.
في وقت مبكر من عام 2012 خصوصاً بعد الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن، وتصريحات المسؤولين الروس المتكررة بأنهم لن يسمحوا بأن يتكرر السيناريو الليبي في سوريا، وأنهم سوف يستخدمون الفيتو طالما اقتضى الأمر ذلك، إضافة إلى ما أعلنه المسؤولون الصينيون في مطلع شهر شباط/ فبراير من العام ذاته بأنهم لن يتركوا الروس لوحدهم في مجلس الأمن، صار واضحاً أن تدويل القضية السورية قد جعلها تدخل في مأزق جدي. وأن الخروج من هذا المأزق لم يكن ممكناً في ضوء موازين القوى على الأرض بين النظام وداعميه وبين قوى الانتفاضة في ذلك الوقت. بكلام آخر يمكن القول إن الحالة السورية قد انتقلت من حالة التمرد المجتمعي والانتفاضة لتدخل في طور الأزمة بالمعنى الغرامشي. هذا يعني عدم قدرة النظام على هزيمة الحركة الاحتجاجية، ولا الحركة الاحتجاجية قادرة على إسقاط النظام، وكان واضحاً أن هذه الحالة يمكن أن تستمر سنوات بالنظر إلى رفض طرفي الصراع للحوار، وهذا ما حصل فعلاً للأسف.
إن الإدارة الدولية للأزمة السورية أدت دوراً حاسماً في استمرار الأزمة، وهي لا تزال مستمرة في أداء هذا الدور، وإن بعض أطرافها ممن زعموا صداقة الشعب السوري قد اجتهد في ذلك لتحقيق تدمير سوريا وتمزيق وحدة شعبها. أمام هذا المشهد المعقد احتار المواطن السوري بدور كل من الدول الداعمة للنظام أو الداعمة للمعارضة وصار يحسب أن ثمة نوعاً من التواطؤ بينها ضده، وضد بلده.
وكان من الطبيعي في ظل الإدارة الدولية للأزمة السورية وكأحد أدواتها أن تظل المعارضة السورية السياسية محكومة بالتنازع والفرقة، وأن يتم دفع الحركة الاحتجاجية نحو التسلح، الأمر الذي أدى بالضرورة إلى تطيفها، وإلى سيطرة القوى الإرهابية عليها. وفي السياق ذاته ساهم النظام في الوصول إلى هذه الحالة من خلال تبنيه للخيار الأمني لقمع الحركة الاحتجاجية متوهماً أنه بذلك سوف يقضي عليها، الأمر الذي زاد من تعقيد الوضع السوري، واستجر دولاً عديدة للتدخل المباشر في الأزمة السورية دعماً لهذا الطرف أو ذاك.
أمام حالة الاستعصاء الحقيقية هذه كان ينبغي التفكير بمبادرات غير تقليدية للخروج من الحلقة المفرغة التي وصلت إليها الأزمة السورية، وأن تدرك المعارضة استحالة إسقاط النظام بالقوة، كما كان ينبغي على النظام أن يدرك أنه لن يستطيع توحيد سوريا وإعادة اللحمة إلى الشعب السوري، وأن المهمة المركزية باتت تتمثل في إنقاذ ما تبقى من سوريا ومن شعبها، وإعادة توحيدها والبدء بإعادة إعمارها. لقد تحولت الأزمة السورية خصوصاً بعد عام 2015 من كونها أزمة محلية بصورة رئيسة تخص الشعب السوري ونظامه السياسي القائم، لتصير أزمة عربية وإقليمية ودولية. ومع أن بعض المبادرات غير التقليدية للحد من خطورة الأزمة السورية على دول الجوار، وحتى على بعض الدول البعيدة، قد صدرت عن أطراف دولية عديدة مثل مناطق خفض التصعيد، التي اقترحها الروس بالتوافق مع أميركا وبعض دول الجوار وأدت بالنتيجة إلى توسيع سيطرة النظام على مناطق شاسعة من سوريا، كانت تحت سيطرة “داعش” وإخوته. وفي هذا الإطار غير التقليدي ينضوي ما بات يعرف بمسار أستانا وسوتشي والذي تمخضت عنه اللجنة الدستورية.
المشكلة الرئيسة في الأزمة السورية أنها تخضع لتنازع مصالح يصعب التوليف بينها، وأن أطراف الأزمة من السوريين لا يملكون إرادة سياسية مستقلة عن أطرافها الدولية. المشهد السوري اليوم يتكون من ثلاث مناطق نفوذ رئيسة، منطقة نفوذ أميركية شرق الفرات، ومنطقة نفوذ روسية إيرانية حيث يسيطر النظام، ومنطقة نفوذ تركية في شمالي وشمال غربي سوريا حيث تسيطر مجموعات مسلحة إرهابية. لقد تم الرهان لفترة على نجاح اللجنة الدستورية في التوافق على مخرج دستوري للأزمة السورية، لكنها لم تكن أكثر من نوع من المسرح العبثي يتحاور فيه طرشان، وهي اليوم في حال موت سريري.
في الفترة الأخيرة بدأت تجري جملة من التحولات السياسية على المشهد الإقليمي والدولي ربما تسرِّع من إيجاد حل توافقي للأزمة السورية، يحاول النظام تجييرها لصالحه. من هذه التحولات تركيز أميركا جل اهتمامها على الشرق الأقصى وعلى الحرب الروسية الأوكرانية، وانشغال أوروبا بقضية الهجرة إليها مع ما رافقها من أعمال إرهابية، وكذلك انشغالها اليوم بأزماتها الطاقوية والاقتصادية، وتركيز تركيا على تصحيح علاقاتها مع الدول الإقليمية بما في ذلك سوريا، بسبب أزمتها الاقتصادية، وبسبب ما تزعم أنه خطر كردي سوري على أمنها القومي. هذه التحولات بلا شك سوف تدفع باتجاه حل سياسي توافقي يجري العمل عليه خلال الفترة القادمة من خلال تفعيل عمل اللجنة الدستورية لإخراجه وهذا سيكون موضوع مقالتنا القادمة.
------------
نورث برس
*معارض وأكاديمي سوري.
في وقت مبكر من عام 2012 خصوصاً بعد الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن، وتصريحات المسؤولين الروس المتكررة بأنهم لن يسمحوا بأن يتكرر السيناريو الليبي في سوريا، وأنهم سوف يستخدمون الفيتو طالما اقتضى الأمر ذلك، إضافة إلى ما أعلنه المسؤولون الصينيون في مطلع شهر شباط/ فبراير من العام ذاته بأنهم لن يتركوا الروس لوحدهم في مجلس الأمن، صار واضحاً أن تدويل القضية السورية قد جعلها تدخل في مأزق جدي. وأن الخروج من هذا المأزق لم يكن ممكناً في ضوء موازين القوى على الأرض بين النظام وداعميه وبين قوى الانتفاضة في ذلك الوقت. بكلام آخر يمكن القول إن الحالة السورية قد انتقلت من حالة التمرد المجتمعي والانتفاضة لتدخل في طور الأزمة بالمعنى الغرامشي. هذا يعني عدم قدرة النظام على هزيمة الحركة الاحتجاجية، ولا الحركة الاحتجاجية قادرة على إسقاط النظام، وكان واضحاً أن هذه الحالة يمكن أن تستمر سنوات بالنظر إلى رفض طرفي الصراع للحوار، وهذا ما حصل فعلاً للأسف.
إن الإدارة الدولية للأزمة السورية أدت دوراً حاسماً في استمرار الأزمة، وهي لا تزال مستمرة في أداء هذا الدور، وإن بعض أطرافها ممن زعموا صداقة الشعب السوري قد اجتهد في ذلك لتحقيق تدمير سوريا وتمزيق وحدة شعبها. أمام هذا المشهد المعقد احتار المواطن السوري بدور كل من الدول الداعمة للنظام أو الداعمة للمعارضة وصار يحسب أن ثمة نوعاً من التواطؤ بينها ضده، وضد بلده.
وكان من الطبيعي في ظل الإدارة الدولية للأزمة السورية وكأحد أدواتها أن تظل المعارضة السورية السياسية محكومة بالتنازع والفرقة، وأن يتم دفع الحركة الاحتجاجية نحو التسلح، الأمر الذي أدى بالضرورة إلى تطيفها، وإلى سيطرة القوى الإرهابية عليها. وفي السياق ذاته ساهم النظام في الوصول إلى هذه الحالة من خلال تبنيه للخيار الأمني لقمع الحركة الاحتجاجية متوهماً أنه بذلك سوف يقضي عليها، الأمر الذي زاد من تعقيد الوضع السوري، واستجر دولاً عديدة للتدخل المباشر في الأزمة السورية دعماً لهذا الطرف أو ذاك.
أمام حالة الاستعصاء الحقيقية هذه كان ينبغي التفكير بمبادرات غير تقليدية للخروج من الحلقة المفرغة التي وصلت إليها الأزمة السورية، وأن تدرك المعارضة استحالة إسقاط النظام بالقوة، كما كان ينبغي على النظام أن يدرك أنه لن يستطيع توحيد سوريا وإعادة اللحمة إلى الشعب السوري، وأن المهمة المركزية باتت تتمثل في إنقاذ ما تبقى من سوريا ومن شعبها، وإعادة توحيدها والبدء بإعادة إعمارها. لقد تحولت الأزمة السورية خصوصاً بعد عام 2015 من كونها أزمة محلية بصورة رئيسة تخص الشعب السوري ونظامه السياسي القائم، لتصير أزمة عربية وإقليمية ودولية. ومع أن بعض المبادرات غير التقليدية للحد من خطورة الأزمة السورية على دول الجوار، وحتى على بعض الدول البعيدة، قد صدرت عن أطراف دولية عديدة مثل مناطق خفض التصعيد، التي اقترحها الروس بالتوافق مع أميركا وبعض دول الجوار وأدت بالنتيجة إلى توسيع سيطرة النظام على مناطق شاسعة من سوريا، كانت تحت سيطرة “داعش” وإخوته. وفي هذا الإطار غير التقليدي ينضوي ما بات يعرف بمسار أستانا وسوتشي والذي تمخضت عنه اللجنة الدستورية.
المشكلة الرئيسة في الأزمة السورية أنها تخضع لتنازع مصالح يصعب التوليف بينها، وأن أطراف الأزمة من السوريين لا يملكون إرادة سياسية مستقلة عن أطرافها الدولية. المشهد السوري اليوم يتكون من ثلاث مناطق نفوذ رئيسة، منطقة نفوذ أميركية شرق الفرات، ومنطقة نفوذ روسية إيرانية حيث يسيطر النظام، ومنطقة نفوذ تركية في شمالي وشمال غربي سوريا حيث تسيطر مجموعات مسلحة إرهابية. لقد تم الرهان لفترة على نجاح اللجنة الدستورية في التوافق على مخرج دستوري للأزمة السورية، لكنها لم تكن أكثر من نوع من المسرح العبثي يتحاور فيه طرشان، وهي اليوم في حال موت سريري.
في الفترة الأخيرة بدأت تجري جملة من التحولات السياسية على المشهد الإقليمي والدولي ربما تسرِّع من إيجاد حل توافقي للأزمة السورية، يحاول النظام تجييرها لصالحه. من هذه التحولات تركيز أميركا جل اهتمامها على الشرق الأقصى وعلى الحرب الروسية الأوكرانية، وانشغال أوروبا بقضية الهجرة إليها مع ما رافقها من أعمال إرهابية، وكذلك انشغالها اليوم بأزماتها الطاقوية والاقتصادية، وتركيز تركيا على تصحيح علاقاتها مع الدول الإقليمية بما في ذلك سوريا، بسبب أزمتها الاقتصادية، وبسبب ما تزعم أنه خطر كردي سوري على أمنها القومي. هذه التحولات بلا شك سوف تدفع باتجاه حل سياسي توافقي يجري العمل عليه خلال الفترة القادمة من خلال تفعيل عمل اللجنة الدستورية لإخراجه وهذا سيكون موضوع مقالتنا القادمة.
------------
نورث برس
*معارض وأكاديمي سوري.