”.
ثالثًا: نتائج الهجوم ودلالاته
بناء على ما سبق، يمكن الإشارة إلى عدد من الاستنتاجات، أهَمُّها:
أ. وجود ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل: ما كان الهجوم ليقع بلا ضوءً أخضر من الولايات المتحدة لإسرائيل بالهجوم على عدد من المنشآت العسكرية والمدنية في إيران، وهو هجوم سبقته مناورات عسكرية لمحاكاة هجوم أمريكي-إسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية، وتزامن مع زيارة مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتل أبيب، ومن ثم يحمل هذا الهجوم في طياته رسالة ضمنية لإيران بأن استهدافها عسكريًّا خيار غير مُستبعَد، وتشير تقارير إلى مشاركة عملياتية من جانب الولايات المتحدة.
ب. رسالة تحذير وردع لإيران: شمل الهجوم أهدافًا عسكرية يشتبه في أنها لخدمة الأغراض النووية، الأمر الذي يوجه رسالة حاسمة إلى النظام الإيراني بأنه لا تساهل مع مساعيه لامتلاك سلاح نووي، كما قد يكون استهدافًا لمواقع إنتاج الطائرات المسيرة والصواريخ، وهو يهدف إلى الحد من جهود إيران لدعم روسيا في الحرب على أوكرانيا. وعقب الهجوم، علَّق مستشار الرئيس الأوكراني بالقول إنَّ «استهداف مواقع في أصفهان له صلة مباشرة بالحرب في بلادنا».
ج. تعزيز حملة الضغط والعقوبات: بالتزامن مع هذه التفجيرات اندلعت انفجارات أخرى شملت منشآت نفطية، وهو أمر ينسجم مع الرغبة الأمريكية والأوروبية في فرض مزيد من الضغوط على إيران، لا سيما عرقلة صادراتها النفطية التي تزايدت باطّراد منذ قدوم بايدن، لثَنْي إيران عن سلوكها العدائي، وإعادتها إلى طاولة المفاوضات، فضلًا عن استهداف مواقع قد تكون لها صلة بإنتاج أو تخزين الطائرات المسيَّرة التي تمدّ بها إيران روسيا، وتستهدف البنية التحتية في أوكرانيا.
د. التأثير في شرعية النظام داخليًّا: بينما يواجه النظام الحركة الاحتجاجية من خلال القمع والعنف المفرط وحملات الإعدام، سيصوره هذا الهجوم أمام شعبه على أنه نظام عاجز عن التصدي لأعدائه الخارجيين، الذي يقوضون أمنه واستقراره، ويستهدفون بنيته العسكرية وأمن البلاد القومي، لا سيما أنه هجوم من جانب إسرائيل، التي يعتبرها النظام عدوه الأهم في المنطقة، وهو ليس الهجوم الوحيد، بل سبقه عديد من الهجمات التي تشكك في قدرات النظام، وفراغ ادعاءاته بالصمود والتحدي والمواجهة.
رابعًا: مستقبَل المواجهة بين إيران وإسرائيل
في ظل البيئة المضطربة داخل إيران وفي محيطها الخارجي، يمكن الإشارة إلى عدد من السيناريوهات المرتبطة بهذا الهجوم، وهي:
1. تَطوُّر الأزمة إلى صراع ومواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل: يشير هذا السيناريو إلى دخول الصراع بين إسرائيل وإيران مرحلة جديدة من التصعيد والمواجهة المباشرة، بحيث يقود الطرفان عمليات وضربات مؤثّرة في العمق، وقد تكون الولايات المتحدة طرفًا في هذه المواجهة.
تعزّز هذا السيناريو الأزمةُ الداخلية في البلدين التي قد تُغرِي القيادة الداخلية بتصدير أزمتهما إلى الخارج، والقفز على الاستحقاقات الداخلية والضغوط الشعبية، وفي هذا السياق قد تحرِّك إيران وكلائها كحزب الله اللبناني لاستهداف بعض المواقع الإسرائيلية. كذلك يدفع إلى هذا السيناريو تَعثُّر مسار الدبلوماسية وانسداد الأفق أمام إحياء الاتفاق النووي، وتَخَطِّي إيران الخطوط الحمراء للولايات المتحدة وإسرائيل بشأن الاقتراب من العتبة النووية، والمخاوف من مساعيها لتعزيز هيمنتها من خلال امتلاك سلاح غير تقليدي قد يقلب ميزان القوة الإقليمي، ناهيك بالتصريح الأمريكي بالاستعداد لخيار المواجهة العسكرية مع إيران، والترتيبات العسكرية لمثل هذا الخيار كالتدريبات العسكرية المشتركة مع إسرائيل على عمليات ضدّ إيران خلال المرحلة الأخيرة، وفي المقابل اتِّهام بعض الأطراف الإيرانية الجانب الإسرائيلي بتنفيذ الهجوم وأشارت مواقع محسوبة على الحرس الثوري إلى الاستعداد للردّ، وهو ما قد يقود في ظلّ التطورات الراهنة إلى مواجهة واسعة النطاق.
2. التهدئة وتجاهل إيران للحادثة: يشير هذا السيناريو إلى تباطؤ إيران في الرد من أجل تَجنُّب تصعيد واسع النطاق يصل إلى مواجهة مباشرة أو توسيع نطاق المواجهة غير المباشرة، وربما تجاهل الحادثة بالكلية، لا سيما وأنه وفقًا للرواية الإيرانية، لم تلحق أضرار بالغة بالمنشأة المستهدَفة، ولم تقع خسائر في الأرواح، وتكتفي بتهديد إسرائيل بالردّ، كما تفعل دائمًا.
يعزّز هذا السيناريو الوضعُ الذي تمرّ به إيران حاليًّا والاضطرابات الداخلية التي قد تتزايد في ظلّ دخول إيران مواجهة كبرى مع إسرائيل وربما الولايات المتحدة، فضلًا عن الضغوط الدولية التي تواجهها في ملفات عدة كتَعثُّر المفاوضات النووية والاتهامات الغربية لها بالتورط في الحرب الروسية-الأوكرانية، والقلق من جرِّها إلى حرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد اعتادت إيران أن يكون ردّها على مثل هذه الهجمات غير مباشر وغير مرتبط بحيِّز زمني، مع عدم تَحمُّل المسؤولية عنه.
3. تصعيد في إطار حرب الظلّ التقليدية بين الجانبين: يشير هذا السيناريو إلى استمرار الطرفين في متابعة حرب الظلّ والمواجهة غير المباشرة، التي تشمل مواجهة بحرية وبرية وجوية وفي الفضاء الإلكتروني، والتي تأرجحت وتيرتها خلال السنوات الثلاث الماضية بين التصعيد والتهدئة حسب مجريات الأحداث والتطورات، وفي هذا الإطار قد تردّ إيران على العدوان الإسرائيلي بعمليات تنفّذها طائرات مسيَّرة في عمق الأراضي المحتلة، انطلاقًا من سوريا أو لبنان حيث يتمركز وكلاء إيران، أو تنفيذ هجمات إلكترونية ضدّ إسرائيل، أو استهداف السفن الإسرائيلية في المياه الدولية.
تعزّز هذا السيناريو التكلفةُ الباهظة لدخول مواجهة مباشرة قد لا يعرف الطرفين متي وكيف ستنتهي، بالإضافة إلى أنها الطريقة التي اعتادها الطرفان منذ عقود وباتت ضمن استراتيجياتهما، بالإضافة إلى أنها توفّر ردعًا متبادَلًا مع عدم تَحمُّل مسؤولية مباشرة.
ويبدو أن حرب الظلٍّ هي الخيار الأكثر واقعية للجانبين خلال المرحلة الراهنة، بما يعنى عدم استبعاد تبادُل هجمات بلا إعلان عن تَحمُّل مسؤوليتها، إلا إذا اتجهت إيران إلى تَخَطِّي العتبة النووية، الذي سيكون بداية لتغيُّر نهج إسرائيل والولايات المتحدة.
أولًا: هجوم على إيران في ظلّ توترات داخلية وخارجية
يرتبط الهجوم العسكري على إيران من حيث التوقيت بعدد من التطورات والملفات المهمة التي لها أهميتها، أبرزها ما يأتي:
1. تعثر مفاوضات فيينا وتعزيز إيران قدراتها واقترابها من العتبة النووية: توقفت مفاوضات فيينا في سبتمبر 2022م بعدما كانت الأطراف المنخرطة في المفاوضات على مقربة من التفاهم حول خريطة طريق يستعاد معها الاتفاق النووي. بدلًا من الدبلوماسية، دفعت إيران ببرنامجها النووي خطوات إلى الأمام، للوصول إلى العتبة النووية. وأقرت الوكالة الدولية في تقاريرها الأخيرة في نوفمبر 2022م بزيادة إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب، واستمرارها في منع مسؤولي الوكالة من مهامّ التفتيش والرقابة على المواقع النووية، كما صدر تقرير منفصل يتهم إيران بعدم التعاون مع الوكالة في التحقيق بشأن وجود جزيئات يورانيوم مصنع في ثلاثة مواقع. ولم يمنع ذلك إيران من اتخاذ مزيد من التدابير التي تقربها من الوصول إلى صناعة القنبلة النووية، إذا ما قررت ذلك. وأثارت هذه التطورات قلق القوى الإقليمية والدولية، خصوصًا الولايات المتحدة، التي توعَّد رئيسها بأنه قد يوافق على الخيار العسكري ضد إيران في حال فشل الدبلوماسية والضغط والعقوبات.
2. التورط الإيراني في حرب أوكرانيا والتغير الذي طرأ على الموقف الأمريكي والأوروبي: إذ إنّ الغموض الذي بات يحيط بالملف النووي، فضلًا عن مشاركة إيران إلى جانب روسيا في الحرب على أوكرانيا، وإمدادها بالمسيرات والمستشارين، أحدث تحولًا جوهريًّا في الموقف الأمريكي والأوروبي، وبات الطرفان أكثر تنسيقًا بشأن سياسة موحدة لمعاقبة إيران ومواجهتها. الطرف الأمريكي بدأ يتحدث عن مسارات أخرى بديلة عن مسار الدبلوماسية، الذي طالما أصرت عليه إدارة بايدن على مدى قرابة عامين منذ وصوله إلى السلطة، والأطراف الأوروبية أعادت سياسة العقوبات على إيران، وخلَق ذلك إجماعًا عبر الأطلسي في ما يخصّ فرض مزيد من العقوبات على إيران.
3. عودة نتنياهو إلى السلطة ومواجهة حكومته أزمات داخلية تهدد بقاءها: تنخرط إيران وإسرائيل في حرب ظل واسعة النطاق، وبينهما صراع إقليمي ودولي لا يتوقف عند حدود، ولا شك أن هذه الأجواء المشحونة بالصراع وسلوك إيران العدواني، جميعها عوامل أتاحت أجواءً مناسبة لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، للتورط في مثل هذا الهجوم، لأنه ينسجم مع حملة واسعة للضغط على إيران ومواجهة سياساتها، التي ينظر إليها على أنها عدوانية، لا سيما أن لهذه الحكومة الإسرائيلية موقفًا صارمًا من برنامج إيران النووي، وشكوكًا في الاتفاق النووي عمومًا، فضلًا عن أن لها مصلحة في تصدير أزمتها الداخلية إلى الخارج، إذ تواجه هذه الحكومة استقرارًا داخليًّا هشًّا.
4. توقيت حرِج يفاقم أزمة النظام الإيراني ويشير إلى إخفاقه: جاءت الحادثة فيما يواجه النظام اضطرابات داخلية واسعة النطاق منذ وفاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، وهي الاضطرابات التي عكست مدى تراجع شرعية النظام، وجسّدَت إخفاقه وفشله، كما وقعت في توقيت كان يستعدّ فيه خامنئي للمشاركة في معرض للمنتجات العسكرية من ضمنها الطائرات المسيَّرة، وهي رسالة إحراج كبيرة للنظام الإيراني وقيادته.
ثانيًا: الطرف الضالع في الهجوم وأهدافه
لم تعلن وزارة الدفاع الإيرانية رسميًّا حتى الآن، عن الطرف المتورط في سلسلة التفجيرات التي طالت مواقع عسكرية حساسة في أصفهان، غير أن أصابع الاتهام تشير إلى ضلوع إسرائيل في التفجيرات، بالنظر إلى:
1. تأكيدات الصحافة الإسرائيلية وقوف الجيش الإسرائيلي وراء التفجيرات: عادة لا تعلن السلطات الإسرائيلية رسميًّا عن عملياتها التي تنفّذها في إيران، لكن وسائل الإعلام الإسرائيلية كشفت نقلًا عن مسؤولين استخباراتيين إسرائيليين أو أمريكيين لم تسمِّهم، أن الجيش الإسرائيلي نفّذ العمليات العسكرية النوعية في العمق الإيراني، كما نقل موقع “جيروزاليم بوست” بالإنجليزية عن مصادر، قولها إن التفجيرات كانت ناجحة رغم المزاعم الإيرانية، بالنظر إلى عمق التفجيرات والفيديوهات المتداوَلة على مواقع التواصل الاجتماعي.
كما أثارت تغريدة ميخايلو بودولاك مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، شكوك طهران حول احتمال مشاركة كييف تل أبيب في التفجيرات، بقوله: “منطق الحرب مُمِيت ولا يُطاق، ويجبر أمير الحرب والمتواطئين معه على التعويض”. وردّت إيران عبر مجلس الأمن القومي بأن عدم محاولة كييف تبرئة ساحتها يؤكّد أنها شريكة في التفجيرات، “وأنه ما لم تعلن كييف رسميًّا براءتها، فعليها أن تكون مستعدَّة لقبول عواقب هذا الموقف غير المسؤول”.
2. الاتهامات الإيرانية السابقة لتل أبيب في عمليات تفجيرية مماثلة: سبق أن اتهمت السلطات الإيرانية الجانب الإسرائيلي بالوقوف وراء عديد من الانفجارات في مواقع إيرانية حساسة في البلاد، طالت شخصيات فاعلة في النظام الإيراني، مثل العالم النووي محسن فخري زاده، وكذلك اتهمت تل أبيب في هجوم أبريل 2021م على موقع التخصيب النووي في نطنز على نحوٍ أثَّر في إمدادات الطاقة للمنشأة الإستراتيجية وألحق أضرارًا بالغة بعدد من أجهزة الطرد المركزي، وتزامنت آنذاك مع زيارة وزير الدفاع الأمريكي لإسرائيل، وفي يوليو 2022م كشفت طهران عن اعتقالها مجموعة وصفتها بالمخربة تعمل لصالح إسرائيل، كانت تخطط لتفجير مركز صناعي دفاعي حساس (لم تحدِّده) في أصفهان.
3. التهديدات الإسرائيلية المتتالية بتوجيه ضربة وقائية إلى إيران: تردِّد إسرائيل منذ وقت طويل رغبتها في تنفيذ عمل عسكري ضدّ إيران حال فشل المحادثات النووية بين إيران والغرب في إنقاذ الاتفاق النووي الْمُبرَم عام 2015م، وذلك لمنع إيران من اكتساب القدرة على تطوير سلاح نووي بما يجعلها قوة نووية تهدِّد الوجود الإسرائيلي، إذ تعتبر إيران، بل تعتقد أن أي دولة شرق أوسطية وفي مقدمتها إيران تمتلك سلاحًا نوويًّا هي مهدِّد للبقاء والوجود الإسرائيلي، فأزمة إسرائيل الجوهرية بالمنطقة هي أزمة بقاء ووجود.
تشير الدلائل السابقة إلى تورُّط إسرائيل بالشراكة مع أوكرانيا في سلسلة التفجيرات باعتبارها الطرف المستفيد الرئيسي، لاعتبارات تتعلق بحسابات القوى الإقليمية ومساعيها لتعظيم معدلات قوتها ومكانتها وثقلها الإقليمي والدولي من ناحية، مقابل إضعاف قوة ومكانة القوى المنافسة على الريادة والقيادة من ناحية أخرى، لذلك قد تهدف إسرائيل من وراء سلسلة التفجيرات الأخيرة في إيران إلى ما يلي:
أ. بداية مرحلة جديدة من التصعيد اليميني الإسرائيلي ضد إيران: تريد الحكومة الإسرائيلية تأكيد دخول التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد إيران مرحلة جديدة أكثر حسمًا وصرامة، بوصول بنيامين نتنياهو مجددًا إلى الحكم في إسرائيل، إذ احتوى برنامج نتنياهو الانتخابي على سياسات وتوجهات أكثر تشددًا ضد إيران وبرنامجها النووي وميليشياتها المسلحة المنتشرة في سوريا وبقية مناطق النفوذ الإيرانية، لا سيما تلك التي تعتبرها إسرائيل مهددة لوجودها. وبالتالي، تأكيد مصداقية وعود نتنياهو، التي تضمنها برنامجه الانتخابي من ناحية، وطول اليد الإسرائيلية إلى العمق الإيراني من ناحية ثانية، والحفاظ على إسرائيل متفوقة على دول محيطها من ناحية ثالثة، خصوصًا أن نتنياهو يريد أن يثبت لمعارضيه في الداخل أنه القائد القوي الذي عرفته إسرائيل.
ب. إبراز إيران دولة ضعيفة ومخترقة أمنيًّا: عاد نتنياهو بسياسته القديمة الجديدة تجاه إيران، عبر إبرازها دولة ضعيفة مخترقة أمنيًّا أمام الداخل والخارج، وبالتالي تعرية النظام الحاكم أمام الشعب الإيراني، بل والعالم الخارجي، والتشكيك في ما تزعمه إيران من امتلاكها مقدرات قوة جعلتها تمد نطاق نفوذها في عديد من الدول في الشرق الأوسط، من خلال تنفيذ ضربات وتفجيرات -كما وصفها الإسرائيليون- في العمق الإيراني، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من تآكل صورة النظام الإيراني أمام الداخل، ويعمق الأزمات التي يواجهها النظام على ضوء إخفاقاته في معالجة أزماته الداخلية، لتبنّيه سياسات خارجية تخريبية وتوجهات نووية وبرامج باليستية على حساب الشعب الإيراني.
ج. الربط بين التفجيرات واستهداف مصانع المسيَّرات: تهدف إسرائيل بالشراكة مع أوكرانيا -حال صحة رواية تورُّط أوكرانيا-إلى إيصال الرسائل إلى إيران بأن صناعة المسيَّرات باتت ضمن الأهداف الإسرائيلية والأوكرانية، وأن إيران ستدفع ثمن دعمها لروسيا بالمسيَّرات في حربها ضد أوكرانيا، الأمر الذي لعب دورًا بارزًا في الحرب لصالح الروس في بداية الأزمة، ودورها الداعم للمساعي الروسية لتحدِّي القواعد الدولية المفروضة منذ نهاية الحرب الباردة. كما تريد إسرائيل في ظلّ عهد نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة كبح جماح إيران ومواجهة قوتها المتنامية في صناعة المسيَّرات التي باتت تلعب دورًا مركزيًّا في مستقبَل عديد من المعارك والحروب في عالم اليوم.
د. احتواء أصفهان على أهداف عسكرية حساسة: تستهدف إسرائيل بالتحديد أصفهان لكونها تحظى بأهمية عسكرية كبرى لدى القيادة الإيرانية، لاحتوائها على مواقع عسكرية حساسة للغاية، إذ تحتضن قاعدة جوية ضخمة مع عديد من المواقع النووية، بما في ذلك منشأة نطنز النووية، التي تُعَدّ مركز برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، كما تحتضن مصنع “توحيد” الذي هو من أهمّ منشآت تصنيع المسيَّرات في إيران، كما يحتوي على طائرات مقاتلة من طراز F14، ومركز لإنتاج الوقود النووي. كذلك تضمّ أصفهان كثيرًا من مواقع الأبحاث النووية بما في ذلك محطة لتحويل اليورانيوم، مع إبلاغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران من قبل بأن بعض الأنشطة النووية التي كانت تجري في منشأة كرج النووية حتى يونيو 2021م، نُقلَ إلى أصفهان. وإجمالًا تُسَمَّى أصفهان بـ”قلب إيران النابض”.
ثالثًا: نتائج الهجوم ودلالاته
بناء على ما سبق، يمكن الإشارة إلى عدد من الاستنتاجات، أهَمُّها:
أ. وجود ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل: ما كان الهجوم ليقع بلا ضوءً أخضر من الولايات المتحدة لإسرائيل بالهجوم على عدد من المنشآت العسكرية والمدنية في إيران، وهو هجوم سبقته مناورات عسكرية لمحاكاة هجوم أمريكي-إسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية، وتزامن مع زيارة مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتل أبيب، ومن ثم يحمل هذا الهجوم في طياته رسالة ضمنية لإيران بأن استهدافها عسكريًّا خيار غير مُستبعَد، وتشير تقارير إلى مشاركة عملياتية من جانب الولايات المتحدة.
ب. رسالة تحذير وردع لإيران: شمل الهجوم أهدافًا عسكرية يشتبه في أنها لخدمة الأغراض النووية، الأمر الذي يوجه رسالة حاسمة إلى النظام الإيراني بأنه لا تساهل مع مساعيه لامتلاك سلاح نووي، كما قد يكون استهدافًا لمواقع إنتاج الطائرات المسيرة والصواريخ، وهو يهدف إلى الحد من جهود إيران لدعم روسيا في الحرب على أوكرانيا. وعقب الهجوم، علَّق مستشار الرئيس الأوكراني بالقول إنَّ «استهداف مواقع في أصفهان له صلة مباشرة بالحرب في بلادنا».
ج. تعزيز حملة الضغط والعقوبات: بالتزامن مع هذه التفجيرات اندلعت انفجارات أخرى شملت منشآت نفطية، وهو أمر ينسجم مع الرغبة الأمريكية والأوروبية في فرض مزيد من الضغوط على إيران، لا سيما عرقلة صادراتها النفطية التي تزايدت باطّراد منذ قدوم بايدن، لثَنْي إيران عن سلوكها العدائي، وإعادتها إلى طاولة المفاوضات، فضلًا عن استهداف مواقع قد تكون لها صلة بإنتاج أو تخزين الطائرات المسيَّرة التي تمدّ بها إيران روسيا، وتستهدف البنية التحتية في أوكرانيا.
د. التأثير في شرعية النظام داخليًّا: بينما يواجه النظام الحركة الاحتجاجية من خلال القمع والعنف المفرط وحملات الإعدام، سيصوره هذا الهجوم أمام شعبه على أنه نظام عاجز عن التصدي لأعدائه الخارجيين، الذي يقوضون أمنه واستقراره، ويستهدفون بنيته العسكرية وأمن البلاد القومي، لا سيما أنه هجوم من جانب إسرائيل، التي يعتبرها النظام عدوه الأهم في المنطقة، وهو ليس الهجوم الوحيد، بل سبقه عديد من الهجمات التي تشكك في قدرات النظام، وفراغ ادعاءاته بالصمود والتحدي والمواجهة.
رابعًا: مستقبَل المواجهة بين إيران وإسرائيل
في ظل البيئة المضطربة داخل إيران وفي محيطها الخارجي، يمكن الإشارة إلى عدد من السيناريوهات المرتبطة بهذا الهجوم، وهي:
1. تَطوُّر الأزمة إلى صراع ومواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل: يشير هذا السيناريو إلى دخول الصراع بين إسرائيل وإيران مرحلة جديدة من التصعيد والمواجهة المباشرة، بحيث يقود الطرفان عمليات وضربات مؤثّرة في العمق، وقد تكون الولايات المتحدة طرفًا في هذه المواجهة.
تعزّز هذا السيناريو الأزمةُ الداخلية في البلدين التي قد تُغرِي القيادة الداخلية بتصدير أزمتهما إلى الخارج، والقفز على الاستحقاقات الداخلية والضغوط الشعبية، وفي هذا السياق قد تحرِّك إيران وكلائها كحزب الله اللبناني لاستهداف بعض المواقع الإسرائيلية. كذلك يدفع إلى هذا السيناريو تَعثُّر مسار الدبلوماسية وانسداد الأفق أمام إحياء الاتفاق النووي، وتَخَطِّي إيران الخطوط الحمراء للولايات المتحدة وإسرائيل بشأن الاقتراب من العتبة النووية، والمخاوف من مساعيها لتعزيز هيمنتها من خلال امتلاك سلاح غير تقليدي قد يقلب ميزان القوة الإقليمي، ناهيك بالتصريح الأمريكي بالاستعداد لخيار المواجهة العسكرية مع إيران، والترتيبات العسكرية لمثل هذا الخيار كالتدريبات العسكرية المشتركة مع إسرائيل على عمليات ضدّ إيران خلال المرحلة الأخيرة، وفي المقابل اتِّهام بعض الأطراف الإيرانية الجانب الإسرائيلي بتنفيذ الهجوم وأشارت مواقع محسوبة على الحرس الثوري إلى الاستعداد للردّ، وهو ما قد يقود في ظلّ التطورات الراهنة إلى مواجهة واسعة النطاق.
2. التهدئة وتجاهل إيران للحادثة: يشير هذا السيناريو إلى تباطؤ إيران في الرد من أجل تَجنُّب تصعيد واسع النطاق يصل إلى مواجهة مباشرة أو توسيع نطاق المواجهة غير المباشرة، وربما تجاهل الحادثة بالكلية، لا سيما وأنه وفقًا للرواية الإيرانية، لم تلحق أضرار بالغة بالمنشأة المستهدَفة، ولم تقع خسائر في الأرواح، وتكتفي بتهديد إسرائيل بالردّ، كما تفعل دائمًا.
يعزّز هذا السيناريو الوضعُ الذي تمرّ به إيران حاليًّا والاضطرابات الداخلية التي قد تتزايد في ظلّ دخول إيران مواجهة كبرى مع إسرائيل وربما الولايات المتحدة، فضلًا عن الضغوط الدولية التي تواجهها في ملفات عدة كتَعثُّر المفاوضات النووية والاتهامات الغربية لها بالتورط في الحرب الروسية-الأوكرانية، والقلق من جرِّها إلى حرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد اعتادت إيران أن يكون ردّها على مثل هذه الهجمات غير مباشر وغير مرتبط بحيِّز زمني، مع عدم تَحمُّل المسؤولية عنه.
3. تصعيد في إطار حرب الظلّ التقليدية بين الجانبين: يشير هذا السيناريو إلى استمرار الطرفين في متابعة حرب الظلّ والمواجهة غير المباشرة، التي تشمل مواجهة بحرية وبرية وجوية وفي الفضاء الإلكتروني، والتي تأرجحت وتيرتها خلال السنوات الثلاث الماضية بين التصعيد والتهدئة حسب مجريات الأحداث والتطورات، وفي هذا الإطار قد تردّ إيران على العدوان الإسرائيلي بعمليات تنفّذها طائرات مسيَّرة في عمق الأراضي المحتلة، انطلاقًا من سوريا أو لبنان حيث يتمركز وكلاء إيران، أو تنفيذ هجمات إلكترونية ضدّ إسرائيل، أو استهداف السفن الإسرائيلية في المياه الدولية.
تعزّز هذا السيناريو التكلفةُ الباهظة لدخول مواجهة مباشرة قد لا يعرف الطرفين متي وكيف ستنتهي، بالإضافة إلى أنها الطريقة التي اعتادها الطرفان منذ عقود وباتت ضمن استراتيجياتهما، بالإضافة إلى أنها توفّر ردعًا متبادَلًا مع عدم تَحمُّل مسؤولية مباشرة.
ويبدو أن حرب الظلٍّ هي الخيار الأكثر واقعية للجانبين خلال المرحلة الراهنة، بما يعنى عدم استبعاد تبادُل هجمات بلا إعلان عن تَحمُّل مسؤوليتها، إلا إذا اتجهت إيران إلى تَخَطِّي العتبة النووية، الذي سيكون بداية لتغيُّر نهج إسرائيل والولايات المتحدة.