الآن، صارت نوافذ التعبير الالكتروني الجديدة مثل المنتديات، والمدونات، والفيسبوك، وتويتر، وغيرها تمنح إطلالة وافية على الحراك الاجتماعي لهذا الجيل لم تكن متوفرة من قبل. وليستبشر الباحثون الاجتماعيون بكمية هائلة من المادة الخام جاهزة للتحليل والتصنيف والتدقيق والبحث، منحهم إياها الإنترنت على طبق من السرعات العالية والتواصل الحيّ، فكفاهم بذلك عناء الاستبيانات المموهة والاستقراءات البطيئة لأي ظاهرة اجتماعية، أو قضية عامة، أو تطور ملحوظ في السلوك الاجتماعي يمكن دراسته على ضوء متغيرات مرحلية أو اقتصادية أو سياسية.
الآن يفصح الشاب عن ذاته بكل أريحية عندما يخاطب شاشة كومبيوتره فيكتشف أنه خاطب العالم، ويضغط أزرار هاتفه فيكتشف أنه جاب الزمان. العينة هائلة الحجم بقدر مستخدمي الإنترنت، والأدوات التحليلية سهلة الاستخدام بقدر ما يسرتها التكنولوجيا، والمجتمع السعوديّ بالذات متلهف لأي دراسات جادة تخبره إلى أين هو متجه في مرحلة التسارع الحديث التي بلغها. لم يسبق للمجتمعات أن كانت قراءتها سهلة إلى هذا الحد، ولم يسبق لمجتمعنا السعوديّ بالذات أن واجه نفسه، وخاطب ضدّه، مثلما يفعل اليوم على ساحات المنتديات، وصفحات الفيسبوك، وتغريدات التويتر. الأطياف تتداخل مع بعضها بشكل يوميّ ومكثف. الأفكار تتصادم، والتحفظات تتساقط، والقناعات تتغير. المسلمات الكبرى تجد نفسها قد تحولت إلى نظريات قابلة لإعادة البحث والمداولة، والأبراج العالية تهتزّ أمام حرية التعبير التي تجتاحها بشكل (جماعيّ) جامح بعد أن كانت تطرقها بشكل (جماعات) خجولة، والسلطات الثقافية تتمحور حول (الفكرة) وتنفضّ من حول (الشخص) في هجرة إيجابية نحو مجتمع (ناقد) وليس (منقاد).
السرعة التي تلقّف بها المجتمع السعوديّ تكنولوجيا التواصل الاجتماعي تعكس حاجته الماسّة إلى أدوات تعبير حرة، ومساحات تواصل مفتوحة، ذلك أن المجتمع في سنواته الأخيرة كاد يختنق بصوته غير المسموع، ويغصّ باحتقاناته الثقافية المتزايدة، حتى ليكاد يندفع في أي مغامرة ليس له حظ منها، ولا قناعة بها، ولا رغبة فيها، سوى إيصال الصوت، وإثبات الذات، وتسجيل الحضور، تحت أي راية وضمن أي تيار. واليوم جاء الإنترنت ليمنحه صوته الخاص، ومنبره الحرّ، وورشته الصغيرة التي يختبر فيها قضاياه، ويجرّب فيها أفكاره، ويختار فيها انحيازاته، ويعدّل فيها ثقافته، ويخرج إلى مجتمعه (فرداً) بعد أن كان (رقماً).
هذا يعني أن واحدة من أعوص مشكلات المجتمع السعوديّ نزل علينا حلّها من السماء من حيث لم نحتسب. خلال ثمانين سنة، توحّد الوطن وتشكّل ونما وصارع واشتدّ عوده، ولم تتوفر له من (حرية التعبير) ما يكفي لمواكبة هذه المراحل المهمة من تشكّل البنية الاجتماعية. لم يؤدّ ذلك إلى إعاقة ظاهرة في عملية التكوّن السياسي والنهوض الاقتصادي، ولكنه أدى إلى تأخر البنية الاجتماعية عن اللحاق بالركبين السابقين. وهذا ما يفسر بوضوح الاحتقانات الثقافية إزاء قضايا كانت قائمة وملحّة منذ عقود ولم يتم خوضها سوى اليوم، والأزمات التيارية التي تبدو الآن وكأنها حديثة وطارئة رغم أنها عريقة عراقة التأسيس، والتباين الشديد في أغلب الرؤى الأخلاقية بين طبقات المجتمع وأطيافه.
ظروف معقدة ومتشابكة كانت تجعل التفكير في حلول مناسبة لمشكلة (حرية التعبير) في السعودية ضرباً من تضييع الوقت، ومناكفة المستحيل. وبالتالي ظلّت حرية التعبير مادة غائبة عن منهج المجتمع، فلم ينشأ عليها الفرد أسرياً، واجتماعياً، وثقافياً، فضلاً عن أن يجرؤ عليها سياسياً. كان لهذا الغياب القسري لحرية التعبير تأثير سلبي على جوانب مهمة من التسلسل الحضاري للمجتمع، لأن حرية التعبير ليست ترفاً فكرياً أو صرعة ديموقراطية فحسب، بل قاعدة أساسية لتشكيل الهوية الفردانية، ووسيلة محايدة لانتخاب الأفكار الأفضل، ومنهج تصاعدي لصقل الفكر النقديّ وبلورة مفهوم المصير المشترك. كل هذه النوتات المهمة من أغنية الحضارة تأخرت أو تقلّصت فائدتها بشكل كبير لأن الأداة الوحيدة التي تعزفها، حرية التعبير، لم تكن موجودة.
الآن، يغنيّ الجميع على الإنترنت وكأنهم يكتشفون حناجرهم لأول مرة. أفكار واستقراءات ومراجعات تجعل البليد الساذج يقلق لأنه يظنّ أن ثمة مجتمع على حافة الانهيار، وتجعل الحصيف العليم يبتسم وهو يرى بوضوح كيف يحنّك المجتمع وعيه، ويكتشف ذاته، ويهتبل فرصه، ويوازن بعضه، ويمرّن أسنانه على القضايا الوجودية، والمصائر الإنسانية، وأسئلة الهوية والحرية والأخلاق والمستقبل. صحيحٌ أن ساحات الإنترنت مليئة بالصخب والصراخ، ولكن لا يقوم بناءٌ عظيم إلا على بساط من الطرق والضجيج والفوضى المؤقتة. الإنترنت مليء أيضاً بالعادات الجدلية السيئة: بالاستفزاز والاستفزاز المضاد. بالتأليب والاستعداء والنميمة والأجندات الصوتية. كل الأمراض التي كانت كامنة في الذات الاجتماعية، أصبحت ظاهرة على الساحة الالكترونية. هذا لا يبعث على التشاؤم بقدر ما يبعث على التفاؤل. لأن المرض الظاهر أسهل علاجاً من الكامن، ولأن المجتمع لا يكتسب مناعته إلا بالتعرض لكل الأفكار الممكنة، والأجواء المحيطة، والقيم المختلفة.
الإنترنت ليس حلاً شاملاً لحرية التعبير، بل مجرد نافذة واسعة تخفف الكثير من احتقانات هذه الحرية الغائبة، وتؤجل الأزمات الموقوتة التي غالباً ما تتفاقم في غياب مساحات الحوار والجدل العادل. إنها بالتأكيد هدنة مؤقتة يمكن اغتنامها كتمهيد للعهد التي تصبح فيه الرقابة الرسمية من معروضات المتاحف، ويصبح فيه لكل خبر ما نسختان: نسخة ورقية مصممة على المزاج الرقابي، ونسخة الكترونية موجهة إلى القارئ الحر. ولعلنا نتصور أي النسختين ستكون أكثر تداولاً بغض النظر عن سؤال المصداقية الصعب.
الجزء الثاني: ماذا يقول الجيل الشاب على الإنترنت؟
أكثر الأصوات الاجتماعية حضوراً على الإنترنت هي أصوات الجيل الشاب بلا منافس. الاحصائيات غير المدققة تقول أن عددهم أصبح مليونياً، بمعدل أعمار حول الخامسة والعشرين، وبتوزيع متكافئ بين الفتيات والفتية. الشباب الذين هم أقل الفئات العمرية في السعودية تأثيراً على مستوى صناعة القرار وتوجيه الدفة الاجتماعية هم الأكثر انتقاداً لهذه القرارات وتمرداً على تلك الدفة ولكن عبر صفحات الانترنت. فئة الشباب هي المتحدث الوحيد باسم المجتمع في العالم الافتراضي، رغم أنها الفئة الأقل إسهاماً في صياغة السياسات العامة وتدبير الشؤون الاجتماعية. هكذا أصبح المنفعلون بالمسار الاجتماعي هم الفاعلون في المسار الإنترنتي. إنهم الطبقة التي تحيط بالكتلة الاجتماعية من الخارج، وتعكسها للذات وللآخر على حد سواء دون أن تتدخل كثيراً فيما يحدث في اللب. وهذا بالتأكيد يفسّر الكثير من حيثيات خطابهم على الإنترنت والزاوية التي ينظرون من خلالها لمجتمعهم والصورة التي ينقلونها عنه.
هذه الأصوات الشبابية، لحسن الحظ، متنوعة المشارب والثقافات والتوجهات. وحدات التعبير لديها متباينة بين الاستقلالية التامة أو الانتماء التياري، بين الامتعاض السلبي والتحليل النقدي، بين الاعتراض الصوتيّ والحراك العمليّ، بين العمل المؤسسي والجهود الفردية. تجربتهم مع الحوار الالكتروني سبقت بكثير المبادرة الرسمية للحوار الفكري، فأنضجتها هذه الأسبقية حتى لم يكد الحوار الفكري يؤثر فيهم، وأخّرتها عوامل أخرى مثل غموض الهويّات وتضارب الأجندات. أي دراسة منهجية حول تطور هذا الحوار على الإنترنت في العقد الأخير ستكشف حتماً الخط التصاعدي لمنهجيته وآثاره، رغم العوائق الذي أدت إلى تشتيته وإرهاقه في البدايات، وأحد أمثلتها الظاهرة بعض المنتديات التي أنشأت من قبل جهات رسمية ودولية لتمرير أجندات واضحة لجماعات خاصة، فاجتمعت في أصوات شبابية كثيرة لتكتشف في آخر المطاف أنهم كانوا وقوداً لمعركة آيديولوجية أو سياسية امتدّت إلى ميادين الإنترنت فحسب.
ولكن الحضور الشبابي على الإنترنت تجاوز هذه المتاهات المدبّرة، وشقّ طريقه في دأب الذي لا يملك خياراً آخر. تزايد الحضور الشبابي على الإنترنت هو ردة فعل طبيعية لضيق المساحة المخصصة لهم في الواقع الاجتماعي. والمقالة السابقة تطرقت إلى الانترنت بوصفه تعويضاً مؤقتاً عن حرية التعبير الغائبة في القنوات الرسمية يسهم في تخفيف الاحتقان ولكنه حتى الآن أضيق من أن يقدم حلولاً جذرية. إزاء ذلك كله، فإن الشابة أو الشاب الذي ضاق ذرعاً بصوته الذي لا يصل، وتأثيره الذي لا يُلحظ، ومطالبه التي لا تُلبّى، وطموحه الذي لا يُوظّف، وقدراته التي لا تُتبنّى، يرى في الإنترنت أرض الله الواسعة التي يهاجر إليها، ويبدأ فيه حياة افتراضية تساعده على تحمّل واقعه، وصياغة ذاته الاجتماعية بعيداً عن الحدود والرقباء والعوائق التي تواجهه كل يوم.
الآن، وقد ازدحمت المنتديات بأعضائها، والمدونات بروادها، والفيسبوك بزواره، والتوتير بمغرديه، فقد أصبح تتبع هذا الصوت الشبابي مهمة شاقة، ويتطلب جهوداً بحثيّة لم يتصدّ لها الباحثون المحليون بعد رغم ما تعدهم به من غنائم بحثية كبرى، فأفسحوا المجال لكتاب مقالات الرأي البسطاء أمثالي أن يطرحوا رأياً حول هذا المهرجان الشبابي تحت خيمة الإنترنت. وهو رأيٌ لم ينتج عن دراسة منهجية أو عينة بحث منتقاة، بل ملاحظة عابرة لأجواء الطرح الشبابي عبر الإنترنت كان مفادها أن هذا الطرح، رغم تنوع الأصوات، واختلاف التوجهات، وتزاحم الرؤى، وتباين الآراء، يتّحد في ثيمة جماعية لا يمكن إغفالها وهي (الإصلاح).
هذه النوتة المشتركة في وسط هذا الصخب الأوركسترالي المعبّر، والمحور المشترك الذي تطوف حوله أغلب طروحات الشباب السعودي على الإنترنت، هي أمرٌ مثير للاهتمام فعلاً. الصوت الاجتماعي الشاب في السعودية ليس متكتلاً بالكلية في تيار ما، ولا متمحوراً حول آيديولوجيا منفردة، ولا متعصباً لمنهج أو فكرة أو طريقة. إنه صوتٌ موزع بشكل متوازن على أطياف واسعة من الأفكار ومستوياتها، والأهداف وأبعادها. ورغم كل هذه الفسيفسائية المعبرة نلحظ بوضوح هذا الإجماع شبه التام حول الإصلاح وضرورته مع تباين الآراء بطبيعة الحال حول ماهيته وآليته وتطبيقاته وأولوياته ومجاله وحدوده، إلا أن جميع الشباب الذين يجدون نوافذ للتعبير عن رأيهم في الإنترنت يتفقون بإجماع شبه تام على شأن واحد: ثمة شيء يجب إصلاحه، وثمة تجاوزات يجب إيقافها، وثمة حالة سائدة يجب تغييرها.
التفسير السوسيولوجي المباشر لهذا الإجماع هو أن يرجع إلى وحدة المصير ومستوى النضج الحضاري، والتفسير السيكولوجي هو اشتراك هذه الأصوات في المرحلة العمرية التي تقع غالباً بين الاتكالية واليأس، والتفسير السياسي أن ثمة حالة عامة من الإحباط والشعور بوجود حافّة ما تقترب، والتفسير الاقتصادي هو اختلال ميزان العدالة المادية بين طبقات المجتمع. والتفسير الثقافي يقول أن الأغلبية تريد أن تصنع صوتها الخاص الذي يناسب المرحلة. والتفسير الديموغرافي يقول أن الأكثرية الشابة تطغى بتفوقها العددي على الأقلية الأكبر سناً والتي تقرر كل شيء.
تنوّع الأفكار التي يطرحها الصوت الشبابي على الإنترنت لا يدع مجالاً لنقدها على حدة، ولكن إجماع هذه الأفكار على ضرورة الإصلاح يستدعي التصنيف أولاً، والتحليل لاحقاً، لعلنا نفهم الأسباب التي أدّت إلى هذا الإجماع المثير للاهتمام.
الجزء الثالث: ثلاث ملحوظات حول الإصلاح
ثلاث ملحوظات جديرة بالاهتمام حول الإصلاح في الخطاب الشبابي على الإنترنت. الأولى، الإجماع على هذا الإصلاح. والثانية، تنوع المجالات التي يطالب بإصلاحها. والثالثة، أسلوب طرح هذه المطالبة.
المطالبة بالإصلاح أمرٌ معتاد. وهو من سمات الحراك الاجتماعي سواءً في المجتمعات القديمة أو الحديثة، المقموعة أو الحرة. وهي تحضر دائماً بغض النظر عن مدى إلحاح الحاجة للإصلاح أو جدوى المطالبة به. ولكن غير المعتاد هو الإجماع عليه بشكل غير مسبوق. ومجتمعنا السعودي لم يعدم من قبل مطالبات مختلفة بالإصلاح منذ تأسيسه أخذت كافة الأشكال الإيجابية والسلبية. حركة التنمية السريعة التي مرّ بها المجتمع خلال السنوات الثمانين الماضية أجابت على بعض أسئلة الإصلاح عملياً أو نظرياً، وأغفلت أخرى عمداً أو سهواً. وحسب نسبة الإجابة والإغفال المتفاوتة في كل مرحلة كان يسري في المجتمع شعور جماعيّ بالحماس والإيجابية في مراحل، وفي مراحل أخرى كان يسود شعورٌ بالإحباط واللاجدوى.
ولكن كل ما شهدناه في مجتمعنا من مطالبات بالإصلاح لم تأخذ من قبل هذه الصفة الجماعية، ولا هذا الصبغة الشبابية، ولا هذه الروح العملية. الإصلاحيون اليوم لم يعودوا (نخبة) تتركز عمودياً في أعلى المجتمع بل (شريحة) تمتد في أفقياً في عرضه. والمطالبون بالإصلاح تجاوزوا مرحلة التوعية (بضرورته) إلى مرحلة التجادل في (آليته). وهذا الجدل انتقل من أمسيات المناسبات الاجتماعية التي يطغى عليها تبادل التذمر إلى ساحات التفعيل العمليّ التي تسعى نحو إحداث الفرق. هذه الاختلافات بين سمة الإصلاح في الماضي والحاضر جديرة، لمن يعي دروس التاريخ وعلوم الاجتماع، أن تملأ قلبه تفاؤلاً ورضا بمكتسبات المرحلة وبداية التغيير.
بالنسبة للملحوظة الثانية فإن المطالبة بالإصلاح في الخطاب الشبابي لم تأخذ طابعاً موحداً أو تقتصر على مجال واحد. هذا مؤشر على أنها مطالبة انبثقت من رؤية نقدية ناضجة لدى هذا الجيل، وليست مطالبة مستوردة من أدبيات ثورية أو انهزامات معنوية. ولعل هذا يميزها عن مطالبات الأجيال الثلاث التي سبقته، والتي كانت مطالبات نخبوية من حيث الاستهلال، وسياسية من حيث المجال، وذات رؤية مستوردة في الغالب، سواءً كان استيراداً جغرافياً من مجتمعات أخرى، أو تاريخياً من حقب زمنية بائدة. أحدها حاول استيراد النظم السياسية الشيوعية أو القومية ركوباً للموجة وانسياقاً وراء الشعبية الجارفة التي كانت هذه النظم تكتسح بها العالم آنذاك. وإنصافاً يجب أن نذكر أنه لم يكن من السهل على الإطلاق تجنّب هذه الموجة وعدم الانجراف في سياقاتها. فنحن نحاسبها اليوم بعد ظهور نتائجها الكارثية في الدول التي تبنّتها، ولكنها آنذاك كانت أصعب على التنبؤ وأعصى على التحليل والمقارنة. الجيل الآخر حاول استيراد الأعراف الاجتماعية الغربية كما هي ليفرضها على المجتمع، دون أن يضع اعتبار أن هذه الأعراف بدت ناجحة ومبهرة لأنها نمت بشكل طبيعي وحرّ في بيئتها الثقافية الأم، وأن استيرادها وزرعها في بيئة ثقافية أخرى لن يسفر عن نفس النتائج. ومرة أخرى يستدعي الإنصاف أن نذكر أن الوصول إلى هذه الحقيقة كان يتطلب مقارنة حضارية تستغرق سنوات من المراقبة والتحليل، وهو ما لم يكن حاضراً في الوعي المعرفي لذلك الجيل. وقد ظهرت نتائجها السلبية فعلاً في مجتمعات أخرى على شكل انسحابات قهرية نحو الهوية والجذور، وانشقاق اجتماعي واسع. جيلٌ آخر استورد حقبة زمنية من التاريخ وحاول نشر تطبيقها في حراك معاكس لسيرورة المجتمع الحضارية، وقد استخدم درجة حرارة عاطفية عالية لإذابة هذه العقبات الزمنية، ولكنها النسيج الذي نشأ عن ذلك لم يكن قوياً بما يكفي فتمزق إلى تيارات صغيرة تائهة. وإنصاف هذا الجيل الصحويّ يكمن في أنه نشأ أصلاً كردة فعل على التجارب التي سبقته، وكاستثمارٍ سياسي/ثقافي لخيبات الخصوم، وقد استهدف أول دفعة من ناشئة ما بعد الطفرة الذين يفتشون لأول مرة عن موقف يتكئون عليه معنوياً. وبالتالي غاب الهدف في متاهة الأجندات المتعاكسة والمعارك الجانبية.
هذه الأجيال الثلاثة، ومطالباتها الإصلاحية، سادت منذ الستينات وحتى التسعينات الميلادية، وما زالت آثار تجاربها الإصلاحية حاضرة بشكل أو بآخر على شكل مواقف سياسية صعبة التغيير، أو مواقف اجتماعية صعبة النسيان، أو إحباطات نخبوية صعبة العلاج، أو انشقاقات تيارية صعبة الرتق. ولكن كل هذه الصعوبات شكّلت منحنى تعلّم (Learning curve) مفيد جداً للخطاب الشبابي الحالي في المطالبة بالإصلاح. ومن الطبيعي أن بعض الأخطاء تتكرر بشكل أو بآخر، ولكن بنسب ضئيلة لا تكاد تذكر أحياناً إزاء الصفة السائدة التي تغلب في خطابهم، والأهم ممن ذلك أن استيعاب الخطأ والاعتبار من دروسه صار يتمّ بسرعة أكبر، وهذا ما يجعل الجيل الرابع من الإصلاح يحمل طابعاً واعداً بالاستمرارية التي لم تتسنّ للأجيال الثلاثة السابقة.
بالنسبة للملحوظة الثالثة، فإن أساليب المطالبة بالإصلاح لدى الجيل الشاب أخذت منهجاً متنوعاً وعملياً وبراغماتياً إلى حد كبير. الجيل الشاب يبحث عما يحقق النتائج، ولا يحبذ المكث طويلاً على عتبات النشوء، والدوران طويلاً في متاهة الجدل. ومثلما أن رؤيته لمجالات الإصلاح وآلياته وأولوياته مختلفة باختلاف أطياف هذه الشريحة، فإن أساليب الطرح تنوّعت كذلك. ومن المهم أن ننظر لهذه المفارقة كعلامة تطور كبير في الحراك الاجتماعي، ألا وهي السعي الجماعيّ نحو هدف مشترك بطرائق مختلفة ومتناقضة أحياناً. ولعل من أسباب إخفاقات المطالب الإصلاحية للأجيال التي سبقتهم هو توهمها بضرورة الاتفاق الأوليّ حول كل التفاصيل حد التطابق. ولهذا أخذ حراكهم الاجتماعي أشكالاً هيكلية (تنظيم، حركة، تيار، ...الخ). غاب عن الأجيال السابقة أن الالتفاف حول هدف مشترك لا يعني بالضرورة الاتفاق على تفاصيله بل يكفي الاتفاق على صفته المجردة. وتوحيد الجهود لا يعني صهر الفوارق الفردية لتشكيل كتلة متجانسة، بل تشجيع التميز والاختلاف لتخصيب القضايا بأفكار متنوعة. لقد أُخذ الأولون بالتجانس حد التطابق فأرهقهم هذا الوهم الصعب، واختار الآخرون التكامل، فوفروا طاقتهم للسعي الفعلي نحو الهدف بدلاً من إهدارها في تنظيم مبدئي للصفوف لا يتماسك إلا لفترة مؤقتة.
الجزء الرابع: عندما يزأرون في تويتر
إذا كنت من أعداء الإصلاح فكن حذراً من الحضور الشبابي السعودي على الإنترنت. تصفّح المدونات لن يكون فعلاً مناسباً لمزاجك بالتأكيد، المنتديات ذات الصبغة الاجتماعية والفكرية هي وصفة متكاملة لاستفزازك، وتعليقات القراء على مقالات الصحف ستفسد عليك بقية الصحيفة. كن حذراً حتى وأنت تقرأ بريدك الالكتروني، فأنت لا تعلم إذا ما كان الإيميل القادم يحمل رسالة شخصية أم عريضة إصلاحية. لن تخلو صفحتك على الفيسبوك من دعوة للمشاركة في مشروع إصلاحي ذي شعار براق ومبتكر. وإذا جرؤت على الاشتراك في تويتر، فلا تتوقع أن ستستمتع بطبقات مختلفة من التغريد، لأن جملة الشباب السعودي على تويتر في حقيقة الأمر: يزأرون!
أعداء الإصلاح، سواءً كان عداؤهم له حفاظاً على المكتسبات الشخصية، أو تخوفاً من التغيير الجارف، أو توجساً من الأيدي الخفية، هم في جميع الحالات عاجزون عن تفادي الموجة الشبابية للمطالبة بالإصلاح فضلاً عن إيقافها. هذا لأن من يقف وراء هذه الموجة ليس أقلية صغيرة ذات توجهات نادرة، ولا جناحاً تيارياً ذي طموحات مؤقتة. إنهم نصف التعداد السكاني بالحساب الإحصائي المباشر. والذي يجعل مطالباتهم الإصلاحية هذه المرة عصية على الزوال والتقهقر هو أنها لم تتمحور حول فكرة يمكن تفنيدها، ولم تنقدح عن حاجة يمكن سدها. بل إنها تكريس اجتماعي لمرحلة حضارية لا يمكن دفعها للوراء. المجتمع، في خطاب شبابه، لا يطالب بالإصلاح لأنه تأثّر بشخص أو تألم من موقف، بل - ببساطة - لأنه نما (كمجتمع، وليس كأفراد) إلى الحد الذي صارت فيه المطالبة بالإصلاح لغته المباشرة وخبزه اليومي.
ولأنها مطالبة إصلاحية تقف على ملايين الأقدام، وتتطلع إلى كافة الاتجاهات، جاءت أساليبها متنوعة كما هو خليقٌ بها. فلا هي مختزلة في مذكرة كتبتها نخبة، ولا محدودة في مبادرة أطلقتها جهة. كل هذه الأشكال الصوتية والحركية للمطالبة للإصلاح هو آخر ما يفكره فيه الجيل الشاب اليوم، ولا يجد في جعبته صبراً كافياً لها، ولا يرجو خيراً من تكرارها مرة أخرى. هذا الجيل الشاب يطالب بالإصلاح بنفس الرتم الذي يقضي به يومه وليلته، وليس على شكل أحداث مركزية أو ظروف عابرة. وبالتالي، فإن أشكال مطالبته أخذت طابعاً متنوعاً بتنوع الممارسات اليومية لشباب المجتمع وشاباته، على اختلاف توجهاتهم ورؤاهم.
الفيسبوك وتوتير، كونهما أشهر المواقع الاجتماعية التفاعلية في العالم، يمنحان انعكاساً بلورياً لتنوع أساليب المطالبة بالإصلاح في السعودية. وهي متنوعة إلى حد أن مطلقيها أنفسهم قد لا يستشعرون أنهم أطلقوا مطالبة إصلاحية في خضم تعبيرهم العفويّ عن مجريات حياتهم. لقد أصبح الجيل الشاب يتكلم وكأن ضرورة التغيير أصبحت يقيناً راسخاً في وعيه ولاوعيه معاً. التململ من الثبات والتوق للتحول أصبح ضميراً كامناً في ثنايا القول والفعل، في رجائه وقنوطه، ونشاطه وخموله. ضرورة التغيير هي اليقين المشترك في خطاب الشاب/الشابة السعوديين، سواءً كان ذلك على مستوى التعليق العابر على الظروف اليومية، أو الاشتغال العميق على مشروع نقديّ.
إن محاولة فرز الخطاب الشبابي على الإنترنت بناء على مضمونه الإصلاحي قد تمنحنا تصوراً عن مدى تنوع الأساليب. سنجد، مثلاً، أسلوب المطالبة بالإصلاح عن طريق لفت الأنظار إلى ما يستدعيه، وتوجيه النقد اللاذع له، وجمع الشواهد الزمنية والمكانية التي تؤكد (إلى حد الاستفاضة أحياناً) الحاجة الملحة لإصلاح هذا الشأن بعينه. الصورة التي تتناقلها صفحات الفيسبوك لحفرة عميقة في شارع عام، والتدوينة التي تنتقد قصوراً تربوياً في منهج دراسي، والنكتة التي تتناقلها الشاشات عن تصريح رديء لمسؤول أهوج، كل هذه نماذج لهذا الأسلوب الشائع في المطالبة بالإصلاح عن طريق وضع دائرة حمراء كبيرة حول الشأن المعنيّ. سمة هذا الطرح عادةً أنه وصفيّ، يبرز المشكلة للعيان ولا يتجاوز هذا الدور نحو اقتراح الحلول أو وصف العلاج. وفي الغالب أن بعض المشاكل يفترض أن حلولها بدهيّة إلى حد يجعل من طرحها تكراراً مملاً. هذا الأسلوب يتناول قضايا متفاوتة الأهمية والإلحاح، قد لا تتجاوز سلبيات بسيطة لعادة اجتماعية معينة، وقد تصل إلى فضح فساد عريق في جهة حكومية كبرى.
سنجد أيضاً أسلوباً آخر يقوم، مثل سابقه، على لفت الأنظار إلى قصور ما ولكن ضمن رؤية إصلاحية معينة على مستويات متفاوتة من التفصيل. هناك من يشتكي من تدهور خدمات الخطوط السعودية، ثم يردف شكواه بأن الحل يكمن في فتح الأجواء الداخلية للمنافسة الأجنبية، أو من يلمح لسوء أحوال المناطق السياحية ثم يرى تخصيصها بالكامل. هذا الأسلوب يعكس محاولة أكثر تقدمية في المطالبة بالإصلاح باشتماله على رغبة شخصية بالإسهام فيه. وسواءً جاءت هذه المطالبة على شكل ورقة عمل مكتملة، أو مجرد ملاحظة عابرة على (تويتر) فإنها في الحالتين تحمل مشكلة وحلاً في آن واحد، بغض النظر عن جدوى الحل ومنطقيته.
سنجد أيضاً أسلوب المطالبة بمشروع إصلاحي عام غير نابع من مشكلة محددة. وهذا الأسلوب يختلف عن السابقيْن بتغييب عنصر رئيس وهو (المشكلة/القصور)، ووضع كامل الثقل على الطرف الوحيد المتبقي في المعادلة، وهو فعل التغيير نفسه. المناداة بإنشاء مراكز بحثية لتطوير الطاقة البديلة والحفاظ على الثروات الطبيعية يمكن أن تكون مثالاً لهذه المطالبة بالإصلاح، مثلما أن حث مجموعة من طلاب المدارس الابتدائية على المشاركة في تنظيف شواطئ المدينة يصلح لئن يكون مثالاً أيضاً. فحتى الآن لم يصبح توفر الطاقة مشكلة، ولم تنفد الثروات الطبيعية، ولم تعدم الأمانات قوى بشرية لتنظيف الشواطئ، وليس بالضرورة أن الناشئة بحاجة لهذا الدرس العمليّ حتى يعوا أهمية النظافة، ولكن استحداث هذه المراكز وتهذيب أولئك الناشئة هو إصلاحٌ (برغم عدم حضور المشكلة) من حيث أنه كسرٌ لحالة الخمول، ودفعٌ لعجلة التغيير. هذا الأسلوب يعكس رغبة في التطوير ذات طابع تفاؤلي، وينشد الرغبة في تحسين الوضع الحالي لشأن ما بغض النظر عما إذا كان مستواه يستدعي التطوير أو لا.
إننا نجد في تبني الشاب أو الشابة موقفاً سلبيّاً نابعاً من واقع الحياة اليومية أسلوباً غير مباشر من أساليب المطالبة بالإصلاح. فالبوح الذي يطلقه عبر نافذته الإنترنتية الواسعة ليس مجرد تنفيس عابر عن مشاعره الساخطة، بل اعتراض ما على ما يؤذيه ويثير ضيقه في مجتمعه. فالفتاة التي تتذمر من محدودية خياراتها الاجتماعية، والشاب الذي يكره ازدحام شوارع مدينته، كلاهما يخبئ في ثنايا بوحه مطالبة بإصلاح ذلك الذي حدّ من خيارات المرأة، وزاد من ازدحام الشوارع. حتى وهما لا ينطلقان من نيّة نقدية واضحة نجد في تعبيرهما العفويّ نقداً ضمنياً يمكن بسهولة أن نضعه في سياقات المطالبة بالإصلاح. ففي نهاية المطاف، ليس بوسعنا أن نفترض أن الجميع يحمل نفس مستوى الوعي الإصلاحي، والرؤية النقدية، ورغبة الإسهام، ولكنهم حتماً يتفقون على أن ثمة شيء ما.. يجب إصلاحه!
-----------------------------
الوطن السعودية
الآن يفصح الشاب عن ذاته بكل أريحية عندما يخاطب شاشة كومبيوتره فيكتشف أنه خاطب العالم، ويضغط أزرار هاتفه فيكتشف أنه جاب الزمان. العينة هائلة الحجم بقدر مستخدمي الإنترنت، والأدوات التحليلية سهلة الاستخدام بقدر ما يسرتها التكنولوجيا، والمجتمع السعوديّ بالذات متلهف لأي دراسات جادة تخبره إلى أين هو متجه في مرحلة التسارع الحديث التي بلغها. لم يسبق للمجتمعات أن كانت قراءتها سهلة إلى هذا الحد، ولم يسبق لمجتمعنا السعوديّ بالذات أن واجه نفسه، وخاطب ضدّه، مثلما يفعل اليوم على ساحات المنتديات، وصفحات الفيسبوك، وتغريدات التويتر. الأطياف تتداخل مع بعضها بشكل يوميّ ومكثف. الأفكار تتصادم، والتحفظات تتساقط، والقناعات تتغير. المسلمات الكبرى تجد نفسها قد تحولت إلى نظريات قابلة لإعادة البحث والمداولة، والأبراج العالية تهتزّ أمام حرية التعبير التي تجتاحها بشكل (جماعيّ) جامح بعد أن كانت تطرقها بشكل (جماعات) خجولة، والسلطات الثقافية تتمحور حول (الفكرة) وتنفضّ من حول (الشخص) في هجرة إيجابية نحو مجتمع (ناقد) وليس (منقاد).
السرعة التي تلقّف بها المجتمع السعوديّ تكنولوجيا التواصل الاجتماعي تعكس حاجته الماسّة إلى أدوات تعبير حرة، ومساحات تواصل مفتوحة، ذلك أن المجتمع في سنواته الأخيرة كاد يختنق بصوته غير المسموع، ويغصّ باحتقاناته الثقافية المتزايدة، حتى ليكاد يندفع في أي مغامرة ليس له حظ منها، ولا قناعة بها، ولا رغبة فيها، سوى إيصال الصوت، وإثبات الذات، وتسجيل الحضور، تحت أي راية وضمن أي تيار. واليوم جاء الإنترنت ليمنحه صوته الخاص، ومنبره الحرّ، وورشته الصغيرة التي يختبر فيها قضاياه، ويجرّب فيها أفكاره، ويختار فيها انحيازاته، ويعدّل فيها ثقافته، ويخرج إلى مجتمعه (فرداً) بعد أن كان (رقماً).
هذا يعني أن واحدة من أعوص مشكلات المجتمع السعوديّ نزل علينا حلّها من السماء من حيث لم نحتسب. خلال ثمانين سنة، توحّد الوطن وتشكّل ونما وصارع واشتدّ عوده، ولم تتوفر له من (حرية التعبير) ما يكفي لمواكبة هذه المراحل المهمة من تشكّل البنية الاجتماعية. لم يؤدّ ذلك إلى إعاقة ظاهرة في عملية التكوّن السياسي والنهوض الاقتصادي، ولكنه أدى إلى تأخر البنية الاجتماعية عن اللحاق بالركبين السابقين. وهذا ما يفسر بوضوح الاحتقانات الثقافية إزاء قضايا كانت قائمة وملحّة منذ عقود ولم يتم خوضها سوى اليوم، والأزمات التيارية التي تبدو الآن وكأنها حديثة وطارئة رغم أنها عريقة عراقة التأسيس، والتباين الشديد في أغلب الرؤى الأخلاقية بين طبقات المجتمع وأطيافه.
ظروف معقدة ومتشابكة كانت تجعل التفكير في حلول مناسبة لمشكلة (حرية التعبير) في السعودية ضرباً من تضييع الوقت، ومناكفة المستحيل. وبالتالي ظلّت حرية التعبير مادة غائبة عن منهج المجتمع، فلم ينشأ عليها الفرد أسرياً، واجتماعياً، وثقافياً، فضلاً عن أن يجرؤ عليها سياسياً. كان لهذا الغياب القسري لحرية التعبير تأثير سلبي على جوانب مهمة من التسلسل الحضاري للمجتمع، لأن حرية التعبير ليست ترفاً فكرياً أو صرعة ديموقراطية فحسب، بل قاعدة أساسية لتشكيل الهوية الفردانية، ووسيلة محايدة لانتخاب الأفكار الأفضل، ومنهج تصاعدي لصقل الفكر النقديّ وبلورة مفهوم المصير المشترك. كل هذه النوتات المهمة من أغنية الحضارة تأخرت أو تقلّصت فائدتها بشكل كبير لأن الأداة الوحيدة التي تعزفها، حرية التعبير، لم تكن موجودة.
الآن، يغنيّ الجميع على الإنترنت وكأنهم يكتشفون حناجرهم لأول مرة. أفكار واستقراءات ومراجعات تجعل البليد الساذج يقلق لأنه يظنّ أن ثمة مجتمع على حافة الانهيار، وتجعل الحصيف العليم يبتسم وهو يرى بوضوح كيف يحنّك المجتمع وعيه، ويكتشف ذاته، ويهتبل فرصه، ويوازن بعضه، ويمرّن أسنانه على القضايا الوجودية، والمصائر الإنسانية، وأسئلة الهوية والحرية والأخلاق والمستقبل. صحيحٌ أن ساحات الإنترنت مليئة بالصخب والصراخ، ولكن لا يقوم بناءٌ عظيم إلا على بساط من الطرق والضجيج والفوضى المؤقتة. الإنترنت مليء أيضاً بالعادات الجدلية السيئة: بالاستفزاز والاستفزاز المضاد. بالتأليب والاستعداء والنميمة والأجندات الصوتية. كل الأمراض التي كانت كامنة في الذات الاجتماعية، أصبحت ظاهرة على الساحة الالكترونية. هذا لا يبعث على التشاؤم بقدر ما يبعث على التفاؤل. لأن المرض الظاهر أسهل علاجاً من الكامن، ولأن المجتمع لا يكتسب مناعته إلا بالتعرض لكل الأفكار الممكنة، والأجواء المحيطة، والقيم المختلفة.
الإنترنت ليس حلاً شاملاً لحرية التعبير، بل مجرد نافذة واسعة تخفف الكثير من احتقانات هذه الحرية الغائبة، وتؤجل الأزمات الموقوتة التي غالباً ما تتفاقم في غياب مساحات الحوار والجدل العادل. إنها بالتأكيد هدنة مؤقتة يمكن اغتنامها كتمهيد للعهد التي تصبح فيه الرقابة الرسمية من معروضات المتاحف، ويصبح فيه لكل خبر ما نسختان: نسخة ورقية مصممة على المزاج الرقابي، ونسخة الكترونية موجهة إلى القارئ الحر. ولعلنا نتصور أي النسختين ستكون أكثر تداولاً بغض النظر عن سؤال المصداقية الصعب.
الجزء الثاني: ماذا يقول الجيل الشاب على الإنترنت؟
أكثر الأصوات الاجتماعية حضوراً على الإنترنت هي أصوات الجيل الشاب بلا منافس. الاحصائيات غير المدققة تقول أن عددهم أصبح مليونياً، بمعدل أعمار حول الخامسة والعشرين، وبتوزيع متكافئ بين الفتيات والفتية. الشباب الذين هم أقل الفئات العمرية في السعودية تأثيراً على مستوى صناعة القرار وتوجيه الدفة الاجتماعية هم الأكثر انتقاداً لهذه القرارات وتمرداً على تلك الدفة ولكن عبر صفحات الانترنت. فئة الشباب هي المتحدث الوحيد باسم المجتمع في العالم الافتراضي، رغم أنها الفئة الأقل إسهاماً في صياغة السياسات العامة وتدبير الشؤون الاجتماعية. هكذا أصبح المنفعلون بالمسار الاجتماعي هم الفاعلون في المسار الإنترنتي. إنهم الطبقة التي تحيط بالكتلة الاجتماعية من الخارج، وتعكسها للذات وللآخر على حد سواء دون أن تتدخل كثيراً فيما يحدث في اللب. وهذا بالتأكيد يفسّر الكثير من حيثيات خطابهم على الإنترنت والزاوية التي ينظرون من خلالها لمجتمعهم والصورة التي ينقلونها عنه.
هذه الأصوات الشبابية، لحسن الحظ، متنوعة المشارب والثقافات والتوجهات. وحدات التعبير لديها متباينة بين الاستقلالية التامة أو الانتماء التياري، بين الامتعاض السلبي والتحليل النقدي، بين الاعتراض الصوتيّ والحراك العمليّ، بين العمل المؤسسي والجهود الفردية. تجربتهم مع الحوار الالكتروني سبقت بكثير المبادرة الرسمية للحوار الفكري، فأنضجتها هذه الأسبقية حتى لم يكد الحوار الفكري يؤثر فيهم، وأخّرتها عوامل أخرى مثل غموض الهويّات وتضارب الأجندات. أي دراسة منهجية حول تطور هذا الحوار على الإنترنت في العقد الأخير ستكشف حتماً الخط التصاعدي لمنهجيته وآثاره، رغم العوائق الذي أدت إلى تشتيته وإرهاقه في البدايات، وأحد أمثلتها الظاهرة بعض المنتديات التي أنشأت من قبل جهات رسمية ودولية لتمرير أجندات واضحة لجماعات خاصة، فاجتمعت في أصوات شبابية كثيرة لتكتشف في آخر المطاف أنهم كانوا وقوداً لمعركة آيديولوجية أو سياسية امتدّت إلى ميادين الإنترنت فحسب.
ولكن الحضور الشبابي على الإنترنت تجاوز هذه المتاهات المدبّرة، وشقّ طريقه في دأب الذي لا يملك خياراً آخر. تزايد الحضور الشبابي على الإنترنت هو ردة فعل طبيعية لضيق المساحة المخصصة لهم في الواقع الاجتماعي. والمقالة السابقة تطرقت إلى الانترنت بوصفه تعويضاً مؤقتاً عن حرية التعبير الغائبة في القنوات الرسمية يسهم في تخفيف الاحتقان ولكنه حتى الآن أضيق من أن يقدم حلولاً جذرية. إزاء ذلك كله، فإن الشابة أو الشاب الذي ضاق ذرعاً بصوته الذي لا يصل، وتأثيره الذي لا يُلحظ، ومطالبه التي لا تُلبّى، وطموحه الذي لا يُوظّف، وقدراته التي لا تُتبنّى، يرى في الإنترنت أرض الله الواسعة التي يهاجر إليها، ويبدأ فيه حياة افتراضية تساعده على تحمّل واقعه، وصياغة ذاته الاجتماعية بعيداً عن الحدود والرقباء والعوائق التي تواجهه كل يوم.
الآن، وقد ازدحمت المنتديات بأعضائها، والمدونات بروادها، والفيسبوك بزواره، والتوتير بمغرديه، فقد أصبح تتبع هذا الصوت الشبابي مهمة شاقة، ويتطلب جهوداً بحثيّة لم يتصدّ لها الباحثون المحليون بعد رغم ما تعدهم به من غنائم بحثية كبرى، فأفسحوا المجال لكتاب مقالات الرأي البسطاء أمثالي أن يطرحوا رأياً حول هذا المهرجان الشبابي تحت خيمة الإنترنت. وهو رأيٌ لم ينتج عن دراسة منهجية أو عينة بحث منتقاة، بل ملاحظة عابرة لأجواء الطرح الشبابي عبر الإنترنت كان مفادها أن هذا الطرح، رغم تنوع الأصوات، واختلاف التوجهات، وتزاحم الرؤى، وتباين الآراء، يتّحد في ثيمة جماعية لا يمكن إغفالها وهي (الإصلاح).
هذه النوتة المشتركة في وسط هذا الصخب الأوركسترالي المعبّر، والمحور المشترك الذي تطوف حوله أغلب طروحات الشباب السعودي على الإنترنت، هي أمرٌ مثير للاهتمام فعلاً. الصوت الاجتماعي الشاب في السعودية ليس متكتلاً بالكلية في تيار ما، ولا متمحوراً حول آيديولوجيا منفردة، ولا متعصباً لمنهج أو فكرة أو طريقة. إنه صوتٌ موزع بشكل متوازن على أطياف واسعة من الأفكار ومستوياتها، والأهداف وأبعادها. ورغم كل هذه الفسيفسائية المعبرة نلحظ بوضوح هذا الإجماع شبه التام حول الإصلاح وضرورته مع تباين الآراء بطبيعة الحال حول ماهيته وآليته وتطبيقاته وأولوياته ومجاله وحدوده، إلا أن جميع الشباب الذين يجدون نوافذ للتعبير عن رأيهم في الإنترنت يتفقون بإجماع شبه تام على شأن واحد: ثمة شيء يجب إصلاحه، وثمة تجاوزات يجب إيقافها، وثمة حالة سائدة يجب تغييرها.
التفسير السوسيولوجي المباشر لهذا الإجماع هو أن يرجع إلى وحدة المصير ومستوى النضج الحضاري، والتفسير السيكولوجي هو اشتراك هذه الأصوات في المرحلة العمرية التي تقع غالباً بين الاتكالية واليأس، والتفسير السياسي أن ثمة حالة عامة من الإحباط والشعور بوجود حافّة ما تقترب، والتفسير الاقتصادي هو اختلال ميزان العدالة المادية بين طبقات المجتمع. والتفسير الثقافي يقول أن الأغلبية تريد أن تصنع صوتها الخاص الذي يناسب المرحلة. والتفسير الديموغرافي يقول أن الأكثرية الشابة تطغى بتفوقها العددي على الأقلية الأكبر سناً والتي تقرر كل شيء.
تنوّع الأفكار التي يطرحها الصوت الشبابي على الإنترنت لا يدع مجالاً لنقدها على حدة، ولكن إجماع هذه الأفكار على ضرورة الإصلاح يستدعي التصنيف أولاً، والتحليل لاحقاً، لعلنا نفهم الأسباب التي أدّت إلى هذا الإجماع المثير للاهتمام.
الجزء الثالث: ثلاث ملحوظات حول الإصلاح
ثلاث ملحوظات جديرة بالاهتمام حول الإصلاح في الخطاب الشبابي على الإنترنت. الأولى، الإجماع على هذا الإصلاح. والثانية، تنوع المجالات التي يطالب بإصلاحها. والثالثة، أسلوب طرح هذه المطالبة.
المطالبة بالإصلاح أمرٌ معتاد. وهو من سمات الحراك الاجتماعي سواءً في المجتمعات القديمة أو الحديثة، المقموعة أو الحرة. وهي تحضر دائماً بغض النظر عن مدى إلحاح الحاجة للإصلاح أو جدوى المطالبة به. ولكن غير المعتاد هو الإجماع عليه بشكل غير مسبوق. ومجتمعنا السعودي لم يعدم من قبل مطالبات مختلفة بالإصلاح منذ تأسيسه أخذت كافة الأشكال الإيجابية والسلبية. حركة التنمية السريعة التي مرّ بها المجتمع خلال السنوات الثمانين الماضية أجابت على بعض أسئلة الإصلاح عملياً أو نظرياً، وأغفلت أخرى عمداً أو سهواً. وحسب نسبة الإجابة والإغفال المتفاوتة في كل مرحلة كان يسري في المجتمع شعور جماعيّ بالحماس والإيجابية في مراحل، وفي مراحل أخرى كان يسود شعورٌ بالإحباط واللاجدوى.
ولكن كل ما شهدناه في مجتمعنا من مطالبات بالإصلاح لم تأخذ من قبل هذه الصفة الجماعية، ولا هذا الصبغة الشبابية، ولا هذه الروح العملية. الإصلاحيون اليوم لم يعودوا (نخبة) تتركز عمودياً في أعلى المجتمع بل (شريحة) تمتد في أفقياً في عرضه. والمطالبون بالإصلاح تجاوزوا مرحلة التوعية (بضرورته) إلى مرحلة التجادل في (آليته). وهذا الجدل انتقل من أمسيات المناسبات الاجتماعية التي يطغى عليها تبادل التذمر إلى ساحات التفعيل العمليّ التي تسعى نحو إحداث الفرق. هذه الاختلافات بين سمة الإصلاح في الماضي والحاضر جديرة، لمن يعي دروس التاريخ وعلوم الاجتماع، أن تملأ قلبه تفاؤلاً ورضا بمكتسبات المرحلة وبداية التغيير.
بالنسبة للملحوظة الثانية فإن المطالبة بالإصلاح في الخطاب الشبابي لم تأخذ طابعاً موحداً أو تقتصر على مجال واحد. هذا مؤشر على أنها مطالبة انبثقت من رؤية نقدية ناضجة لدى هذا الجيل، وليست مطالبة مستوردة من أدبيات ثورية أو انهزامات معنوية. ولعل هذا يميزها عن مطالبات الأجيال الثلاث التي سبقته، والتي كانت مطالبات نخبوية من حيث الاستهلال، وسياسية من حيث المجال، وذات رؤية مستوردة في الغالب، سواءً كان استيراداً جغرافياً من مجتمعات أخرى، أو تاريخياً من حقب زمنية بائدة. أحدها حاول استيراد النظم السياسية الشيوعية أو القومية ركوباً للموجة وانسياقاً وراء الشعبية الجارفة التي كانت هذه النظم تكتسح بها العالم آنذاك. وإنصافاً يجب أن نذكر أنه لم يكن من السهل على الإطلاق تجنّب هذه الموجة وعدم الانجراف في سياقاتها. فنحن نحاسبها اليوم بعد ظهور نتائجها الكارثية في الدول التي تبنّتها، ولكنها آنذاك كانت أصعب على التنبؤ وأعصى على التحليل والمقارنة. الجيل الآخر حاول استيراد الأعراف الاجتماعية الغربية كما هي ليفرضها على المجتمع، دون أن يضع اعتبار أن هذه الأعراف بدت ناجحة ومبهرة لأنها نمت بشكل طبيعي وحرّ في بيئتها الثقافية الأم، وأن استيرادها وزرعها في بيئة ثقافية أخرى لن يسفر عن نفس النتائج. ومرة أخرى يستدعي الإنصاف أن نذكر أن الوصول إلى هذه الحقيقة كان يتطلب مقارنة حضارية تستغرق سنوات من المراقبة والتحليل، وهو ما لم يكن حاضراً في الوعي المعرفي لذلك الجيل. وقد ظهرت نتائجها السلبية فعلاً في مجتمعات أخرى على شكل انسحابات قهرية نحو الهوية والجذور، وانشقاق اجتماعي واسع. جيلٌ آخر استورد حقبة زمنية من التاريخ وحاول نشر تطبيقها في حراك معاكس لسيرورة المجتمع الحضارية، وقد استخدم درجة حرارة عاطفية عالية لإذابة هذه العقبات الزمنية، ولكنها النسيج الذي نشأ عن ذلك لم يكن قوياً بما يكفي فتمزق إلى تيارات صغيرة تائهة. وإنصاف هذا الجيل الصحويّ يكمن في أنه نشأ أصلاً كردة فعل على التجارب التي سبقته، وكاستثمارٍ سياسي/ثقافي لخيبات الخصوم، وقد استهدف أول دفعة من ناشئة ما بعد الطفرة الذين يفتشون لأول مرة عن موقف يتكئون عليه معنوياً. وبالتالي غاب الهدف في متاهة الأجندات المتعاكسة والمعارك الجانبية.
هذه الأجيال الثلاثة، ومطالباتها الإصلاحية، سادت منذ الستينات وحتى التسعينات الميلادية، وما زالت آثار تجاربها الإصلاحية حاضرة بشكل أو بآخر على شكل مواقف سياسية صعبة التغيير، أو مواقف اجتماعية صعبة النسيان، أو إحباطات نخبوية صعبة العلاج، أو انشقاقات تيارية صعبة الرتق. ولكن كل هذه الصعوبات شكّلت منحنى تعلّم (Learning curve) مفيد جداً للخطاب الشبابي الحالي في المطالبة بالإصلاح. ومن الطبيعي أن بعض الأخطاء تتكرر بشكل أو بآخر، ولكن بنسب ضئيلة لا تكاد تذكر أحياناً إزاء الصفة السائدة التي تغلب في خطابهم، والأهم ممن ذلك أن استيعاب الخطأ والاعتبار من دروسه صار يتمّ بسرعة أكبر، وهذا ما يجعل الجيل الرابع من الإصلاح يحمل طابعاً واعداً بالاستمرارية التي لم تتسنّ للأجيال الثلاثة السابقة.
بالنسبة للملحوظة الثالثة، فإن أساليب المطالبة بالإصلاح لدى الجيل الشاب أخذت منهجاً متنوعاً وعملياً وبراغماتياً إلى حد كبير. الجيل الشاب يبحث عما يحقق النتائج، ولا يحبذ المكث طويلاً على عتبات النشوء، والدوران طويلاً في متاهة الجدل. ومثلما أن رؤيته لمجالات الإصلاح وآلياته وأولوياته مختلفة باختلاف أطياف هذه الشريحة، فإن أساليب الطرح تنوّعت كذلك. ومن المهم أن ننظر لهذه المفارقة كعلامة تطور كبير في الحراك الاجتماعي، ألا وهي السعي الجماعيّ نحو هدف مشترك بطرائق مختلفة ومتناقضة أحياناً. ولعل من أسباب إخفاقات المطالب الإصلاحية للأجيال التي سبقتهم هو توهمها بضرورة الاتفاق الأوليّ حول كل التفاصيل حد التطابق. ولهذا أخذ حراكهم الاجتماعي أشكالاً هيكلية (تنظيم، حركة، تيار، ...الخ). غاب عن الأجيال السابقة أن الالتفاف حول هدف مشترك لا يعني بالضرورة الاتفاق على تفاصيله بل يكفي الاتفاق على صفته المجردة. وتوحيد الجهود لا يعني صهر الفوارق الفردية لتشكيل كتلة متجانسة، بل تشجيع التميز والاختلاف لتخصيب القضايا بأفكار متنوعة. لقد أُخذ الأولون بالتجانس حد التطابق فأرهقهم هذا الوهم الصعب، واختار الآخرون التكامل، فوفروا طاقتهم للسعي الفعلي نحو الهدف بدلاً من إهدارها في تنظيم مبدئي للصفوف لا يتماسك إلا لفترة مؤقتة.
الجزء الرابع: عندما يزأرون في تويتر
إذا كنت من أعداء الإصلاح فكن حذراً من الحضور الشبابي السعودي على الإنترنت. تصفّح المدونات لن يكون فعلاً مناسباً لمزاجك بالتأكيد، المنتديات ذات الصبغة الاجتماعية والفكرية هي وصفة متكاملة لاستفزازك، وتعليقات القراء على مقالات الصحف ستفسد عليك بقية الصحيفة. كن حذراً حتى وأنت تقرأ بريدك الالكتروني، فأنت لا تعلم إذا ما كان الإيميل القادم يحمل رسالة شخصية أم عريضة إصلاحية. لن تخلو صفحتك على الفيسبوك من دعوة للمشاركة في مشروع إصلاحي ذي شعار براق ومبتكر. وإذا جرؤت على الاشتراك في تويتر، فلا تتوقع أن ستستمتع بطبقات مختلفة من التغريد، لأن جملة الشباب السعودي على تويتر في حقيقة الأمر: يزأرون!
أعداء الإصلاح، سواءً كان عداؤهم له حفاظاً على المكتسبات الشخصية، أو تخوفاً من التغيير الجارف، أو توجساً من الأيدي الخفية، هم في جميع الحالات عاجزون عن تفادي الموجة الشبابية للمطالبة بالإصلاح فضلاً عن إيقافها. هذا لأن من يقف وراء هذه الموجة ليس أقلية صغيرة ذات توجهات نادرة، ولا جناحاً تيارياً ذي طموحات مؤقتة. إنهم نصف التعداد السكاني بالحساب الإحصائي المباشر. والذي يجعل مطالباتهم الإصلاحية هذه المرة عصية على الزوال والتقهقر هو أنها لم تتمحور حول فكرة يمكن تفنيدها، ولم تنقدح عن حاجة يمكن سدها. بل إنها تكريس اجتماعي لمرحلة حضارية لا يمكن دفعها للوراء. المجتمع، في خطاب شبابه، لا يطالب بالإصلاح لأنه تأثّر بشخص أو تألم من موقف، بل - ببساطة - لأنه نما (كمجتمع، وليس كأفراد) إلى الحد الذي صارت فيه المطالبة بالإصلاح لغته المباشرة وخبزه اليومي.
ولأنها مطالبة إصلاحية تقف على ملايين الأقدام، وتتطلع إلى كافة الاتجاهات، جاءت أساليبها متنوعة كما هو خليقٌ بها. فلا هي مختزلة في مذكرة كتبتها نخبة، ولا محدودة في مبادرة أطلقتها جهة. كل هذه الأشكال الصوتية والحركية للمطالبة للإصلاح هو آخر ما يفكره فيه الجيل الشاب اليوم، ولا يجد في جعبته صبراً كافياً لها، ولا يرجو خيراً من تكرارها مرة أخرى. هذا الجيل الشاب يطالب بالإصلاح بنفس الرتم الذي يقضي به يومه وليلته، وليس على شكل أحداث مركزية أو ظروف عابرة. وبالتالي، فإن أشكال مطالبته أخذت طابعاً متنوعاً بتنوع الممارسات اليومية لشباب المجتمع وشاباته، على اختلاف توجهاتهم ورؤاهم.
الفيسبوك وتوتير، كونهما أشهر المواقع الاجتماعية التفاعلية في العالم، يمنحان انعكاساً بلورياً لتنوع أساليب المطالبة بالإصلاح في السعودية. وهي متنوعة إلى حد أن مطلقيها أنفسهم قد لا يستشعرون أنهم أطلقوا مطالبة إصلاحية في خضم تعبيرهم العفويّ عن مجريات حياتهم. لقد أصبح الجيل الشاب يتكلم وكأن ضرورة التغيير أصبحت يقيناً راسخاً في وعيه ولاوعيه معاً. التململ من الثبات والتوق للتحول أصبح ضميراً كامناً في ثنايا القول والفعل، في رجائه وقنوطه، ونشاطه وخموله. ضرورة التغيير هي اليقين المشترك في خطاب الشاب/الشابة السعوديين، سواءً كان ذلك على مستوى التعليق العابر على الظروف اليومية، أو الاشتغال العميق على مشروع نقديّ.
إن محاولة فرز الخطاب الشبابي على الإنترنت بناء على مضمونه الإصلاحي قد تمنحنا تصوراً عن مدى تنوع الأساليب. سنجد، مثلاً، أسلوب المطالبة بالإصلاح عن طريق لفت الأنظار إلى ما يستدعيه، وتوجيه النقد اللاذع له، وجمع الشواهد الزمنية والمكانية التي تؤكد (إلى حد الاستفاضة أحياناً) الحاجة الملحة لإصلاح هذا الشأن بعينه. الصورة التي تتناقلها صفحات الفيسبوك لحفرة عميقة في شارع عام، والتدوينة التي تنتقد قصوراً تربوياً في منهج دراسي، والنكتة التي تتناقلها الشاشات عن تصريح رديء لمسؤول أهوج، كل هذه نماذج لهذا الأسلوب الشائع في المطالبة بالإصلاح عن طريق وضع دائرة حمراء كبيرة حول الشأن المعنيّ. سمة هذا الطرح عادةً أنه وصفيّ، يبرز المشكلة للعيان ولا يتجاوز هذا الدور نحو اقتراح الحلول أو وصف العلاج. وفي الغالب أن بعض المشاكل يفترض أن حلولها بدهيّة إلى حد يجعل من طرحها تكراراً مملاً. هذا الأسلوب يتناول قضايا متفاوتة الأهمية والإلحاح، قد لا تتجاوز سلبيات بسيطة لعادة اجتماعية معينة، وقد تصل إلى فضح فساد عريق في جهة حكومية كبرى.
سنجد أيضاً أسلوباً آخر يقوم، مثل سابقه، على لفت الأنظار إلى قصور ما ولكن ضمن رؤية إصلاحية معينة على مستويات متفاوتة من التفصيل. هناك من يشتكي من تدهور خدمات الخطوط السعودية، ثم يردف شكواه بأن الحل يكمن في فتح الأجواء الداخلية للمنافسة الأجنبية، أو من يلمح لسوء أحوال المناطق السياحية ثم يرى تخصيصها بالكامل. هذا الأسلوب يعكس محاولة أكثر تقدمية في المطالبة بالإصلاح باشتماله على رغبة شخصية بالإسهام فيه. وسواءً جاءت هذه المطالبة على شكل ورقة عمل مكتملة، أو مجرد ملاحظة عابرة على (تويتر) فإنها في الحالتين تحمل مشكلة وحلاً في آن واحد، بغض النظر عن جدوى الحل ومنطقيته.
سنجد أيضاً أسلوب المطالبة بمشروع إصلاحي عام غير نابع من مشكلة محددة. وهذا الأسلوب يختلف عن السابقيْن بتغييب عنصر رئيس وهو (المشكلة/القصور)، ووضع كامل الثقل على الطرف الوحيد المتبقي في المعادلة، وهو فعل التغيير نفسه. المناداة بإنشاء مراكز بحثية لتطوير الطاقة البديلة والحفاظ على الثروات الطبيعية يمكن أن تكون مثالاً لهذه المطالبة بالإصلاح، مثلما أن حث مجموعة من طلاب المدارس الابتدائية على المشاركة في تنظيف شواطئ المدينة يصلح لئن يكون مثالاً أيضاً. فحتى الآن لم يصبح توفر الطاقة مشكلة، ولم تنفد الثروات الطبيعية، ولم تعدم الأمانات قوى بشرية لتنظيف الشواطئ، وليس بالضرورة أن الناشئة بحاجة لهذا الدرس العمليّ حتى يعوا أهمية النظافة، ولكن استحداث هذه المراكز وتهذيب أولئك الناشئة هو إصلاحٌ (برغم عدم حضور المشكلة) من حيث أنه كسرٌ لحالة الخمول، ودفعٌ لعجلة التغيير. هذا الأسلوب يعكس رغبة في التطوير ذات طابع تفاؤلي، وينشد الرغبة في تحسين الوضع الحالي لشأن ما بغض النظر عما إذا كان مستواه يستدعي التطوير أو لا.
إننا نجد في تبني الشاب أو الشابة موقفاً سلبيّاً نابعاً من واقع الحياة اليومية أسلوباً غير مباشر من أساليب المطالبة بالإصلاح. فالبوح الذي يطلقه عبر نافذته الإنترنتية الواسعة ليس مجرد تنفيس عابر عن مشاعره الساخطة، بل اعتراض ما على ما يؤذيه ويثير ضيقه في مجتمعه. فالفتاة التي تتذمر من محدودية خياراتها الاجتماعية، والشاب الذي يكره ازدحام شوارع مدينته، كلاهما يخبئ في ثنايا بوحه مطالبة بإصلاح ذلك الذي حدّ من خيارات المرأة، وزاد من ازدحام الشوارع. حتى وهما لا ينطلقان من نيّة نقدية واضحة نجد في تعبيرهما العفويّ نقداً ضمنياً يمكن بسهولة أن نضعه في سياقات المطالبة بالإصلاح. ففي نهاية المطاف، ليس بوسعنا أن نفترض أن الجميع يحمل نفس مستوى الوعي الإصلاحي، والرؤية النقدية، ورغبة الإسهام، ولكنهم حتماً يتفقون على أن ثمة شيء ما.. يجب إصلاحه!
-----------------------------
الوطن السعودية