الملف المُتاح بأكمله الآن يَرسمُ صورةً لمجرم حرب تنعَّمَ برفاهية وحماية حُكّام سوريا طوال عقود، ابتداءً بعبد الحميد السراج ثم الأسد الأب؛ فيما كانت الاستخبارات في ألمانيا الغربية تُعيق التحقيقات ضده، وأولى الحكومات الألمانية بعد الحرب تتقاعس عن مطالبة السلطات في سوريا بتسليمه. كذلك، تشي المعلومات بالسبب الذي ربّما دفع الاستخبارات إلى محاولة التكتُّم على ما تعرفه عن برونر إلى الأبد، ألا وهو تفادي كشف معرفتها منذ عقود بمكان تواجده في دمشق، وكذلك العلاقات القائمة بين برونر وباقي قدامى النازيين، بما فيهم نازيٌّ سابق وصفته صفحات الملف كـ«مصدر جدير بالثقة»، تفادياً للسجال حول اتهامها بتجنيد برونر طوال تلك السنوات.
تنتمي الوثائق إلى مرحلتين زمنيتين، أولهما تبدأ في نهاية الخمسينيات وتنتهي في العام 1963. وبعد فجوة زمنية تبلغ 20 عاماً تقريباً، ينشط ملفّ برونر مجدداً من عام 1984، فيما ينتهي الملف بوثائق تعود لكانون الأول (ديسمبر) عام 1991.
الكتابة عن محتويات الملف تَحدٍّ هائل، بدايةً من صعوبة قراءة الوثائق العائدة إلى الستينيات ذات الجودة الرديئة والأحرف التي محاها الزمن، وليس انتهاءً بتصنيف الشخصيات الواردة أسماؤها ومعرفة دور كل شخص في كل فترة من حياة برونر، وتلخيص محتوى 400 صفحة في نصٍّ ذي طول مقبول للقراءة. رغم ذلك حاولت، والتالي هو النتيجة:
تُظهر الصفحات الأولى من الملف أن الاستخبارات الداخلية الألمانية كانت تعلم منذ العام 1960، عبر تقريرِ عميل لها، بوجود برونر في دمشق تحت مسمّى غيورغ فيشر. يتحدّثُ العميلُ في تقريره عن سعي رئيس الاستخبارات ووزير الداخلية عبد الحميد السراج إلى حماية برونر من التسليم إلى ألمانيا ودول أوروبية أخرى عبر أمره ببدء إجراءات منحه جنسية الجمهورية العربية المتحدة، وصرفِ النظر عن عدم إتقانه العربية الفصحى.
*****
في شهادة مُحلَّفة تعود لحزيران (يونيو) 1960، يقول الصحفي هيرمان شيفر أنَّ جورج فيشر، المنخرط في نشاطات تجارة أسلحة غير مشروعة، ليس سوى ألويس برونر، المطلوب من قبل عدة دول عن جرائمه في سياق الهولوكست، والذي «يعمل» في سوريا تحت إمرة السراج.
وفي هذا السياق، توْرِدُ الاستخبارات مقالةً صحفية عن حلقة تجارة أسلحة تضمُّ ريمر إلى جانب أدولف آيخمان، الذي بات معتقلاً في إسرائيل، وإرنست فيلهلم شبرنغر وألويس برونر. وتوضح أن شبرنغر وريمر يقومان بتجارة مُميتة ومربحة مع شركة أوتراكو (أورينت تريد كومباني) التي يقع مقرُّها في دمشق، وترتبط بشخص يدعى فيشر، هو في الحقيقة ألويس برونر.
*****
في آب (أغسطس) 1960، طلبت النيابة العامة في فرانكفورت من الاستخبارات الداخلية كلَّ ما لديها من معلومات عن برونر، بداعي أنها تحقق ضده عن جرائم قتل خلال الحقبة النازية. الاستخبارات ردّت بأن ما لديها من معلومات مرتبط بتجارة الأسلحة، لا بنشاطه كقيادي في الـ«أس أس»، موضحة أن باقي المعلومات المتعلقة بنشاط برونر في دمشق مُصنَّفة تحت «حماية المصدر» ولا يمكن مشاركتها.
*****
في وثيقة تعود إلى كانون الثاني (يناير) 1961، نقرأ شهادة عضو البوندستاغ، رودولف فوغل، حول اتهامه بمساعدة برونر على الهرب. يروي البرلماني المسيحي-الديمقراطي كيف زاره الدكتور فيشر مرّة دون موعد بين عامي 1950 و1952، سائلاً إياه إن كان لا يريد أن يتبرع، أسوة بمجموعة من الأصدقاء، ببعض المال لزوجة برونر المتواجد حينها في الأرجنتين، والتي تعيش في ظل ظروف صعبة، فقدّمَ فوغل ما بين 100 و200 مارك ألماني. وادّعى فوغل أنه تعرّفَ على برونر في سالونيك في اليونان خلال الحرب العالمية، بين عامي 1942 و1943، عندما كان صحفياً ونُقل عقابياً من باريس. لاحقاً، طلب فوغل من برونر، الذي انتقل «للعمل» في باريس، أن يُرسل لوحةً باهظة الثمن تركها في باريس إلى عنوان منزله في ألمانيا، فلبّى برونر طلبه بالفعل، ناكراً أن يكون قد التقاه بعد ذلك، لا في ألمانيا ولا في دمشق حينما ذهب لزيارة معرضها، ونافياً إمكانية وجود صورة تجمعهما هناك.
*****
قراءة وثيقة مؤرخة في 1 شباط (فبراير) 1961، صادرة من استخبارات ولاية بافاريا، تُظهر لنا أن ما يشغلها هو معرفة طبيعة العلاقة سابقاً وحالياً بين برونر وغيورغ فيشر، الشخصية الحقيقية المُقيمة في بون، وفيما إذا ساهم فيشر في هرب برونر.
*****
في وثيقة مؤرخة في شباط (فبراير) 1961، يُنقل عن صحفي يُدعى هورست ماهنكه، رئيس تحرير مجلة كريستال، قوله إن فيشر أخبره أن برونر انتزع منه جواز سفره وسافر عبره من دوسلدورف إلى سوريا، وأن البرلماني فوغل منحه 300 مارك ليساعد برونر على الهروب.
ويَنقلُ مانكه (عمل مع شبيغل أيضاً) عن برونر زعمه في دمشق أنه وجد جواز سفر فيشر أمام باب بيته. الاستخبارات لا ترى هذه الأقوال مُقنعة.
*****
في رسالة مؤرخة في نهاية شباط (فبراير) 1961، تُرسل نيابة فرانكفورت ملف برونر، المكون من قرابة الـ50 صفحة، إلى المخابرات الألمانية بناءً على مطلب مُقيِّم حكومي. يتضمّن الملف بيانات برونر الشخصية وماضيه، مُثبَتاً بوثائق نازية.
*****
كما يتحدث شتاينهاوس عن تلميح رادماخر له بأن برونر مدعومٌ مالياً من المكتب الثاني، المخابرات السورية، ويلتقي بين الحين والآخر ضابطاً اسمه ممدوح ميداني، والذي يعبِّر شتاينهاوس عن تقديره له كشخص ذو موقف لطيف من الألمان، وسبق وأن حارب مع النازيين في الحرب العالمية الثانية.
*****
وثيقة أخرى من ذلك العام تتضمّنُ نتائج التحقيق مع كارل فيلهلم رومين، وهو مُدرِّب سابق لدى سلاح الجو السوري، يعمل في شركة في دمشق، وأخرى في ميونيخ. يتحدّث رومين عن إقامته في دمشق منذ العام 1948، وتَعرُّفه على شخص يدعى فيشر في 1957 كان يلتقيه كل أسبوع تقريباً، لكنه لا يعلم إن كان هو برونر نفسه، معطياً أوصافاً تنطبق عليه. يقول إن ذلك الشخص يُقيم لدى ألماني يدعى كورت فيتزكي في منطقة الروضة بإيجار مؤقت، وأنّه كان يعمل لدى تاجر ثم لدى شركة تدعى شامكور، يُديرها كارل هاينز شبيث.
وتحدّث عن تجنبه الدائرة التي كان (فيشر/برونر) يتحرّك فيها لأنها كانت تضُمُّ راديماخر وشبيت وموهر، وهي، حسب رأيه، دائرة من النازيين الذين وجدوا ملجأً لهم في سوريا.
*****
تتضمّن وثيقةٌ لوزارة داخلية ساكسونيا السفلى في مايو (أيار) 1961 ما قاله الصحفي هورست مانكه عن برونر خلال محاكمة في هامبورغ. تحدّثَ فيها عن تكليفه صحفياً متواجداً كرجل أعمال في دمشق اسمه هيرمان شيفر، بجمع معلومات عن رجل يُدعى فيشر هناك، فعاد إليه مؤكداً وجود هكذا شخص هناك يترأس شركةً يقعُ مكتبها في مبنى قرب فندق أمية الجديد، ولها تمثيلٌ في الكويت وعمان أيضاً.
وأشار إلى أن جواز سفر فيشر قد انقضت مُدّته ولا تُمدِّدُ له القنصلية الألمانية صلاحيته، متحدثاً عن علاقات برونر القوية مع السراج الذي ساعده في التجنيس، وكذلك مع الضابط في المخابرات السورية، الميداني، الذي قاتل مع النازيين.
ويُشير إلى وجود مذكّرات تسليم ضد برونر من اليونان وأميركا والنمسا، وتكليف الإنتربول بالبحث عنه، لكن ميداني أمَرَ بالردِّ عليها بالقول إنه ليس هناك شخص باسم برونر أو فيشر في دمشق.
*****
في آب (أغسطس) 1961، انشغلت الاستخبارات بما وردها من جهاز استخباراتٍ صديق عن عمل برونر في تجارة البيرة، بالتعاون مع شركة يقعُ مقرُّها في هامبورغ، تعود لصديقه تاجر السلاح والمحامي فريتز كروغر، المنخرط في تجارة السلاح مع شبرنغر.
*****
في أيلول (سبتمبر) من عام 1961، نجدُ صورةً لخبرٍ ضمّته الاستخبارات إلى ملف برونر عن تعرُّضه لإصابة بليغة وفقدانه ليده وعينه وتضرر نظره في العين الأخرى، إثر انفجار طردٍ استلمه من البريد في دمشق وفتحه. يُشار إلى أنه بات تحت حراسة مشددة منذ إصابته.
نشاهد أيضاً خبراً لصحيفة ألمانية، نقلاً عن معاريف الإسرائيلية، في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام، عن اعتقال برونر في دمشق على خلفية «الثورة السورية» (إعلان الانفصال عن مصر)، خلال محاولة حُرّاسه تهريبَه من المستشفى إثر اعتقال داعميه كالسراج.
*****
في وثيقة تعود لتشرين الأول (أكتوبر) 1961، يؤكد تاجر السلاح شبرنغر أن الهجوم على برونر لم يكن ذا صلة بتجارة الأسلحة، حيث لم يَعُد يُتاجر بها منذ وقت طويل، بل لعلاقته مع أدولف آيخمان، مؤكداً أن الإسرائيليين نفّذوه بعد أن استصعبوا خطفه من دمشق.
*****
في وثيقة مؤرخة في أيلول (سبتمبر) 1962، تُوضح الاستخبارات أن استفساراتها في بون وفيينا تُظهر أن لا معلومات بحوزتها حول ما نُشر في مقال في صحيفة نمساوية عن خطة وضعها برونر لإنقاذ آيخمان، الذي بات معتقلاً في هذه الأثناء في إسرائيل، تنصُّ على خطف ناحوم غولدمان، رئيس المجلس العالمي لليهود، إلى دولة عربية ومبادلته بآيخمان.
*****
*****
بعد سباتٍ دام نحو عقدين، نقرأ في مذكّرة صادرة في يوليو 1984 عن النازي السابق ريمر، يُشار فيها إلى أن فيشر ما هو سوى برونر، الذي كان موظّفَ شؤون اليهود في مكتب الأمن العام للرايخ. ويَذكرُ أن برونر، الذي ما زال مقيماً في دمشق، لديه أسماء مستعارة مثل ليندن وألويس شمالدينست.
ويُشار أيضاً إلى إصدار القضاء العسكري الفرنسي في مرسيليا وباريس حكماً بالإعدام بحقه، والبحث عنه في النمسا. كذلك إصدار مذكرة اعتقال ضده من محكمة فرانكفورت منذ العام 1961.
في مذكرة أخرى في ذلك الشهر نجدُ ملخصاً لمحادثة مع الجانب الإسرائيلي حول برونر، أكد فيها الإسرائيليون أن فيشر هو برونر، الذي يعيش في شارع جورج حداد 7 ورقم هاتفه 332690 ورقم صندوق بريده في العام 1980 كان 635. ولديه اسم مستعار آخر هو SAJHUR، وما زالت زوجته النازية العقيدة، آنا، تعيش في فيينا.
ويشيرون إلى أنه بعد إصدار محكمة فرانكفورت مذكّرة اعتقال ضده في العام 1961، فشل طلب تسليمٍ وُجِّهَ إلى سوريا في العام 1962. أكَّدَ الإسرائيليون لنُظرائهم الألمان أيضاً انخراط برونر في العمل مع تاجر السلاح شبرنغر، وإدارتهما شركة أورينت تريدنغ كومباني. كذلك نشاطه التجاري في الستينيات تحت أسماء مشابهة مثل «زاتار أوفيس».
يقول الإسرائيليون إن برونر أدار مدرسةً للأمن السوري تحت حكم أمين الحافظ، ويتمتّع برضى الحكومة السورية الحالية أيضاً (الأسد الأب)، وبات تحت حماية الشرطة بعد واقعة الطرد المُفخَّخ.
*****
تتضمن وثيقة مؤرخة في يوليو 1984، بعنوان «اليمين المتطرف الخارجي»، فحوى لقاء مع العسكري النازي ريمر، يتحدّث فيه عن «غيورغ» كأحد أهم الأشخاص الذين يتواصل معهم في دمشق، وأحد أهم المطلوبين من عناصر «إس إس» السابقين، حد اعتباره آيخمان «سمكة صغيرة» مقارنة به.
ويُقرُّ ريمر بأنه ساعد هذا الرجل في الحصول على لجوء في مصر، والآن يعيش في دمشق حيث يعمل لصالح المخابرات هناك. يرفض ريمر رفضاً قاطعاً ذِكرَ كنية غيورغ (برونر) هذا، مشيراً إلى وعد قطعه. ويُشير إلى تَسلُّمه رسالة باليد من غيورغ هذا في حزيران (يونيو) الماضي، يُحذّره فيها من شخص نمساوي، وآخر يهودي مقيم سويسرا يدعى بفايفر، ناشر كتاب بعنوان أخوة الظل. يدّعي برونر في الرسالة أن بفايفر يعملُ لصالح المخابرات الإسرائيلية، وأن هناك صلةً بينه وبين بياته كلارسفيلد (مُطارِدة النازيين) التي حاولت مرّة القدوم إلى دمشق ومُنعت.
يُنقل عن ريمر قوله إن برونر ما زال على معتقداته النازية، وكان ليتصرف اليوم على ذات النحو الذي فعل تحت إمرة هتلر. يُشير ريمر إلى أنه ساعد غيورغ/برونر عندما كان يمرُّ بظروف صعبة في القاهرة، مساعدةً ما زالت تعود عليه بالفائدة لليوم. ويزعمُ ريمر أن برونر يتواصلُ من خلال عمله لدى المخابرات السورية مع موظفين من جهاز المخابرات الخارجية الألمانية والداخلية (وهو أمر لا تُعلّق عليه الاستخبارات الداخلية). وأكثر هؤلاء الموظفين هم من الشباب الذين لا يتمتّعون بخبرةِ قُدامى رجال مخابرات الفيرماخت، وأن غيورغ مُطّلع على آخر التطورات المتعلقة بشؤون الاستخبارات دوماً.
وتصف الاستخبارات الداخلية ريمر في مذكرة لاحقة في الشهر نفسه بأنه «نازي، يعدُّ مصدراً موثوقاً عموماً، ما زال نشطاً في الوسط اليميني المتطرف».
*****
في نهاية عام 1984 ضمّت الاستخبارات خبراً عن إصدار نيابة كولونيا مذكّرة اعتقال جديدة بحق برونر، بتهمة ترحيل اليهود من فرنسا المحتلّة في العهد النازي إلى معسكرات الموت، على أن يتمَّ التحضيرُ لمذكّرة تسليم أخرى ليُصار إلى توجيهها إلى دمشق. يتضمّنُ المقال إشارة إلى شراكة تجارية بين آيخمان، الذي أعدم في 1962، مع برونر عبر شركة اسمها Kathar office في دمشق.
*****
نهاية كانون الثاني (يناير) عام 1985، ضمّت المخابرات الداخلية صورةً لتقريرٍ لوكالة الأنباء الألمانية عن تأكيد وزارة العدل في ألمانيا الغربية تقديمها طلب تسليم للحكومة السورية في كانون الأول (ديسمبر) 1984. المتحدّثُ أكَّدَ بذلك ما قاله مُطارِد النازيين سيرغي كلارسفيلد. الوكالة تقول إنه لم يَصدُر أي ردّ فعل سوري على طلب التسليم بعد.
*****
ضمّت الاستخبارات في 1985 أيضاً صور مادة حصرية لمجلة بونته، حيث تقفّى مُراسِلها في دمشق أثر برونر. بونته نشرت مجموعة من الصور الحديثة لبرونر في دمشق، منها صورة له وهو يلعب مع كلبِ صديقٍ سوري، وقد بقي من أصابع يده اليسرى الإبهام فقط. يَظهرُ في الصور أحد حرّاسه من المخابرات السورية.
يصفُ المراسل في المادة حياة برونر في دمشق. يتنزّه كل صباح في السادسة في حديقة زنوبيا، وفي نهاية جولته يقطف بعض العشب ويأخذه ليُطعمَ الأرانب التي يربيها على سطح منزله طليقةً، إذ لا يريدها أن تشعر بأنها مُحتجزة. المراسل يلاحظ مرافقة عنصري أمن مسلحين له طوال الوقت، لا يسمحون لأحد بالوصول إليه إلا بعد موافقة «أبو فيشر».
يُعرب برونر للمراسل عن استعداده للخضوع لمحاكمة دولية، معرباً عن إصراره بأن إسرائيل وحدها لن تُحصّله، لن يكون آيخمان آخر، مُخرِجاً كبسولة من جيب قميصه للتعبير عن استعداده للموت لتفادي ذلك.
يقرُّ للمراسل بأنه أخرج اليهود من بلادهم في أوروبا، وضميره لا يعذبه لكنه مع ذلك لا ينام بهدوء، في إشارة إلى محاولة مُختَلف الدول القبض عليه. تُشير المجلة إلى رد النظام السوري على مذكرة إحضار نمساوية في العام 1961، بالقول أن برونر ليس موجوداً هناك.
يصفُ المراسل برونر الجالس أمامه بأنه «أنقاض جسد» بعد هجومين بالمتفجرات عليه، أولهما في أيلول (سبتمبر) 1961، في الفترة ذاتها التي استهدَف فيها الموساد العلماء الألمان والنمساويين العاملين في برنامج عبد الناصر للصواريخ بطرودٍ مفخخة. أسفر الهجوم عن مقتل موظَفَي بريد سوريين وإصابة برونر بجراح بليغة. الهجوم الثاني حصل في تموز (يوليو) 1980، عندما فتح برونر طرداً قادماً من دار يشتري منها مطبوعات عن الأدوية الطبيعية. لكنه نجا أيضاً من الانفجار وعاود حياته بعد 6 أسابيع قضاها في المشفى.
*****
ضمّنت الاستخبارات في الملف في تشرين الثاني (نوفمبر) 1985 نسخة من مقال لمجلة بونته عن استخدام سفير إسرائيل في الأمم المتحدة، بنيامين نتنياهو، مقالة بونته عن لقاء مراسلها ببرونر في دمشق كدليل لاستصدار قرار لتسليم برونر. تُشير المخابرات الألمانية إلى فقرة في مقال بونته عن ذهاب طاقم قناة سي بي إس الأميركية إلى عنوان برونر، ليجدوا شقة فارغة بجدران مطلية حديثاً.
***
بالتزامن مع سبق بونته الصحفي، يتحدّثُ مراسل دي فيلت الألمانية عن لقاء عابر جمعه ببرونر في دمشق في 1965، مشيراً إلى أن عمله لدى الاستخبارات السورية كان يتضمّن مراقبة رسائل ممثلي الشركات الألمانية وتقييم الصحف الألمانية والإبلاغ عن الشركات الألمانية المتعاملة مع إسرائيل لدى مكتب المقاطعة في الجامعة العربية، كذلك ترجمة الاتصالات المُراقبة. وقيل إنه سيحصل على راتب تقاعدي من الدولة السورية.
*****
في مارس 1986، ضمّت الاستخبارات خبراً لأسوشيتد برس تنقلُ فيه عن دبلوماسي ألماني في دمشق قوله إن سوريا رفضت عملياً تسليم برونر، وأبلغتهم شفوياً بأنها لا تعرف شخصاً بهذا الاسم. الدبلوماسي يشرح أن السوريين لا يريدون تسليمه لأنه سيكون بمثابة نجاح لإسرائيل.
*****
في نوفمبر 1987، ضمّت المخابرات مادة لوكالة د ب أ عن مقابلة هاتفية أجراها برونر مع صحفي أميركي لصالح شيكاغو صن تايمز، مُعرِباً عن عدم ندمه عمّا فعله باليهود، وكيف أنه سيفعل الشيء نفسه مجدداً، قائلاً:«جميعهم يستحقون الموت لأنهم كانوا عملاء الشيطان، وقمامة بشرية».
د ب أ تتحدّث عن محاولة الحكومة الألمانية منذ سنوات تسلُّمَ برونر من سوريا. لكن الحكومة السورية التي كذّبت في البداية المعلومات عن عيشه في البلاد، تتبنّى موقفاً الآن مفاده أن «برونر لم يرتكب أي جريمة». شيكاغو صن تايمز قالت حينها إن عائلة الأسد قدّمت الحراس الشخصيين لبرونر نظير توفيره «خدمات أمنية».
*****
في مادة أخرى لـ بونته، ضمّتها الاستخبارات في نيسان (أبريل) 1988 إلى ملفه، يَرِدُ كيف شكّت الاستخبارات السورية في الستينيات، في الفترة ذاتها التي خُطف فيها آيخمان من الأرجنتين، بنشاطات برونر المالية نتيجة إرساله المال إلى فيينا من بين أمور أخرى، وقبضت عليه. خشية ترحيله، اضطُر خلال التحقيق معه من قبل ضابط كنيته «اللحام» إلى الكشف عن هويته الحقيقة، قائلاً إنه مطلوب كعدو لليهود. يُزعَم أن اللحام هذا صافحه وقال إن عدو عدوي هو صديقي.
بونته تتحدث عن محاولة برونر مرتين، عبر علاقاته، المشاركة في عمليات ضد اليهود بشكل مباشر، كالتخطيط لتفجير مؤتمر اليهود العالمي في فيينا في 1961، وكذلك محاولة تحرير آيخمان من المعتقل في إسرائيل. تحدّثَ برونر بحسرة، بحسب الصحفية، عن تجهيز المدعو «لحام» الأشخاص المطلوبين للعملية، لكن كل شيء انتهى عبر قرار من «جنرال» يدعى غسال(ن).
مجدداً، لا يُبدي برونر ندمه في المقابلة، ويقول إن ألمانيا مدينة له بالمال، راتبه التقاعدي. بونته تُشير إلى أن الدولة السورية تعطيه راتباً تقاعدياً يُعادل راتب ضابط متقاعد، 1200 ليرة شهرياً، ما يعادل 400 مارك ألماني حينها.
تتحدّثُ المجلة عن تواصل برونر مع العديد من الشخصيات في سوريا في الستينيات، بمن فيهم العميل الإسرائيلي إيلي كوهين الذي أُعدم في العام 1965.
*****
في تموز (يوليو) 1988، ضمّت الاستخبارات صورة عن مقالة يُذكر فيها أن مُطارِد النازيين، سيغرد كلارسفيلد، وزوجته بياته، استصدرا مذكّرة اعتقال ضد برونر في باريس، ويُشار إلى تجاهل الحكومة السورية كل جهود تسليمه، ما تُفسره المقالة كجزء من موقف دمشق «المناهض للصهيونية».
*****
نَفَت الاستخبارات الخارجية الألمانية «بي إن دي» في وثيقة صادرة في تموز (يوليو) 1988، موجهة إلى الاستخبارات الداخلية، أي علاقة عمل أو غير ذلك مع برونر في أي وقت من الأوقات. جاء هذا ردَّاً على ما ذُكر في مقالة صحفية فرنسية عن كَوْن برونر ممثلاً لـ «بي إن دي» في سوريا في الستينيات، قبل أن تُضطر للنأي بنفسها عنه مع تحسن العلاقات الألمانية الإسرائيلية. تُشير المقالة إلى مساعدة برونر في الثمانينيات في بناء «الشرطة السرية» السورية، وكيف بات يحمل لقباً غير رسمي هو «المستشار الخاص لشؤون الأمن» لدى الرئيس حافظ الأسد.
«بي إن دي» تنقلُ عن مصادر مُطّلعة تخمينها أن يكون الزوجان سيرغي وبياته كلارسفيلد، مُطارِدَي النازيين حول العالم، مؤلفي المقالة المنشورة في الصحافة الفرنسية، ونيّتهما نشرها في الصحافة الألمانية أيضاً. «بي إن دي» تدعو لعدم الرد على أي أسئلة عملياتية، معتبرة أن الادعاءات الواردة في الصحافة الفرنسية لا أساس لها.
*****
في صيف عام 1988، تتحدّثُ الاستخبارات عن كتاب جديد بعنوان براءة لأدولف هتلر ينوي كاتبٌ من أوساط اليمين المتطرف النمساوي، يُدعى غيرد هوسنيك، إصداره. بغرض البحث، سافر هوسنيك إلى الخارج والتقى بشخصيات عديدة، من بينها برونر في دمشق، الذي «يخضع لحماية الرئيس السوري»، لذا فشلت مختلف محاولات تسليمه.
*****
مطلع عام 1989، ضمّت الاستخبارات خبراً عن طلب تسليم جديد قدّمته فرنسا لسوريا، حسبما أعلن المحامي الفرنسي سيرغي كلارسفيلد، الذي أشار إلى «رد سخيف» من الحكومة السورية قبل أعوام على طلب تسليم بالقول إنها لا تعلم بوجود مجرم حرب على الأراضي السورية.
*****
في صيف العام 1990، ضمّت الاستخبارات الداخلية خبراً عن تأكيد وزارة خارجية ألمانيا الشرقية توجيه أمر لسفارتها في دمشق بتقديم طلب تسليم ألويس برونر للسلطات السورية. بياته كلارسفيلد أوضحت أن ألمانيا الشرقية لم تكن قد انضمّت قبلاً إلى جهود التسليم التي قامت بها النمسا وألمانيا الغربية وفرنسا خشيةً على علاقاتها الجيدة مع سوريا.
*****
وثيقة صادرة في صيف العام 1991، تُشير إلى عدم وجود جديد فيما يخص برونر، وأن آخر ما وصلها عائدٌ للعام 1988، حيث يقال إن برونر يتمتّع بنوع من «اللجوء السياسي»، و«بتقدير كبير من الجيش السوري».
*****
في وثيقة صادرة عام 1991 أمرٌ بالاحتفاظ باسم برونر في سجلات الاستخبارات الألمانية الداخلية حتى 30 حزيران (يونيو) 1993 على الأقل، لكونه «شخصية ذات أهمية معاصرة».
*****
الاستخبارات ضمّت خبراً منشوراً في آب (أغسطس) 1991 عن طلب السلطات الفرنسية القضائية من وزارة العدل السورية مساعدتها على التثبُّت فيما إذا كان المدعو فيشر هو برونر.
*****
في كانون الأول (ديسمبر) 1991، تأخذ الاستخبارات علماً بخبر القبض على مُطارِدة النازيين، بياته كلارسفيلد، في دمشق من قبل السلطات السورية، عند تواجدها في فندق، لأنها كانت تريد الاحتجاج على منح سوريا «اللجوء» لمجرم الحرب برونر، وفقاً لبيانات زوجها سيرغي، الذي قال إن زوجته بياته وُعدت بإجراء حديث مع شخصية سورية «كبيرة» للتحدث في الأمر.
*****
يشير موقع «فراغ دي شتات» إلى أن من أبرز المشكوك في دعمهم هرب برونر هو أول رئيس لجهاز الاستخبارات الخارجية الألمانية راينهارد غيهلين، الذي ظلَّ في منصبه حتى العام 1968. كان اللواء غيهلين قد بدأ بعد الحرب فوراً ببناء جهاز استخبارات بدعم مالي أميركي، تحت مسمى «منظمة غيهلين»، قبل أن تُضم لـ «بي إن دي». الموقع يشير إلى عدم وجود دليل مادي على دعم غيهلين لهروب برونر، رغم حصولها على ملف غيهلين لدى مكتب التحقيقات الفيدرالية مشيرة في الوقت نفسه إلى إتلاف «بي إن دي» ملفاً مكوناً من 581 صفحة عن برونر في التسعينيات.
*****
ما لا نعرفه بعد الاطّلاع على الملف هو صحة ما نُشر صحفياً عن أيام برونر الأخيرة في دمشق، وعن عيشه في ظروف مزرية في قبو فرع أمني. كذلك إن كان قد مات فعلاً عام 2001.
صحيفة تاتس تقول إن الاستخبارات الداخلية اعتمدت 2010 على أنه العام الذي مات فيه. أما ملف التحقيق ضده في ألمانيا فُأغلق عام 2022، حيث تفقد مذكرة الاعتقال صلاحيتها في ألمانيا بعد 100 عام من تاريخ ميلاد الشخص المطلوب.
مجلة دير شبيغل أشارت في ملف لها قبل سنوات إلى أن التحديثات الأخيرة في ملف برونر أُدخلت نهاية الألفية الثانية. حينها، تنصّتَ المحققون الألمان والفرنسيون على هاتف ابنته ليتأكدوا من أنه يعيش في دمشق. وعندما ضغط وزير الخارجية يوشكا فيشر على نظيره فاروق الشرع، وعدَ الأخير بإرسال ردٍّ، لكن هذا جاء كسابقيه: «لا وجود لهكذا شخص في سوريا».
*****
1. تاجر أسلحة معروف وعضو برلمان ولاية سكسونيا السفلى عن حزب الرايخ الاشتراكي الذي كان يعتمد الإيديولوجيا النازية، قبل أن يتم حظره في ألمانيا.2. دبلوماسي في الخارجية الألمانية في العهد النازي. كان مسؤولاً عن التخطيط وتنفيذ الهولوكوست. فرّ بجواز سفر إسباني، باسم تومه روزيلو، من الملاحقة القضائية إلى سوريا. هناك عمل لصالح المخابرات السورية والمخابرات الألمانية الخارجية.
يتحدّث التقرير أيضاً عن لقاءٍ جمع بين برونر وأدولف آيخمان، القادم من الكويت، في دمشق في كانون الأول (ديسمبر) 1959 لمناقشة صفقات أسلحة قادمة من ألمانيا الغربية لصالح عُمان والجزائر. يُشير العميل إلى انخراط برونر منذ أعوام في صفقات الأسلحة، واعتماده إرنست فيلهلم شبرنغر1 ممثلاً له لدى شركات التسليح الألمانية. يدّعي العميل أن برونر هو ممثلُ تاجر سلاحٍ ألماني يُدعى هايم هاير في سوريا، رغم أنه يعمل مع شركات أخرى في هامبورغ وكولونيا. ويشرح الدور الكبير الذي يلعبه برونر والدبلوماسي النازي السابق فرانز راديماخر2 في المخابرات السورية، لافتاً إلى تعاون برونر، المعادي العميق للسامية، مع موظف كبير في الداخلية السورية يُدعى ممدوح ميداني، مختصّ بشؤون البروباغاندا ضد إسرائيل. وكانت هذه العلاقات، بحسب العميل، قوية لدرجة طلب استشارة برونر دوماً كلّما تعلّقَ الأمر بتقييم شخصيات ألمانية أو الشؤون الألمانية. هذا ما جرى، على سبيل المثال، عندما زار وكيل وزارة الخارجية الألمانية هيلغر فان شيربنبرغ دمشق. ويشير العميل إلى أن برونر هدَّدَ بالكشف عن أسرار متعلّقة بالنائب عن الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم رودولف فوغل في حال عزَّزت ألمانيا الغربية الضغوطات على سوريا بخصوصه، في إشارة إلى اتهام برونر لفوغل بمساعدته على الهرب. 3. نازي آخر هارب إلى دمشق. عاش فيها بين عامي 1956 و1960. اعتبرته السي آي إيه رجل المخابرات الخارجية الألمانية في دمشق.
يلفتُ العميل النظر أيضاً إلى العلاقة بين رادماخر وبرونر مع كارل-هاينز شبيت3 . كان برونر يعمل لدى شبيت عندما كان الأخير مديراً لشركة تاميكو الدوائية (قبل تأميمها). يتحدّث العميل عن اعتقال الشرطة السورية لشبيت بناءً على طلب تسليم قَدمتهُ نيابة ميونيخ بداعي الاحتيال عند اقتراض المال، لكن أُفرج عنه في اليوم التالي تحت زعم أن شبيت ترك ألمانيا لدواعٍ سياسية، وأن الأساس الجُرمي مُزوَّر. *****
في شهادة مُحلَّفة تعود لحزيران (يونيو) 1960، يقول الصحفي هيرمان شيفر أنَّ جورج فيشر، المنخرط في نشاطات تجارة أسلحة غير مشروعة، ليس سوى ألويس برونر، المطلوب من قبل عدة دول عن جرائمه في سياق الهولوكست، والذي «يعمل» في سوريا تحت إمرة السراج.
4. الضابط السابق في الفيرماخت. لعب دوراً بارزاً في قمع تمرُّد ضد هتلر عام 1944. بات تاجر سلاح وسياسياً يمينياً متطرّفاً بعد الحرب.
تتضمن إحدى الوثائق معلومات عن طلب أوتو إرنست ريمر4 الحماية من الشرطة من تهديد جماعة «اليد الحمراء» الإرهابية المرتبطة بالمخابرات الفرنسية، والتي كانت تُلاحق الناشطين في حركات التحرر، معبراً عن شعوره بأنه مُهدَّد بسبب تيسيره صفقات أسلحة لصالح جبهة التحرير الجزائرية. وفي هذا السياق، توْرِدُ الاستخبارات مقالةً صحفية عن حلقة تجارة أسلحة تضمُّ ريمر إلى جانب أدولف آيخمان، الذي بات معتقلاً في إسرائيل، وإرنست فيلهلم شبرنغر وألويس برونر. وتوضح أن شبرنغر وريمر يقومان بتجارة مُميتة ومربحة مع شركة أوتراكو (أورينت تريد كومباني) التي يقع مقرُّها في دمشق، وترتبط بشخص يدعى فيشر، هو في الحقيقة ألويس برونر.
*****
في آب (أغسطس) 1960، طلبت النيابة العامة في فرانكفورت من الاستخبارات الداخلية كلَّ ما لديها من معلومات عن برونر، بداعي أنها تحقق ضده عن جرائم قتل خلال الحقبة النازية. الاستخبارات ردّت بأن ما لديها من معلومات مرتبط بتجارة الأسلحة، لا بنشاطه كقيادي في الـ«أس أس»، موضحة أن باقي المعلومات المتعلقة بنشاط برونر في دمشق مُصنَّفة تحت «حماية المصدر» ولا يمكن مشاركتها.
5. شخصية حقيقية، معلّم رياضة وممثل عن دار نشر، كان يتمتع بعلاقات واسعة مع شخصيات من وزارة الداخلية والخارجية بحسب الوثائق. كان عضواً في الحزب النازي وجهاز الأس أس.
بعدها، شاركت الاستخبارات النيابةَ معلوماتٍ «سريّة» عن تقمُّص برونر شخصية الدكتور فيل غيورغ فيشر5 ، ممثلَ دار نشرٍ يُقيم في بون حينها، مع شكٍّ بموافقة فيشر (صاحب الشخصية الحقيقية) على ذلك. *****
في وثيقة تعود إلى كانون الثاني (يناير) 1961، نقرأ شهادة عضو البوندستاغ، رودولف فوغل، حول اتهامه بمساعدة برونر على الهرب. يروي البرلماني المسيحي-الديمقراطي كيف زاره الدكتور فيشر مرّة دون موعد بين عامي 1950 و1952، سائلاً إياه إن كان لا يريد أن يتبرع، أسوة بمجموعة من الأصدقاء، ببعض المال لزوجة برونر المتواجد حينها في الأرجنتين، والتي تعيش في ظل ظروف صعبة، فقدّمَ فوغل ما بين 100 و200 مارك ألماني. وادّعى فوغل أنه تعرّفَ على برونر في سالونيك في اليونان خلال الحرب العالمية، بين عامي 1942 و1943، عندما كان صحفياً ونُقل عقابياً من باريس. لاحقاً، طلب فوغل من برونر، الذي انتقل «للعمل» في باريس، أن يُرسل لوحةً باهظة الثمن تركها في باريس إلى عنوان منزله في ألمانيا، فلبّى برونر طلبه بالفعل، ناكراً أن يكون قد التقاه بعد ذلك، لا في ألمانيا ولا في دمشق حينما ذهب لزيارة معرضها، ونافياً إمكانية وجود صورة تجمعهما هناك.
*****
قراءة وثيقة مؤرخة في 1 شباط (فبراير) 1961، صادرة من استخبارات ولاية بافاريا، تُظهر لنا أن ما يشغلها هو معرفة طبيعة العلاقة سابقاً وحالياً بين برونر وغيورغ فيشر، الشخصية الحقيقية المُقيمة في بون، وفيما إذا ساهم فيشر في هرب برونر.
*****
في وثيقة مؤرخة في شباط (فبراير) 1961، يُنقل عن صحفي يُدعى هورست ماهنكه، رئيس تحرير مجلة كريستال، قوله إن فيشر أخبره أن برونر انتزع منه جواز سفره وسافر عبره من دوسلدورف إلى سوريا، وأن البرلماني فوغل منحه 300 مارك ليساعد برونر على الهروب.
ويَنقلُ مانكه (عمل مع شبيغل أيضاً) عن برونر زعمه في دمشق أنه وجد جواز سفر فيشر أمام باب بيته. الاستخبارات لا ترى هذه الأقوال مُقنعة.
*****
في رسالة مؤرخة في نهاية شباط (فبراير) 1961، تُرسل نيابة فرانكفورت ملف برونر، المكون من قرابة الـ50 صفحة، إلى المخابرات الألمانية بناءً على مطلب مُقيِّم حكومي. يتضمّن الملف بيانات برونر الشخصية وماضيه، مُثبَتاً بوثائق نازية.
*****
6. حصل شتاينهاوس على وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى نظير جهوده حيال اللاجئين.
في شباط (فبراير) 1961 أيضاً، تُشارك وزارة داخلية ساكسونيا السفلى فحوى تحقيقٍ مع المدير السابق للاتحاد اللوثري العالمي، فيلهلم شتاينهاوس6 ، الذي تواجد في دمشق بين عامي 1955 و1959، والذي عمل في مساعدة الفلسطينيين اللاجئين إثر حرب 1948. تحدَّثَ شتاينهاوس عن لقائه برونر، الذي قدَّمَ نفسه كنمساوي اسمه فيشر، وذلك في منزل رادماخر الذي كان يستقبل في منزله العديد من الألمان. تحدّث شتاينهاوس عن برونر كشخص غير مريح، كان يأتي للعب لعبة البريدج مع رادماخر. كما يتحدث شتاينهاوس عن تلميح رادماخر له بأن برونر مدعومٌ مالياً من المكتب الثاني، المخابرات السورية، ويلتقي بين الحين والآخر ضابطاً اسمه ممدوح ميداني، والذي يعبِّر شتاينهاوس عن تقديره له كشخص ذو موقف لطيف من الألمان، وسبق وأن حارب مع النازيين في الحرب العالمية الثانية.
*****
وثيقة أخرى من ذلك العام تتضمّنُ نتائج التحقيق مع كارل فيلهلم رومين، وهو مُدرِّب سابق لدى سلاح الجو السوري، يعمل في شركة في دمشق، وأخرى في ميونيخ. يتحدّث رومين عن إقامته في دمشق منذ العام 1948، وتَعرُّفه على شخص يدعى فيشر في 1957 كان يلتقيه كل أسبوع تقريباً، لكنه لا يعلم إن كان هو برونر نفسه، معطياً أوصافاً تنطبق عليه. يقول إن ذلك الشخص يُقيم لدى ألماني يدعى كورت فيتزكي في منطقة الروضة بإيجار مؤقت، وأنّه كان يعمل لدى تاجر ثم لدى شركة تدعى شامكور، يُديرها كارل هاينز شبيث.
وتحدّث عن تجنبه الدائرة التي كان (فيشر/برونر) يتحرّك فيها لأنها كانت تضُمُّ راديماخر وشبيت وموهر، وهي، حسب رأيه، دائرة من النازيين الذين وجدوا ملجأً لهم في سوريا.
*****
تتضمّن وثيقةٌ لوزارة داخلية ساكسونيا السفلى في مايو (أيار) 1961 ما قاله الصحفي هورست مانكه عن برونر خلال محاكمة في هامبورغ. تحدّثَ فيها عن تكليفه صحفياً متواجداً كرجل أعمال في دمشق اسمه هيرمان شيفر، بجمع معلومات عن رجل يُدعى فيشر هناك، فعاد إليه مؤكداً وجود هكذا شخص هناك يترأس شركةً يقعُ مكتبها في مبنى قرب فندق أمية الجديد، ولها تمثيلٌ في الكويت وعمان أيضاً.
وأشار إلى أن جواز سفر فيشر قد انقضت مُدّته ولا تُمدِّدُ له القنصلية الألمانية صلاحيته، متحدثاً عن علاقات برونر القوية مع السراج الذي ساعده في التجنيس، وكذلك مع الضابط في المخابرات السورية، الميداني، الذي قاتل مع النازيين.
ويُشير إلى وجود مذكّرات تسليم ضد برونر من اليونان وأميركا والنمسا، وتكليف الإنتربول بالبحث عنه، لكن ميداني أمَرَ بالردِّ عليها بالقول إنه ليس هناك شخص باسم برونر أو فيشر في دمشق.
*****
في آب (أغسطس) 1961، انشغلت الاستخبارات بما وردها من جهاز استخباراتٍ صديق عن عمل برونر في تجارة البيرة، بالتعاون مع شركة يقعُ مقرُّها في هامبورغ، تعود لصديقه تاجر السلاح والمحامي فريتز كروغر، المنخرط في تجارة السلاح مع شبرنغر.
*****
في أيلول (سبتمبر) من عام 1961، نجدُ صورةً لخبرٍ ضمّته الاستخبارات إلى ملف برونر عن تعرُّضه لإصابة بليغة وفقدانه ليده وعينه وتضرر نظره في العين الأخرى، إثر انفجار طردٍ استلمه من البريد في دمشق وفتحه. يُشار إلى أنه بات تحت حراسة مشددة منذ إصابته.
نشاهد أيضاً خبراً لصحيفة ألمانية، نقلاً عن معاريف الإسرائيلية، في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام، عن اعتقال برونر في دمشق على خلفية «الثورة السورية» (إعلان الانفصال عن مصر)، خلال محاولة حُرّاسه تهريبَه من المستشفى إثر اعتقال داعميه كالسراج.
*****
في وثيقة تعود لتشرين الأول (أكتوبر) 1961، يؤكد تاجر السلاح شبرنغر أن الهجوم على برونر لم يكن ذا صلة بتجارة الأسلحة، حيث لم يَعُد يُتاجر بها منذ وقت طويل، بل لعلاقته مع أدولف آيخمان، مؤكداً أن الإسرائيليين نفّذوه بعد أن استصعبوا خطفه من دمشق.
*****
في وثيقة مؤرخة في أيلول (سبتمبر) 1962، تُوضح الاستخبارات أن استفساراتها في بون وفيينا تُظهر أن لا معلومات بحوزتها حول ما نُشر في مقال في صحيفة نمساوية عن خطة وضعها برونر لإنقاذ آيخمان، الذي بات معتقلاً في هذه الأثناء في إسرائيل، تنصُّ على خطف ناحوم غولدمان، رئيس المجلس العالمي لليهود، إلى دولة عربية ومبادلته بآيخمان.
*****
7. مدّعٍ وقاضٍ يهودي ساهم في القبض على آيخمان وبدء محاكمات أوشفيتز في ألمانيا.
في وثيقة مؤرّخة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1963، مُرسلة من نيابة فرانكفورت إلى الاستخبارات الداخلية، بعنوان «دوائر نازية في القاهرة»، نقرأ قائمةً أرسلها صحفيٌّ مجهول الاسم، تتضمّن من بين أسماء أخرى اسم برونر، يدعو فيها النواب العامين، كفريتز باور7 ، إلى القيام بحركة مضادة لما تقوم به المنظمة «المناهضة للصهيونية» في القاهرة، وملاحقة هؤلاء النازيين. *****
بعد سباتٍ دام نحو عقدين، نقرأ في مذكّرة صادرة في يوليو 1984 عن النازي السابق ريمر، يُشار فيها إلى أن فيشر ما هو سوى برونر، الذي كان موظّفَ شؤون اليهود في مكتب الأمن العام للرايخ. ويَذكرُ أن برونر، الذي ما زال مقيماً في دمشق، لديه أسماء مستعارة مثل ليندن وألويس شمالدينست.
ويُشار أيضاً إلى إصدار القضاء العسكري الفرنسي في مرسيليا وباريس حكماً بالإعدام بحقه، والبحث عنه في النمسا. كذلك إصدار مذكرة اعتقال ضده من محكمة فرانكفورت منذ العام 1961.
في مذكرة أخرى في ذلك الشهر نجدُ ملخصاً لمحادثة مع الجانب الإسرائيلي حول برونر، أكد فيها الإسرائيليون أن فيشر هو برونر، الذي يعيش في شارع جورج حداد 7 ورقم هاتفه 332690 ورقم صندوق بريده في العام 1980 كان 635. ولديه اسم مستعار آخر هو SAJHUR، وما زالت زوجته النازية العقيدة، آنا، تعيش في فيينا.
ويشيرون إلى أنه بعد إصدار محكمة فرانكفورت مذكّرة اعتقال ضده في العام 1961، فشل طلب تسليمٍ وُجِّهَ إلى سوريا في العام 1962. أكَّدَ الإسرائيليون لنُظرائهم الألمان أيضاً انخراط برونر في العمل مع تاجر السلاح شبرنغر، وإدارتهما شركة أورينت تريدنغ كومباني. كذلك نشاطه التجاري في الستينيات تحت أسماء مشابهة مثل «زاتار أوفيس».
يقول الإسرائيليون إن برونر أدار مدرسةً للأمن السوري تحت حكم أمين الحافظ، ويتمتّع برضى الحكومة السورية الحالية أيضاً (الأسد الأب)، وبات تحت حماية الشرطة بعد واقعة الطرد المُفخَّخ.
*****
تتضمن وثيقة مؤرخة في يوليو 1984، بعنوان «اليمين المتطرف الخارجي»، فحوى لقاء مع العسكري النازي ريمر، يتحدّث فيه عن «غيورغ» كأحد أهم الأشخاص الذين يتواصل معهم في دمشق، وأحد أهم المطلوبين من عناصر «إس إس» السابقين، حد اعتباره آيخمان «سمكة صغيرة» مقارنة به.
ويُقرُّ ريمر بأنه ساعد هذا الرجل في الحصول على لجوء في مصر، والآن يعيش في دمشق حيث يعمل لصالح المخابرات هناك. يرفض ريمر رفضاً قاطعاً ذِكرَ كنية غيورغ (برونر) هذا، مشيراً إلى وعد قطعه. ويُشير إلى تَسلُّمه رسالة باليد من غيورغ هذا في حزيران (يونيو) الماضي، يُحذّره فيها من شخص نمساوي، وآخر يهودي مقيم سويسرا يدعى بفايفر، ناشر كتاب بعنوان أخوة الظل. يدّعي برونر في الرسالة أن بفايفر يعملُ لصالح المخابرات الإسرائيلية، وأن هناك صلةً بينه وبين بياته كلارسفيلد (مُطارِدة النازيين) التي حاولت مرّة القدوم إلى دمشق ومُنعت.
يُنقل عن ريمر قوله إن برونر ما زال على معتقداته النازية، وكان ليتصرف اليوم على ذات النحو الذي فعل تحت إمرة هتلر. يُشير ريمر إلى أنه ساعد غيورغ/برونر عندما كان يمرُّ بظروف صعبة في القاهرة، مساعدةً ما زالت تعود عليه بالفائدة لليوم. ويزعمُ ريمر أن برونر يتواصلُ من خلال عمله لدى المخابرات السورية مع موظفين من جهاز المخابرات الخارجية الألمانية والداخلية (وهو أمر لا تُعلّق عليه الاستخبارات الداخلية). وأكثر هؤلاء الموظفين هم من الشباب الذين لا يتمتّعون بخبرةِ قُدامى رجال مخابرات الفيرماخت، وأن غيورغ مُطّلع على آخر التطورات المتعلقة بشؤون الاستخبارات دوماً.
وتصف الاستخبارات الداخلية ريمر في مذكرة لاحقة في الشهر نفسه بأنه «نازي، يعدُّ مصدراً موثوقاً عموماً، ما زال نشطاً في الوسط اليميني المتطرف».
*****
في نهاية عام 1984 ضمّت الاستخبارات خبراً عن إصدار نيابة كولونيا مذكّرة اعتقال جديدة بحق برونر، بتهمة ترحيل اليهود من فرنسا المحتلّة في العهد النازي إلى معسكرات الموت، على أن يتمَّ التحضيرُ لمذكّرة تسليم أخرى ليُصار إلى توجيهها إلى دمشق. يتضمّنُ المقال إشارة إلى شراكة تجارية بين آيخمان، الذي أعدم في 1962، مع برونر عبر شركة اسمها Kathar office في دمشق.
*****
نهاية كانون الثاني (يناير) عام 1985، ضمّت المخابرات الداخلية صورةً لتقريرٍ لوكالة الأنباء الألمانية عن تأكيد وزارة العدل في ألمانيا الغربية تقديمها طلب تسليم للحكومة السورية في كانون الأول (ديسمبر) 1984. المتحدّثُ أكَّدَ بذلك ما قاله مُطارِد النازيين سيرغي كلارسفيلد. الوكالة تقول إنه لم يَصدُر أي ردّ فعل سوري على طلب التسليم بعد.
*****
ضمّت الاستخبارات في 1985 أيضاً صور مادة حصرية لمجلة بونته، حيث تقفّى مُراسِلها في دمشق أثر برونر. بونته نشرت مجموعة من الصور الحديثة لبرونر في دمشق، منها صورة له وهو يلعب مع كلبِ صديقٍ سوري، وقد بقي من أصابع يده اليسرى الإبهام فقط. يَظهرُ في الصور أحد حرّاسه من المخابرات السورية.
يصفُ المراسل في المادة حياة برونر في دمشق. يتنزّه كل صباح في السادسة في حديقة زنوبيا، وفي نهاية جولته يقطف بعض العشب ويأخذه ليُطعمَ الأرانب التي يربيها على سطح منزله طليقةً، إذ لا يريدها أن تشعر بأنها مُحتجزة. المراسل يلاحظ مرافقة عنصري أمن مسلحين له طوال الوقت، لا يسمحون لأحد بالوصول إليه إلا بعد موافقة «أبو فيشر».
يُعرب برونر للمراسل عن استعداده للخضوع لمحاكمة دولية، معرباً عن إصراره بأن إسرائيل وحدها لن تُحصّله، لن يكون آيخمان آخر، مُخرِجاً كبسولة من جيب قميصه للتعبير عن استعداده للموت لتفادي ذلك.
يقرُّ للمراسل بأنه أخرج اليهود من بلادهم في أوروبا، وضميره لا يعذبه لكنه مع ذلك لا ينام بهدوء، في إشارة إلى محاولة مُختَلف الدول القبض عليه. تُشير المجلة إلى رد النظام السوري على مذكرة إحضار نمساوية في العام 1961، بالقول أن برونر ليس موجوداً هناك.
يصفُ المراسل برونر الجالس أمامه بأنه «أنقاض جسد» بعد هجومين بالمتفجرات عليه، أولهما في أيلول (سبتمبر) 1961، في الفترة ذاتها التي استهدَف فيها الموساد العلماء الألمان والنمساويين العاملين في برنامج عبد الناصر للصواريخ بطرودٍ مفخخة. أسفر الهجوم عن مقتل موظَفَي بريد سوريين وإصابة برونر بجراح بليغة. الهجوم الثاني حصل في تموز (يوليو) 1980، عندما فتح برونر طرداً قادماً من دار يشتري منها مطبوعات عن الأدوية الطبيعية. لكنه نجا أيضاً من الانفجار وعاود حياته بعد 6 أسابيع قضاها في المشفى.
*****
ضمّنت الاستخبارات في الملف في تشرين الثاني (نوفمبر) 1985 نسخة من مقال لمجلة بونته عن استخدام سفير إسرائيل في الأمم المتحدة، بنيامين نتنياهو، مقالة بونته عن لقاء مراسلها ببرونر في دمشق كدليل لاستصدار قرار لتسليم برونر. تُشير المخابرات الألمانية إلى فقرة في مقال بونته عن ذهاب طاقم قناة سي بي إس الأميركية إلى عنوان برونر، ليجدوا شقة فارغة بجدران مطلية حديثاً.
***
بالتزامن مع سبق بونته الصحفي، يتحدّثُ مراسل دي فيلت الألمانية عن لقاء عابر جمعه ببرونر في دمشق في 1965، مشيراً إلى أن عمله لدى الاستخبارات السورية كان يتضمّن مراقبة رسائل ممثلي الشركات الألمانية وتقييم الصحف الألمانية والإبلاغ عن الشركات الألمانية المتعاملة مع إسرائيل لدى مكتب المقاطعة في الجامعة العربية، كذلك ترجمة الاتصالات المُراقبة. وقيل إنه سيحصل على راتب تقاعدي من الدولة السورية.
*****
في مارس 1986، ضمّت الاستخبارات خبراً لأسوشيتد برس تنقلُ فيه عن دبلوماسي ألماني في دمشق قوله إن سوريا رفضت عملياً تسليم برونر، وأبلغتهم شفوياً بأنها لا تعرف شخصاً بهذا الاسم. الدبلوماسي يشرح أن السوريين لا يريدون تسليمه لأنه سيكون بمثابة نجاح لإسرائيل.
*****
في نوفمبر 1987، ضمّت المخابرات مادة لوكالة د ب أ عن مقابلة هاتفية أجراها برونر مع صحفي أميركي لصالح شيكاغو صن تايمز، مُعرِباً عن عدم ندمه عمّا فعله باليهود، وكيف أنه سيفعل الشيء نفسه مجدداً، قائلاً:«جميعهم يستحقون الموت لأنهم كانوا عملاء الشيطان، وقمامة بشرية».
د ب أ تتحدّث عن محاولة الحكومة الألمانية منذ سنوات تسلُّمَ برونر من سوريا. لكن الحكومة السورية التي كذّبت في البداية المعلومات عن عيشه في البلاد، تتبنّى موقفاً الآن مفاده أن «برونر لم يرتكب أي جريمة». شيكاغو صن تايمز قالت حينها إن عائلة الأسد قدّمت الحراس الشخصيين لبرونر نظير توفيره «خدمات أمنية».
*****
في مادة أخرى لـ بونته، ضمّتها الاستخبارات في نيسان (أبريل) 1988 إلى ملفه، يَرِدُ كيف شكّت الاستخبارات السورية في الستينيات، في الفترة ذاتها التي خُطف فيها آيخمان من الأرجنتين، بنشاطات برونر المالية نتيجة إرساله المال إلى فيينا من بين أمور أخرى، وقبضت عليه. خشية ترحيله، اضطُر خلال التحقيق معه من قبل ضابط كنيته «اللحام» إلى الكشف عن هويته الحقيقة، قائلاً إنه مطلوب كعدو لليهود. يُزعَم أن اللحام هذا صافحه وقال إن عدو عدوي هو صديقي.
بونته تتحدث عن محاولة برونر مرتين، عبر علاقاته، المشاركة في عمليات ضد اليهود بشكل مباشر، كالتخطيط لتفجير مؤتمر اليهود العالمي في فيينا في 1961، وكذلك محاولة تحرير آيخمان من المعتقل في إسرائيل. تحدّثَ برونر بحسرة، بحسب الصحفية، عن تجهيز المدعو «لحام» الأشخاص المطلوبين للعملية، لكن كل شيء انتهى عبر قرار من «جنرال» يدعى غسال(ن).
مجدداً، لا يُبدي برونر ندمه في المقابلة، ويقول إن ألمانيا مدينة له بالمال، راتبه التقاعدي. بونته تُشير إلى أن الدولة السورية تعطيه راتباً تقاعدياً يُعادل راتب ضابط متقاعد، 1200 ليرة شهرياً، ما يعادل 400 مارك ألماني حينها.
تتحدّثُ المجلة عن تواصل برونر مع العديد من الشخصيات في سوريا في الستينيات، بمن فيهم العميل الإسرائيلي إيلي كوهين الذي أُعدم في العام 1965.
*****
في تموز (يوليو) 1988، ضمّت الاستخبارات صورة عن مقالة يُذكر فيها أن مُطارِد النازيين، سيغرد كلارسفيلد، وزوجته بياته، استصدرا مذكّرة اعتقال ضد برونر في باريس، ويُشار إلى تجاهل الحكومة السورية كل جهود تسليمه، ما تُفسره المقالة كجزء من موقف دمشق «المناهض للصهيونية».
*****
نَفَت الاستخبارات الخارجية الألمانية «بي إن دي» في وثيقة صادرة في تموز (يوليو) 1988، موجهة إلى الاستخبارات الداخلية، أي علاقة عمل أو غير ذلك مع برونر في أي وقت من الأوقات. جاء هذا ردَّاً على ما ذُكر في مقالة صحفية فرنسية عن كَوْن برونر ممثلاً لـ «بي إن دي» في سوريا في الستينيات، قبل أن تُضطر للنأي بنفسها عنه مع تحسن العلاقات الألمانية الإسرائيلية. تُشير المقالة إلى مساعدة برونر في الثمانينيات في بناء «الشرطة السرية» السورية، وكيف بات يحمل لقباً غير رسمي هو «المستشار الخاص لشؤون الأمن» لدى الرئيس حافظ الأسد.
«بي إن دي» تنقلُ عن مصادر مُطّلعة تخمينها أن يكون الزوجان سيرغي وبياته كلارسفيلد، مُطارِدَي النازيين حول العالم، مؤلفي المقالة المنشورة في الصحافة الفرنسية، ونيّتهما نشرها في الصحافة الألمانية أيضاً. «بي إن دي» تدعو لعدم الرد على أي أسئلة عملياتية، معتبرة أن الادعاءات الواردة في الصحافة الفرنسية لا أساس لها.
*****
في صيف عام 1988، تتحدّثُ الاستخبارات عن كتاب جديد بعنوان براءة لأدولف هتلر ينوي كاتبٌ من أوساط اليمين المتطرف النمساوي، يُدعى غيرد هوسنيك، إصداره. بغرض البحث، سافر هوسنيك إلى الخارج والتقى بشخصيات عديدة، من بينها برونر في دمشق، الذي «يخضع لحماية الرئيس السوري»، لذا فشلت مختلف محاولات تسليمه.
*****
مطلع عام 1989، ضمّت الاستخبارات خبراً عن طلب تسليم جديد قدّمته فرنسا لسوريا، حسبما أعلن المحامي الفرنسي سيرغي كلارسفيلد، الذي أشار إلى «رد سخيف» من الحكومة السورية قبل أعوام على طلب تسليم بالقول إنها لا تعلم بوجود مجرم حرب على الأراضي السورية.
*****
في صيف العام 1990، ضمّت الاستخبارات الداخلية خبراً عن تأكيد وزارة خارجية ألمانيا الشرقية توجيه أمر لسفارتها في دمشق بتقديم طلب تسليم ألويس برونر للسلطات السورية. بياته كلارسفيلد أوضحت أن ألمانيا الشرقية لم تكن قد انضمّت قبلاً إلى جهود التسليم التي قامت بها النمسا وألمانيا الغربية وفرنسا خشيةً على علاقاتها الجيدة مع سوريا.
*****
وثيقة صادرة في صيف العام 1991، تُشير إلى عدم وجود جديد فيما يخص برونر، وأن آخر ما وصلها عائدٌ للعام 1988، حيث يقال إن برونر يتمتّع بنوع من «اللجوء السياسي»، و«بتقدير كبير من الجيش السوري».
*****
في وثيقة صادرة عام 1991 أمرٌ بالاحتفاظ باسم برونر في سجلات الاستخبارات الألمانية الداخلية حتى 30 حزيران (يونيو) 1993 على الأقل، لكونه «شخصية ذات أهمية معاصرة».
*****
الاستخبارات ضمّت خبراً منشوراً في آب (أغسطس) 1991 عن طلب السلطات الفرنسية القضائية من وزارة العدل السورية مساعدتها على التثبُّت فيما إذا كان المدعو فيشر هو برونر.
*****
في كانون الأول (ديسمبر) 1991، تأخذ الاستخبارات علماً بخبر القبض على مُطارِدة النازيين، بياته كلارسفيلد، في دمشق من قبل السلطات السورية، عند تواجدها في فندق، لأنها كانت تريد الاحتجاج على منح سوريا «اللجوء» لمجرم الحرب برونر، وفقاً لبيانات زوجها سيرغي، الذي قال إن زوجته بياته وُعدت بإجراء حديث مع شخصية سورية «كبيرة» للتحدث في الأمر.
*****
يشير موقع «فراغ دي شتات» إلى أن من أبرز المشكوك في دعمهم هرب برونر هو أول رئيس لجهاز الاستخبارات الخارجية الألمانية راينهارد غيهلين، الذي ظلَّ في منصبه حتى العام 1968. كان اللواء غيهلين قد بدأ بعد الحرب فوراً ببناء جهاز استخبارات بدعم مالي أميركي، تحت مسمى «منظمة غيهلين»، قبل أن تُضم لـ «بي إن دي». الموقع يشير إلى عدم وجود دليل مادي على دعم غيهلين لهروب برونر، رغم حصولها على ملف غيهلين لدى مكتب التحقيقات الفيدرالية مشيرة في الوقت نفسه إلى إتلاف «بي إن دي» ملفاً مكوناً من 581 صفحة عن برونر في التسعينيات.
*****
ما لا نعرفه بعد الاطّلاع على الملف هو صحة ما نُشر صحفياً عن أيام برونر الأخيرة في دمشق، وعن عيشه في ظروف مزرية في قبو فرع أمني. كذلك إن كان قد مات فعلاً عام 2001.
صحيفة تاتس تقول إن الاستخبارات الداخلية اعتمدت 2010 على أنه العام الذي مات فيه. أما ملف التحقيق ضده في ألمانيا فُأغلق عام 2022، حيث تفقد مذكرة الاعتقال صلاحيتها في ألمانيا بعد 100 عام من تاريخ ميلاد الشخص المطلوب.
مجلة دير شبيغل أشارت في ملف لها قبل سنوات إلى أن التحديثات الأخيرة في ملف برونر أُدخلت نهاية الألفية الثانية. حينها، تنصّتَ المحققون الألمان والفرنسيون على هاتف ابنته ليتأكدوا من أنه يعيش في دمشق. وعندما ضغط وزير الخارجية يوشكا فيشر على نظيره فاروق الشرع، وعدَ الأخير بإرسال ردٍّ، لكن هذا جاء كسابقيه: «لا وجود لهكذا شخص في سوريا».
*****
لا يُعدُّ تستُّر نازيين سابقين ظلّوا في أجهزة الاستخبارات الألمانية المستحدثة بعد الحرب وفي الوزارات على النازيين الهاربين من وجه العدالة بالأمر الجديد أو المُستغرَب. هذه كانت القاعدة على أية حال. لكن ما يُثير الآن غضب وسائل الإعلام، اليسارية التوجه على نحو خاص، هو إصرار الاستخبارات الألمانية في السنوات القليلة الماضية على التستُّر على هذا الإرث، ما يوحي بأن قادة هذه الأجهزة لم يدركوا حتى يومنا هذا أن ولاءهم للدستور وليس للزملاء السابقين.
سوريّاً، تُذكّرنا هذه الوثائق بالمرونة التي أظهرتها الحكومات الألمانية في التعامل مع نظام الأسد رغم علمها بوجود برونر، المطلوب في ألمانيا للقضاء، في دمشق. فعندما اشتدّت المُطالبات بتسليمه أواسط الثمانينيات، كما تُظهر الوثائق، وقدّمت ألمانيا مذكرة تسليم ضده للنظام، زار وزير الخارجية الألماني هانز-ديتريش غينشر دمشق في العام 1985. ووفقاً لمجلة ديرشبيغل، لم يَذكر غينشر خلال حديثه مع حافظ الأسد اسم برونر حتى. قد يكون امتنعَ عن المطالبة بالضابط النازي المطلوب عملاً بنصيحة خبير في وزارته دعا قبل ذلك بأعوام إلى عدم الإصرار بشدة على قضية برونر، لأن من شأن ذلك الإضرار بالعلاقات السورية الألمانية.
-------
الجمهورية
سوريّاً، تُذكّرنا هذه الوثائق بالمرونة التي أظهرتها الحكومات الألمانية في التعامل مع نظام الأسد رغم علمها بوجود برونر، المطلوب في ألمانيا للقضاء، في دمشق. فعندما اشتدّت المُطالبات بتسليمه أواسط الثمانينيات، كما تُظهر الوثائق، وقدّمت ألمانيا مذكرة تسليم ضده للنظام، زار وزير الخارجية الألماني هانز-ديتريش غينشر دمشق في العام 1985. ووفقاً لمجلة ديرشبيغل، لم يَذكر غينشر خلال حديثه مع حافظ الأسد اسم برونر حتى. قد يكون امتنعَ عن المطالبة بالضابط النازي المطلوب عملاً بنصيحة خبير في وزارته دعا قبل ذلك بأعوام إلى عدم الإصرار بشدة على قضية برونر، لأن من شأن ذلك الإضرار بالعلاقات السورية الألمانية.
-------
الجمهورية