استفاد الكواري من كل ذلك، ليمنح كتابه هذا المدى من الاتساع والتنوّع رغم اعتماده بالأساس على الشذرات الحكائية القصيرة: "لقد أردتُ دائماً أن أخبر قصصاً قصيرة جداً عمن عرفتهم.. ووجدتُ في الصورة ما يختصر الكثير من الكلام. الصورة في حد ذاتها حكاية، لكنها تحتاج أحيانا لهمسة، لصوت خفيف يوقظ بذرة الدهشة في عيني من يتأملها، وهذا ما فعلته بالضبط".
بقدر ما يبدو الكتاب ذاتياً في منطلقاته، وهو يقصّ حكايات للكواري في الباب الأول بعنوان "هؤلاء عرفتهم"، تقاطعت مع مسؤولين وأصحاب وحتى غرباء عابرين، بقدر ما هو عام وهو يلتقي مع الذاكرة الجمعية سواء فيما يخصّ الشخصيات أو الأحداث.
فمن الجزائري أحمد بن بلّة، إلى العشاء الأخير مع الفلسطيني فيصل الحسيني، ومن فرانسوا ميتران وجاك شيراك إلى سوار الذهب وعبد العزيز بوتفليقة. لم يكن الكتاب رصدا لذاكرة الكاتب وحده بقدر ما تقاطع بالضرورة مع آخرين، ولعلّ الكاتب أحسن في ذلك حين اختار أن يورد ما جرى بطابع حميمي ينزع عن الحكاية جمود التاريخ دون أن يُفقدها جانبها التوثيقي الرصين.
يُفصح الباب الثاني من الكتاب "أحاديث المكان"، عن مفردة السفر الواردة في العنوان، وهو يستعرض عشرات المدن التي زارها الكواري وكتب عنها بمحبة بادية، كما فعل مع تمبكتو أو جوهرة الصحراء، أو حين مرّ على الإرث العربي في كوبا، أو عندما ربط بين البرتغال واليمن، فالأولى وجدت الاتحاد الأوروبي الذي استطاع انتشالها من عوزها الاقتصادي وضمها إليه فتجاوزت مأزقها المؤرق، بينما اليمن لا يزال يعاني. وفي اليمن أيضا يظهر الكاتب حمد الكواري مرتديا الزيّ التقليدي تزينه العمامة والخنجر المذهّب.
في الباب الثالث الذي اختار له الكواري عنوان "حدث ذات عمر"، تحضر الثقافة في المقام الأول، حيث حكايات التأسيس الأولى لعدد من المشاريع الثقافية والإعلامية، كرقمنة الوثائق البريطانية ذات العلاقة بالخليج، وقرار قطر الانضمام للمنظمة الفرانكفونية، وإنشاء قناة الجزيرة، ومكتبة قطر الوطنية، وأوركسترا قطر الفلهارمونية.
ورغم هذا الميل صوب الأحداث الثقافية، فقد تسلّلت إلى هذا الباب مواضيع أخرى كاللقاء بوفد شعبي من كندا، وافتتاح منتجع سلوى، كان يجدر ربما نقلها إلى باب آخر حتى يحتفظ التبويب بطابع متماسك.
الباب الرابع يأتي تحت عنوان "قيد الخاطر"، وهو يضم طيفا من المواضيع وإن طغت عليها فكرة السياحة والتجوال وما تركته الأماكن على الكاتب، كعلاقته بريو دي جانيرو البرازيلية وتأثره بالحريق الذي التهم متحف البرازيل الكبير الملحق بجامعة ريو الاتحادية، أو زيارته لمتحف الباب العالي في تركيا وذلك الحوار المتخيل الذي دار بينه وبين السلطان سليمان القانوني.
خصّص الدكتور حمد الكواري الباب الخامس والأخير للسباق من أجل نيل مقعد إدارة منظمة اليونسكو، وهي الحكاية التي شغلت الوطن العربي حينها، حين بدا الكواري قريبا من الفوز، غير أنّ التنازع العربي وقتها بدّد الفرصة الثمينة، فذهب المقعد إلى مرشحة فرنسا بفارق صوت واحد. أطلق الكواري على هذا الباب اسم "الحلم المجهض"، ولعلّه التوصيف الأدق، ليس على مستوى الشخصي للكاتب وحسب، بل لعموم العرب.
----------
الجزيرة