الدلائل كثيرة على أن إيران التي أعلنت سيطرتها على أربع عواصم عربية، وحزب الله الذي وسم بالهيمنة على "مفاصل الدولة اللبنانية"، يفقدان تدريجياً ذلك التصنيف، ويستعيدان واقعيتهما، وتواضعهما في التعامل مع المحيط المباشر وميادينه السياسية والأمنية، الى حد أن المبادرة تكاد تفلت من أيديهما. ولعل سوريا هي المثال الاخير، على التغيير في موازين القوى الاقليمية، وتحول نظام الرئيس بشار الاسد الى عبء ضاغط على الجانبين، بعدما ظل لسنوات عشر بمثابة وديعة ثمينة.
تردد أميركا وإسرائيل كل يوم تقريباً، بالتصريحات والغارات المكثفة أكثر من أي وقت مضى، أن سوريا تقع خارج الاتفاق النووي الذي يجري التفاوض الآن على إحيائه، ما يعني أن إنهاء وليس فقط تقليص النفوذ الايراني في سوريا وإستعادة النظام السوري من الحضن الايراني، هو الثمن الذي يفترض أن يجبى لنيل الرضا الاميركي والسعودي على الاتفاق، وهو ما يخالف الشائع عن أن سوريا كانت وستبقى الجائزة الكبرى التي نالتها إيران، بعيد توقيعها على الاتفاق النووي الاول في العام 2015، والذي توسعت في ظله نحو اليمن.
نظام الاسد هذه المرة سيكون ضحية الاتفاق النووي المستعاد، وهو ما تشهد به نتائج الغارات الجوية الاميركية والاسرائيلية المتلاحقة على أهداف سورية إيرانية استراتيجية (مطار دمشق، مرفأ اللاذقية، ومطارات ومرافىء عديدة أخرى، فضلا عن مخازن ومصانع الصواريخ..) تفوق باهميتها تلك التي إستهدفتها إسرائيل لوحدها طوال السنوات الماضية.. من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن النظام، الذي يحرم الآن من التغطية الايرانية، العسكرية والسياسية والاقتصادية طبعا، بات على وشك السقوط. البدائل لتلك التغطية، متوافرة، وقد يكون بينها البديل التركي الذي يمد اليوم يد المصالحة نحو دمشق، فضلا عن البدائل الخليجية المتاحة دائماً!
الجبهة السورية التي فتحها الاميركيون والاسرائيليون معا ضد إيران، تبدو الآن وكأنها حلقة أخيرة من سلسلة تشمل اليمن والعراق وقطاع غزة، التي تشهد على استهداف النفوذ الايراني، وتراجعه أو على الاقل إنكفاء الطموح الايراني، الذي بالغ في تقدير ما تتيحه الجبهة اليمنية، وما يوفره العراق، وما تقدمه حركة الجهاد الاسلامي في غزة، واضطر في النهاية الى التسليم، او حتى التوصية، بوقف اطلاق النار على الجبهات الثلاث، والدخول في مسارات سياسية، لا تعكس الاستثمار الايراني السابق، ولا تخدمه الى حد بعيد، بل يمكن أن تؤدي الى إخراج إيران فعلاً من صنعاء وبغداد وغزة.. وهو ما يتلاءم أيضا مع رؤية غالبية القيادة والجمهور في إيران، الخاصة بالدور الاقليمي المتاح، والمطلوب في المرحلة المقبلة، سواء بإتفاق نووي مع أميركا أو من دونه.
ويندرج لبنان في هذا السياق. ولعل سلوك حزب الله، العائد الى كنف الدولة من بوابة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والذي كان يعرف نفسه كقوة اقليمية مؤثرة في تلك الجبهات الثلاث تحديداً، ويعلن بين الحين والاخر نظرية "وحدة الساحات"اللبنانية الفلسطينية، يعكس قدراً كبيراً من الواقعية السياسية التي كان حتى الأمس القريب يعتبرها خيانة لموقعه ودوره وطموحه اللبناني والفلسطيني..والعربي. وهو ما ستثبته معركة الترسيم البحري، التي يخوضها الحزب بدقة متناهية، من غير أن يتجاهل قوة الموجة الاميركية الاسرائيلية الضاغطة، وما ستجسده معركة، تشكيل الحكومة اللبنانية المقبلة، وتاليا "لامعركة" رئاسة الجمهورية في غضون الأسابيع القليلة المقبلة.
والمرجح أن يكون لبنان آخر الشهود على نهاية الحقبة الايرانية التي سادت في العشرية الماضية، في الحيز اللبناني الضيق، وفي المحيط العربي الاوسع.
-----
المدن