كانت أهداف بوتين ورئيسي في طهران أيضاً إسقاط أكثر من عصفور بحجر واحد:
- إلزام أنقرة بالتراجع عن عمليّتها العسكرية الخامسة في شمال شرق سوريا.
- وتذكيرها بالمفاوضات التي تُجريها مع موسكو بشأن ممرّ الحبوب الذي تريد تدشينه والذي سيدرّ عليها الكثير.
- منع الانتشار والتمركز التركيَّين العسكريَّين الجديدين في شمال شرق سوريا تحت ذريعة المنطقة الآمنة وملف اللجوء وإبعاد "قسد" عن الحدود التركية.
- إقناع تركيا بقبول العودة إلى بنود اتفاقية أضنة عام 1997 بدلاً من المضيّ وراء اتفاقيات تشرين الأول 2019 التي يستحيل تنفيذها.
- ثمّ فتح الطريق مرّة أخرى أمام قوات النظام في دمشق للسيطرة على هذه الجغرافيا الاستراتيجية الواقعة تحت نفوذ الأكراد ونسف حلمهم بالإدارة الذاتية المستقلّة، وهو ما يعني خروج أميركا وتركيا من العرس بلا قرص لمصلحة موسكو وطهران والنظام في دمشق.
الأسد على خطّ "الثلاثية" :
يتوجّه إردوغان إلى طهران لإقناع شريكَيْه في الملف السوري بضرورات العملية العسكرية الخامسة التي تنوي أنقرة القيام بها في الشمال السوري ضدّ "قوات سوريا الديمقراطية"، وتفعيل خطة المنطقة الآمنة في المنطقة الحدودية، وتسهيل عودة مئات الآلاف من السوريين إلى داخل أراضيهم. لكنّ المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي يبلغ الرئيس التركي بأنّ أيّ عملية عسكرية تشنّها أنقرة ضدّ "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في شمال سوريا، "ستعود بالضرر" على المنطقة.
ما المقصود بدعوة وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد على عجل إلى طهران إثر انتهاء أعمال القمّة الثلاثية وبدء الوفود بالمغادرة؟ هل من تفاهمات ثلاثية يتمّ إبلاغها إلى دمشق ولم يُعلن عنها؟ أم ترك إردوغان بعض أعوانه في طهران لتحقيق الرغبة الإيرانية بتفعيل وساطتها على خط أنقرة - دمشق ومحاولة التقريب بين الطرفين؟
خطّط الطرفان الروسي والإيراني أيضاً للإعلان عن رفع مستوى التنسيق العسكري والسياسي والاقتصادي عبر اتفاقيات وعقود جديدة ذات طابع استراتيجي يُعلن عنها في طهران. والهدف هنا مواجهة العزلة الإقليمية والدولية المفروضة عليهما، وإعلان قدرتهما على بناء شبكة تحالفات تواجه الغرب في المنطقة وتحمي مصالحهما حتى لو فشلت محادثات الملف النووي، ورفضت تل أبيب منح إيران فرصة الخروج من ورطتها أقوى ممّا هي عليه، وزاد التصعيد الدولي ضدّ موسكو بسبب حربها على أوكرانيا.
ما هو هدف تركيا؟
لقد كان حجم التقارب والتنسيق الروسيّ – الإيرانيّ لناحية الاتفاقيات والعقود والمواقف السياسية المعلنة، أكبر وأهمّ بكثير من التفاهمات التركية الإيرانية التي تمّ التوصّل إليها. إنّ الوصول إلى 30 مليار دولار من التبادل التجاري بين أنقرة وطهران في السنوات المقبلة هدف قديم يُطرح ويُكرَّر منذ 8 أعوام، لكنّ الأمور سارت بعكس التيار بعدما تضاربت المصالح وتباعدت الاصطفافات في ملفّات ثنائية وإقليمية كثيرة قادت إلى إيصال الرقم إلى 7 مليارات ونصف مليار دولار اليوم، حتى لو قال الرئيس الإيراني إنّ "زيارة الرئيس التركي لبلادنا تمثّل منعطفاً مهمّاً في العلاقات بين البلدين".
تتمثّل مشكلة أنقرة الكبرى اليوم في أنّ قياداتها تتوجّه من قمّة مدريد الأطلسية حيث تمّ الاتفاق على الكثير من القرارات والتدابير العسكرية والسياسية ضدّ روسيا بشكل مباشر وإيران بشكل غير مباشر، إلى العاصمة الإيرانية طهران حيث القمّة الثلاثية التركية الروسية الإيرانية المشتركة لبحث ملفّات تعاون وتنسيق استراتيجيَّين مرتبطين بالكثير من المسائل الإقليمية. اعتمدت تركيا في رسم سياساتها الخارجية على سياسة متعدّدة الأقطاب والانفتاح على الغرب والشرق معاً. مالت الإبرة غرباً أحياناً وباتّجاه الشرق أحياناً أخرى. ليست أزمة تركيا في حماية هذا التأرجح الاستراتيجي في مواقفها وقراراتها، بل في كيفية إقناع الشركاء الغربيين والشرقيين الذين تضاربت مصالحهم وتباعدت خياراتهم في قضايا أمنيّة واقتصادية وسياسية، بأن يمنحونها ما تريد. في الطريق إلى قمّة طهران كان الحديث يدور حول ولادة حلف إقليمي جديد يجمع روسيا والصين وإيران في مواجهة السياسات الغربية. وكانت مدارَ نقاش أنباءُ استعدادات إيران لبيع موسكو مسيَّراتها المحليّة لتستخدمها في الحرب الأوكرانية. فكيف ولماذا دخل الرئيس التركي إردوغان على الخط عبر حديثه عن تنسيق وتعاون في التصنيع العسكري التركي الإيراني لرفع أرقام التبادل التجاري؟ فهو قال: "لدينا هدف للوصول إلى تبادل تجاري بحجم 30 مليار دولار، وهناك خطوات سنتّخذها في مجال الصناعات الدفاعية يمكن استغلالها من أجل رفع حجم التبادل التجاري"؟
من المبكر الحديث عن فرص التنسيق العسكري التركي الإيراني، لكنّ خطوة تركية من هذا النوع تتعارض كلّيّاً مع سياسة الانفتاح الإقليمي التركي الأخيرة على العديد من العواصم العربية وإسرائيل، وتُغضِب واشنطن التي تبحث عن المزيد من الذرائع للتصعيد أكثر فأكثر ضدّ أنقرة، وستُعرِّض ما شيّدته القيادات السياسية التركية من إنجازات إقليمية نحو العالم العربي وتل أبيب والغرب للخطر. فلماذا اختار الرئيس التركي إعلان مثل هذا السيناريو وهو يعود بدور وثقل أكبرَيْن من قمّة حلف شمال الأطلسي ووسط خارطة ترسم معادلات إقليمية جديدة يرصدها الجميع وبين أهدافها إلزام إيران بتغيير سياساتها والتراجع عن تهديد أمن واستقرار دول المنطقة؟ هل الموقف التركي مقدّمة لتحوّل جذري في سياسات أنقرة في الإقليم؟ أم هو لتذكير أميركا وإسرائيل وبعض العواصم بأنّ لدى تركيا بدائل وخيارات أخرى دائماً إذا لم تأخذ ما تريد؟ وكيف سيُترجَم سياسياً وانتخابياً هذا الموقف في الداخل التركي حيث ترصد قوى المعارضة كلّ خطوة يُقدِم عليها حزب العدالة والتنمية وتتربّص بأقلّ هفوة يرتكبها في الداخل والخارج؟
طهران لا علاقة لها بجدّة :
ربّما لن تكون أنقرة في حلف ضدّ إيران على الرغم من التباعد والتوتّر القائم في علاقاتهما الثنائية والإقليمية، لكنّها لن تكون أبداً في أيّ تحالف معها على حساب لعبة التوازنات التي تحاول تشييدها من جديد. لن تسمح لأحد أن يقرّر نيابة عنها ما ينبغي فعله مع إيران، لكنّها ستأخذ بعين الاعتبار ما تقوله دول المنطقة حول السلوك والممارسات الإيرانية في الإقليم.
هل يكون بمقدور تركيا مواصلة سياسة الانفتاح على العالم العربي وإسرائيل والغرب من جهة، وتنسيق السياسات العسكرية الصناعية مع إيران من جهة ثانية، بمثل هذه البساطة؟ ولا سيّما أنّ ارتدادات أزمة صواريخ "إس 400" الروسية ما زالت ماثلة أمام الأعين، وأنّها خرجت من مشروع الطائرة المقاتلة "إف 35" وتجد صعوبة في إقناع واشنطن ببيعها المقاتلة "إف 16" ومواجهة الاصطفاف الحاصل تحت سقف الكونغرس المعارِض لمضمون وبنود هذه الصفقة؟
من المبكر جدّاً إعلان فشل قمّة طهران أو نجاحها. لكنّ من السهل جدّاً القول إنّ ما جرى في طهران لا علاقة له بما حدث في جدّة من قريب أو من بعيد. في الحالة الأولى هناك محاولة تقارب وتنسيق لمواجهة العزلة والحصار المفروضين على طهران وموسكو إقليمياً ودولياً، والاستفادة من الوجود والدور التركيَّين هناك. وفي الحالة الثانية ثمّة أولويّات للعمل على إخراج المنطقة من أزماتها ومشاكلها وسياسات المحاور والاصطفافات، وقد وُجِّهت الرسالة مباشرة إلى بايدن قبل غيره وتضمّنت رغبة دول الإقليم في تفعيل دورها وتضامنها والعمل على حلّ مشاكلها بنفسها.
ليس سهلاً إطلاق توصيف "الحدث التاريخي" على ما جرى في قمّة طهران الثلاثية ونحن لا نعرف بعد كيف ستُعلَن القرارات المتّفَق عليها وتُترجَم على الأرض. ما نعرفه حتى الآن هو أنّ كلّ رئيس قال ما عنده وحاول وضع ما يريد في البيان الختامي أو أعلن ذلك على هامش اللقاءات الثنائية والثلاثية وغادر. كانت رسائل القمّة السياسية في طهران أهمّ بكثير من الاتّفاقيات والتفاهمات المعلَن عنها. فهل سنُفاجأ قريباً بقرارات وتحرّكات لم نسمع عنها؟
كان الحوار الثنائي ونتائجه أهمّ من المحادثات الثلاثية التي فشلت في الإعلان عن قرارات تعاون وتنسيق مشترك ولو في أبسط المسائل. يعكس البيان الثلاثي الختامي للقمّة مدى صعوبة الوصول إلى تفاهمات وجوامع مشتركة، فتمّ الاتفاق على تحويل الأنظار نحو مكان آخر: "... ودان الرؤساء استمرار الهجمات العسكرية الإسرائيلية على سوريا، مشدّدين على أنّ هذه الهجمات تنتهك القانون الدولي وسيادة سوريا ووحدة أراضيها، وتزعزع الاستقرار وتزيد من حدّة التوتّر في المنطقة".
أمّا في جدّة فالحديث كان مغايراً تماماً، إذ اعتبر أنّ المنطقة لأبنائها، وأشاد بإيجابيات التعدّدية القطبية، ودعا إلى تصحيح مسار علاقات، ورفض سياسات المحاور، وأعطى الأولويّة لخطط التنمية، ودعا إلى الاستعداد لأزمات اقتصادية اجتماعية إنسانية أكبر.
كان لكلّ دولة حلمها في قمّة طهران.. لكنّني "صحيت من نومتي وإنت ببلد تاني.."، كما يغنّي الفنان كاظم الساهر في أغنية: "البارحة بالحلم".
------------
اساس ميديا
*كاتب وأكاديمي تركي.