وبالرغم من أن العديد من المواقع الروسية في الخارج، تحدثت عن أنها كانت على الغالب تقول لوالدها شيئاً آخرَ أكثر دنيوية، من قبيل "أريد العودة إلى المنزل بسرعة لإطعام القطة" أو "أراك غداً، فأنا مشغولة مساءً"، فإن محاولة والدها أسطرة موتها يشكل تقليداً راسخاً في البروباغندا الروسية.
لكن هذا التقليد يعبّر بقوة أيضاً، عن ذلك التيار من النخبة الروسية التي ترعرعت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأصبحت تدين بالعقيدة "الرابعة" التي صاغها معلم دوغين، إيفان يلين وبَلْورَها دوغين، لتصير "أيديولوجيا" تجمع بشكل عجائبي المنجل والمطرقة للشيوعيين المتعصبين، بالشعارات الفاشية لليمينيين القوميين، بالرموز التاريخية للكنيسة.
تدين هذه الأيديولوجيا بولائها علناً لذلك لنمط الحداثي من الفاشية، وترفض بشدة الحلم الليبرالي القائم على الحرية الفردية وضد قوة المجتمع في مواجهة الدولة. إذ يرى دوغين أن هذا الصراع التاريخي يمتد منذ الأزل بين الدول البرية والبحرية. يمتد منذ صراع أسبارتا البرية وأثينا البحرية - التجارية، ليمتد بين دول برية مثل ألمانيا وروسيا وتركيا وإيران في مواجهة أحفاد أتلانتس البحريين الليبراليين الانغلوساكسون.
إنه يرى أن الدولة الروسية - المتمثلة بالإمبراطورية الروسية القديمة وسليلتها الجغرافية، الاتحاد السوفياتي، هي كيان جغرافي تاريخي مقدس لاهوتي وفريد، مرتبط بالوحدة الروحية الأوروبية الآسيوية الأرثوذكسية وقلبها روسيا.
يقول دوغين: "أنت ليبرالي فأنت عدوي"، بل "(يجب) رفض الحضارة الأطلسية البحرية، والسيطرة الاستراتيجية على الولايات المتحدة الأميركية، ورفض السماح للقيم الليبرالية بالسيطرة علينا".
يدرك كل من عايش بوتين أنه "أبعد ما يكون عن العقائدية والهوس الأيديولوجي لدوغين". بل "إنه حاكم فردي سلطوي طامح وجامح". وفي شهادته عنه، يقول هنري كيسنجر الذي كان يتداول معه في بحوثه أيام الدراسة، إنه كان شخصاً مأخوذاً بالزعامة والقوة، لكنه لم يكن قط ذلك العقائدي المهووس!
لم يقدم بوتين على تنصيب دوغين ودعمه، الا كأداة أيديولوجية لرفع العصبية ضد الغرب، وتوحيد اليسار واليمين المتطرفين في برنامج عقائدي مناسب، بعدما حاول استخدام العصبية الأرثوذكسية الروسية ولم يفلح. فدوغين ديكور حيوي في عتاد بوتين للحكم.
أوكل بوتين لدوغين سابقاً، مهام سياسية عقائدية ليزور طهران مرات عدة في فترة التنسيق حول التدخل في سوريا، وزار أنقرة مرات أيضاً لجسر الخلافات مع روسيا، بخاصة بعد إسقاط الطائرة الروسية، كما أنه تشارك في المواقف مع بانون، مستشار ترامب، خلال ادارته لصحيفة "برتبيت" في إسرائيل. لكن هذه المهام لم تكن يوماً مهاماً أمنية ولا دبلوماسية، بل كانت من باب الترويج لمقولات العداء للغرب الليبرالي و"قرب الانتصار عليه".
إذاً من استهدف دوغين ودوغينا؟ ثمة نظريات عدة:
فور وقوع الحادثة، حددت الأجهزة الروسية سيدة أوكرانية حضرت إلى موسكو مع ابنتها وسكنت في عمارة داريا ذاتها، ثم غادرت روسيا بعد الحادث.
ثم اتهمت أوكرانيا بالجريمة. وتبدو هذه الحجة موضع شك كبير، فمن غير المفهوم أن تكرس الأجهزة الأوكرانية جهداً وموارد كبيرة ضرورية لعملية بهذا التعقيد، لقتل شخص بعيد من الجهد الحربي، لن يؤثر في شيء على المعركة الجارية بل كانوا سيوجهونها نحو قيادات لها علاقة مباشرة بالميدان. كما لا يتوقع أن تراهن أوكرانيا على انهيار معنويات الشارع الروسي لمقتل دوغينا.
بعد ذلك، سارعت الأجهزة لتنسب عملية الاغتيال لتنظيم متطرف باسم NRA لم يكن معروفاً سابقاً، الأمر الذي طرح تساؤلات جديدة. فكيف لمنظمة غير معروفة من قبل، تولد فجأة لتنفذ عملية بهذا المستوى من التعقيد والحرفية؟ وزاد الطين بلّة حين حمّلت الأجهزة الولايات المتحدة عملية الاغتيال.
روايات كثيرة رددها سكان موسكو عن ثروة دوغينا، وعلاقاتها بأوليغارشيا بلاط بوتين، بل وصراعاتها معهم. لكن ثمة حادثتين مهمتين في هذا السياق:
الحادثة الأولى: انتقاد دوغين مؤخراً لبوتين، وتحريضه الكبير علناً للذهاب لاستخدام أقصى مستويات القوة في الداخل والخارج، الأمر الذي يُحرج بوتين الذي يسعى للنزول عن السلم في أوكرانيا، والتوصل إلى حالة من وقف إطلاق النار عند مرحلة معينة.
بل تقول داريا دوغينا: "إذا بدأنا عملية عسكرية خاصة، فيجب أن تتم على أرضنا، وداخل المجتمع، لأن هذه العناصر (نحن نتحدث عن النخب التي درست في الغرب أو كان لها الكثير من الاتصال مع الأجانب) ذات خطر كبير". "لماذا تم فرض عقوبات اقتصادية من حيث المبدأ؟ إذ تفرض العقوبات الاقتصادية لإتاحة الفرصة لهذه الحاشية أن تبدأ في التخريب، ولقد حصلت محاولات للانقلاب. وهذا يعني في الواقع أن الغرب يعمل مع هذه النخب".
الحادثة الثانية: الأخطر أن داريا دوغينا، بشعبويتها الطفولية، طالبت مؤخراً، بـ"عملية خاصة في الاقتصاد – لتأميم كل شيء من الأوليغارشية الروسية" لخدمة أهداف الحرب و"التحفيف من معاناة الناس". فهذا الطرح الخطر يدغدغ مشاعر الملايين الذين يحنون للزمن الشيوعي.
رغم النفخ الإعلامي، تقف أهمية دوغين بالنسبة لبوتين عند البروباغندا، ولا يعني الهذر العقائدي لدوغين أي شيء. فلقد شكل اغتيال داريا دوغينا، منعطفاً مقلقاً، ليس بسبب أهمية أبيها ولا أهميتها. بل ما يقلق أهل موسكو العارفين، هو أنهم، أمام كل هذه الروايات المتناقضة، تدلهم غريزتهم التاريخية الى أن ثمة وراء الأكمة الكثير من الشكوك. فتناقض الروايات وابتسارها، وافتقاد الشفافية، وضخامة العملية، تولد قلقاً غريزياً تخوفاً من أن يكون إحساسهم صحيحاً.
وإذ شكلت حوادث مماثلة، نذيراً باندلاع دورة جديدة من النزاع الداخلي، وما يرافقها من حملات تطهير واعتقالات وتصفيات، واستئساد الأجهزة الأمنية، فإن كل العمليات السابقة اتسمت بالصفات ذاتها: عملية معقدة جداً وحبكة إعلامية، فبالنسبة لإيفان الموسكوفي المثقف والمكافح والمخضرم، يرسم هذا الاغتيال منظراً شاهده من قبل، وكان مقدمة، بل ذريعة لمزيد من العذاب والمآسي. من زمن تصفيات ستالين، إلى إسقاط الطائرة المدنية الكورية، ثم هبوط طائرة زراعية من فنلندا في الساحة الحمراء، إلى تشرنوبيل. كانت تلك احداثاً مشؤومة. والله يستر!
---------
النهار العربي
---------
النهار العربي