وهكذا فازت جورجيا ميلوني برئاسة الوزراء في إيطاليا، وهي زعيمة حزب "أخوة إيطاليا" وعمرها 45 عاماً. وإذ يصادف هذا العام مرور 100 عام على مسيرة موسوليني على روما وصعود الفاشية، يتحدث الاعلام بخفة عن صعود الفاشية وقرب احتلال القمصان السوداء لروما.
ولكن مهلاً! وسم ميلوني بالفاشية يلطف صورة الفاشية ويخفي فظاعتها. وبالرغم من الطبيعة القلقة جداً للحياة السياسية الإيطالية، يبقى نظامها ديموقراطياً مزدهراً وعميق الجذور. ولئن كانت الديموقراطيات مرنة تسمح بصعود الشعبوية، فانها تبقى أفضل الحلول السيئة.
ليس "فراتيلي ديتاليا" الذي تتزعمه ميلوني، سليلاً مباشراً لحزب موسوليني. فلقد نشأ هذا الحزب في جمهورية سالو الشمالية كرد فعل من قبل اليمين الإيطالي، على صعود الشيوعية على أشلاء دولة موسوليني وتداعي ألمانيا النازية.
حصل ذلك في العديد من دول أوروبا وخاصة في أوكرانيا، وفنلندا، واليونان، بل وصولاً للبرازيل والأرجنيتن. وحزب "أخوة إيطاليا" هو حزب يميني بالفعل، ولكنه اقرب لليمين الثقافي الاجتماعي الغربي، والذي يمتد من أوربان هنغاريا ولوبن فرنسا وصولاً إلى ترامب ومودي ونتنياهو. بل لعلنا نتذكر أن الحزب الديموقراطي الأميركي نفسه كان حزب الكونفدرالية والفصل العنصري.
وبغض النظر عن التزامها الديني وعن وسيرتها الشخصية، تتحدث ميلوني بكثافة عن قيم الأسرة والكنيسة، وذلك لا من باب التدين، بل من منطق الهوية الثقافية التقليدية. لكن برنامجها يحوي ملامح، ينقصها النضج، مصالح رجال الاعمال وخاصة الاقتصادات الصاعدة، كاقتصاد المعلومات والخدمات والنقد الخ..
ذلك أن أوروبا بأسرها، تعاني من حقيقة أنها لم تتخلص بعد من تداعيات الحرب الباردة على مجتمعاتها واقتصادها. وأمام انكماش الاقتصاد العالمي والركود الوشيك المقبل، والمنافسة الشديدة من الاقتصادات الصاعدة في الصين وآسيا وأميركا اللاتينية، ترى الآن الطبقات الصاعدة لرجال الاعمال في أوروبا أن الدولة قدمت مكاسب اجتماعية مفرطة في مرحلة مجابهة الشيوعية. لكن هذه المكاسب صارت عبئاً لا يطاق على هذه الاقتصادات، ليصبح الحديث عن أوروبا الكسولة والتي كبلتها الضمانات المجانية وشلت قدرتها تماماً على استجلاب الاستثمارات، حديث كل الاقتصاديين. بل صارت أوروبا، رغم تقدمها العلمي، طاردة للنخب والأموال. بهذا المعنى تترقب أوروبا بأسرها صعود شكل من أشكال التاتشرية أو الريغانية، على أشلاء اليمين التقليدي، بدءاً من بريطانيا تراس وربما صولاً إلى فرنسا.
إذ ليست ميلوني في أقصى اليمين القومي الأيديولوجي الإيطالي. إنها أقل راديكالية بكثير من ماتيو سالفيني الزعيم الشعبوي اليميني المعادي لأوروبا، والموالي بشكل واضح لفلاديمير بوتين. ويتضح من قراءة برنامجها، انها وسطية في السياسة الاقتصادية وهي أيضا بعيدة عن هز قارب التحالف الأطلسي، أو الأوروبي او تجاه أوكرانيا.
لكن ميلوني الشابة ذات خبرة سياسية واقتصادية سطحية جداً، وهي تقف بين حليفين يتحضران لالتهامها حية. فعلى يمينها يقف سالفيني وعلى يسارها يقف برلسكوني - 85 عاماً- رجل الاعمال والسياسي المخضرم المتورط مع بوتين والذي اعتاد ان يقيم حفلات المجون في المباني الحكومية.
السؤال الجوهري هو انه مع تقاليد الديموقراطية الإيطالية التي تجعل رئاسة الوزراء باباً دواراً كان آخر الخارجين منه الاقتصادي الكبير دراجي، فهل ستستمر ميلوني خمس سنوات؟ لم يتح ذلك لأي رئيس وزراء سابق. وبدلت إيطاليا 70 حكومة منذ الحرب الثانية، وهي تعاني من مشكلة اقتصادية عميقة وضخمة معاً. فلقد توقف نموها منذ 2010، وفشلت الإصلاحات الاقتصادية السابقة بشكل ذريع، ويصل الدين العام لما يزيد عن 150٪ من الدخل القومي، لذلك لا تستطيع ايطاليا ولا ميلوني، إدارة الظهر لشركائها الاوروبيين الذين يقرضونها، ويعيدون جدولة ديونها ويغطون سنداتها. فالشعارات القومجية السخيفة لن تطعم الشعب الإيطالي.
ستكون الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية الملحة مؤلمة جدا في ظل انكماش وتراجع اقتصادي كوني. لذلك ستحتاج ميلوني للقيام بعمليات جراحية لا تحظى، حكما، بأية شعبية خاصة من البيروقراطية الضخمة والنقابيين الخ.
حقيقة الامر أن حكومة ميلوني لن تكون حكومة قوية. فالانقسامات واضحة بين ميلوني وسالفيني ولا شك في أنهما سيتنافسان على المناصب الامر الذي سيعمق المأزق الاقتصادي. رغم كل ذلك من المعروف ان لميلوني تصريحات شعبوية وعرقية مقززة. لكن ذلك لا يجعل منها فاشية. وهي بالمقابل تقول انها تقطع مع الماضي.
السياسيون القادرون على الاستمرار ليسوا من يعملون بأجنداتهم الأيديولوجية، ولا هم يستمعون فقط إلى الناخبين، بل يكونون قادرين على شرح السياسات المؤلمة للناخبين العاديين.
في نهاية الامر، سيتعلق مستقبل ميلوني القلق بمدى شكيمتها السياسية وقدرتها على جمع الشعب الإيطالي حول جملة من الأمور المؤلمة جدا. أولها الإصلاحات الهيكلية في بنية الدولة، والاصلاحات الهيكلية في الاقتصاد، وإدارة علاقاتها بالاتحاد الأوروبي نحو مزيد من الاندماج في تقسيم العمل الأوربي. والسبب الرئيسي للشك في مدى قدرة ميلوني على تغيير إيطاليا هو ببساطة أنها ليست شعبية ولا قوية كما يوحي فوزها الانتخابي. وثمة من يراهن من الآن على أن نجمها سيحترق قريبا أو يخفت تدريجيا.
في الانتخابات الوطنية السابقة في البلاد، في مارس 2018، فاجأت حركة خمس نجوم المراقبين الدوليين بفوزها بما يقرب من ثلث الأصوات. وحصل "إخوان إيطاليا" على 4 في المائة فقط. وانهارت حكومتان متتاليتان في السنوات الثلاث التالية، وسط الفوضى والاحتدام.
لذلك فان فوز ميلوني لا علاقة له بالحنين إلى الماضي الفاشي لإيطاليا، بقدر ما يرتبط بالغضب من الحاضر المحفوف بالمخاطر. ولا يمكن ان نقدر المدة التي ستتمكن فيها ميلوني من البقاء في منصبها، بل وبالنظر لوجود الكثيرين ممن يريدون التهامها، فإن انهيار حكومتها في غضون عام أو عامين لن يكون صادما.
أمام ميلوني طريقان اولها الإصلاح الاقتصادي وإخراج البلاد تدريجيا من مأزقها أو ان تذهب ميلوني نحو الأيديولوجيا لتسقط سريعا وتخطو إيطاليا خطوة أخرى نحو التداعي السياسي.
----------
النهار العربي والدولي
----------
النهار العربي والدولي