الشخصية المقصودة هي الفيزيائي والكيميائي الأميركي ج. روبرت أوبنهايمر (يلعب الدور كيليان مرفي) الذي لُقِّب بـ"أبي القنبلة الذرية" بعدما كلّفته سلطات بلاده في أربعينيات القرن الماضي مهمة تطوير الطاقة الذرية للتصدي للنازيين في حال كانوا يملكون سلاحاً مماثلاً. لكنه، كما بات معلوماً، وُظِّف تطوير السلاح النووي لإلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي (اليابان) في نهاية الحرب العالمية الثانية.
يتناول نولان شبه السيرة الذاتية بطريقة مختلفة، فهي تبدو مفككة ومتشظية لأنها خالية من السرد الخطي ومن مشاهد الربط التقليدية. لكن المخرج يصر على البقاء مخلصاً لمدرسته السينمائية وأساليبه السردية وألآعيبه الشكلية، مهما يكن الحديث الذي يتحدث عنه، مستدرجاً أوبنهايمر إلى عالمه هو. وهذا ما يعطي الفيلم سحره الخاص وفرادته. والأهم أنه يحرص على إخراج فيلم السيرة الهوليوودية من تقليديتها وتكرارها الممل، فالأحداث عادةً تبدأ بطريقة كرونولوجية، أي بدءاً من الطفولة وصولاً إلى الشيخوخة. هنا، لا شيء من هذا كله.
شبه سيرة في 3 ساعات
يستغرق الفيلم ثلاث ساعات وهي حافلة بالتفاصيل العلمية التي يبسّطها السيناريو إلى أقصى حد، كي تصبح في متناول المشاهدين ممّن لا اطلاع واسعاً لهم على ميكانيكا الكمّ والنجوم النيوترونية والثقوب السوداء وغيرها من المعطيات الكثيرة. كما أن المشاهدين سيكونون على موعد مع الكثير من النقاشات والحوارات (التي اعتبرها البعض ثرثرة) بعد أن يضعهم السيناريو في قلب التجاذبات السياسية لتلك الفترة وصراعاتها. فالأحداث تجري في حقبة كثيرة الأزمات: التصدي للنازيين، سباق التسلح النووي، الحرب الباردة، الماكاثرية التي طاردت الشيوعيين وكان أوبنهايمر من المتعاطفين معهم، وقد تم استجوابه في هذا الشأن وشؤون أخرى، بعدما رفض تقديم ولاء كامل للسلطة السياسية وأجندتها السياسية والعقائدية.
التقنية عند نولان تخدم الرؤية، ويجب ألا تكون مجانية. فمن خلال استخدام الـ"أيماكس" والتصوير بشريط قياس 65 ملم، أدخل نولان نفسه في تحد تقني من النوع الذي يعشقه، وجاءت النتيجة مذهلة بصرياً، خصوصاً أن الموضوع ينطوي على شقين، جانب منهما مشهدي (تفجير "اختبار ترينيتي") وجانب آخر يحمل في داخله الكثير من الحميمية. وما يفعله نولان هو تعزيز هذه الحميمية من خلال البقاء أقرب ما يمكن من وجه أوبنهايمر، لنرى كل شيء من منظوره الخاص، ولنتماهى مع انفعالاته.
يتلاعب نولان بالزمان السينمائي، - وهذه واحدة من أشهر هواياته وأحب الممارسات إلى قلبه - مدركاً أهميته. فالسينما تتألف في النهاية من لقائين: لقاء الزمان والمكان. ويبرع نولان في رد الاعتبار إلى كليهما وجعلهما ملموسين محسوسين. ونتيجة التلاعب بالأزمنة وخلق حوار ضمني بينها، نرى أوبنهايمر في مراحل مختلفة من حياته، حيناً عالماً وحيناً عاشقاً وحيناً متّهماً وحيناً بطلاً قومياً وحيناً خائناً أو شخصاً يعيد النظر في كل ما أنجزه، والحالة الأخيرة هي أهم جزء في الحكاية لأنها تجرده من أسطوريته وتجعله شخصاً عادياً تتآكله الشكوك فتتعززالصلة بينه وبين المتلقي.
يحلو لي النظر إلى أوبنهايمر (بحسب نولان) كشخصية كوبريكية (من ستانلي كوبريك - المخرج الذي يكن له نولان احتراماً كبيراً)، نظراً إلى عزلته وانقطاعه شبه التام عن محيطه وفشله شبه الدائم في التواصل. والأهم أنه في قلب مشروع ما عاد مسؤولاً عن تطوراته المستقبلية، إذ فقد كل أشكال السيطرة عليه. وفي هذا السياق، يتجرأ نولان في طرح أسئلة قد تبدو مزعجة لأنها تخربط علاقتنا بالثوابت: مَن المسؤول عن قتل الآلاف بالقنبلة الذرية: هل المسؤول مَن كلّف بصنعها، أو مَن صنعها أو الذي ألقى بها على المدينتين؟ من خلال هدف بسيط يضعه الفيلم نصب عينيه، نرى صناعة القوة ثم تفكيكها، ثم إعادة صنعها فتفكيكها مجدداً... وهكذا إلى آخر الفيلم حيث في انتظارنا خاتمة هي على الأرجح من اللحظات التي ستبقى من سينما نولان.
يهتم نولان بأوبنهايمر أكثر من اهتمامه بالقنبلة الذرية. هناك محاولة فعلية من جانبه ليضعنا في عقله وأحاسيسه، نابشاً الفرق الشاسع بين الباطني والظاهري. مجموعة هائلة من ردود الأفعال تصبح في متناول الحواس بعد دخول الفيلم في جزئه الأخير، إذ نصبح أمام متاهات نفسية علينا أن نجد سبيلنا للخروج منها. وهذه أيضاً حال أوبنهايمر، الوحيد، اليائس، المقهور. على رغم أن نولان لا يحوله إلى ضحية في أي لحظة من اللحظات، بل يحاول فهمه. في أحد المشاهد، يدّعي أوبنهايمر بأنه "وحش أناني"، فيرد من في وجهه بأن الوحش الأناني لا يرد عليك بأنه كذلك. حوار كهذا يكشف الكثير عن الوعي تجاه الذات الذي يتمحور عليه الفيلم.
لا يسلّم "أوبنهايمر" نفسه لنوع سينمائي محدد، وهذا متوقع عند نولان الذي لا يضع جهوده كاملةً لخدمة صنف واحد. لذلك، فإن ما يقدّمه لا هو فيلم حربي ولا هو فيلم محاكمة ولا هو فيلم سيرة، وقد نجد نتيجة هذا الخيار، نقلات مستمرة من صنف إلى صنف. أما الذين ينتظرون سيرة ذاتية تقليدية، فالأجدر بهم صرف النظر عن هذا الفيلم.
الممثّل كيليان مرفي في دور أوبنهايمر، يحمل الفيلم على كتفيه. هو عينان أولاً وكل شيء آخر يأتي في المرتبة الثانية. عينان قلقتان معذبتان تجسّدان الغياب والحضور في آن واحد. حتى عندما يجلس في خلفية الصورة، في زاوية شبه ميتة، لا يمكن صرف النظر عنه. بإمكانات قليلة، داخلية في معظم الأحيان، بعيداً من أداء بعض الممثّلين المنهجيين، جسّد مرفي الدور وصراعه مع محيطه والآخرين، بشيء من الأنفة والكرامة لا يسقط أبداً في الكاريكاتور. أما روبرت داوني جونيور في دور لويس ستراوس، عدو أوبنهايمر اللدود، فهو الآخر قدّم أداء متيناً لا غبار عليه، على رغم صعوبة تقمّص شخصية تنطوي على الكثير من اللبس والباطنية.
-----------
اندبندنت عربية