تعود المبتعثة للوقوف عند قارعة الطريق في انتظار الباص الآخر الذي سيحملها إلى الجامعة. درجة الحرارة هبطت تحت الصفر وهي تفكر في قدميها المتجمدتين وفي طفلها الأصغر الذي اشتكى من احتقان حلقه صباحاً. يصل الباص فتأخذ مكانها في آخره وتخرج أوراقها لتستذكر قليلاً قبل الوصول. تصلها رسالة من زوجها ليطمئن على أسرته فتطمئنه، وتسأله إذا ما تمكن من النوم أثناء مناوبته الليلية في المستشفى الذي يعدّ فيه زمالته. يجيبها بالنفي.
تصل إلى الجامعة وتتجه إلى محاضرتها اليومية. تنجز محاضراتها خلال ست ساعات، ثم تسابق الريح باتجاه الباص حتى لا تتأخر على طفليها، ثم تظل فيه واقفة لعدم وجود كرسيّ فارغ. تصطحب طفليها في باص آخر إلى المنزل، وتدلف، لتجد زوجها قد عاد إلى المنزل ونام. تساعد طفليها على خلع أحذية الشتاء المبللة بالمطر والثلج، وتلقي عليهما بعض التوصيات، ثم بدلاً من أن ترتمي على الأريكة لتلتقط أنفاسها تتجه مباشرة إلى المطبخ لتبدأ في إعداد وجبة العشاء. تقضي ساعة في الطبخ، وساعة أخرى في إطعام الطفلين، ثم تبدأ في تجهيزهما للنوم. ينام الطفلان أخيراً فتتجه هي إلى المطبخ لغسل أطباق العشاء. تتذكر أثناء ذلك أن حمامات المنزل بحاجة للتنظيف، وكومة الملابس بحاجة للغسل، وأحذية طفليها بحاجة للتجفيف، فتعمل على ذلك لساعة تقريباً. وعندما تنتهي تفتح الثلاجة لتتأكد من أن متطلبات الإفطار موجودة فتكتشف أنه لا يوجد حليب. ترتدي ملابسها الثقيلة، وتلتقط مفاتيح زوجها، وتخرج لتجد السيارة محتجزة وراء تل صغير من الثلج. تخرج مجرفة صغيرة وتبدأ في إفساح طريق للسيارة. أخيراً تتجه إلى السوبرماركت وتشتري ما تحتاجه. تعود إلى المنزل بعد منتصف الليل. الطفلان وزوجها نائمون. البيت نظيف والثلاجة عامرة. الثلج يتساقط خارج النافذة. طاقتها الجسدية اقتربت من الصفر. الآن فقط بوسعها أن تخرج أوراقها وكتبها، وتبدأ في الاستذكار.
في الواحدة صباحاً تقرر أنها استذكرت بالقدر الذي تسمح لها ظروفها به. تأوي إلى فراشها وهي تعلم أن يومها الجديد سيبدأ بعد أربع ساعات فقط، لتكرر فيه كل ما فعلته اليوم خطوة خطوة. قبل أن تخلد إلى النوم، يدقّ الهاتف فيستيقظ زوجها ليردّ عليه، ثم ينهض ليرتدي ملابسه ويتجه إلى المستشفى لمتابعة حالة عاجلة. تسمع صوت محرك سيارته في الخارج، وتغرق هي في نوم عميق. وعندما يدقّ جرس التنبيه صباحاً تظنّ أنه أصيب بعطل لأنها لم تنم أكثر من خمس دقائق، قبل أن تكتشف أنها الخامسة والنصف فجراً.
تكرر البرنامج السابق خمسة أيام متتالية، وفي عطلة نهاية الأسبوع راحت المبتعثة تقرأ بريدها الإلكتروني لتجد فيه بضع رسائل. الأولى من حضانة ابنيها تنوه فيها أن رسوم الحضانة سترتفع بنسبة عشرة بالمئة. الثانية من الملحقية الثقافية تهدد فيها جميع المبتعثين بإيقاف المكافأة إذا لم يرسلوا كشوف درجاتهم الفصلية. الثالثة من البروفيسور الذي تدرس مادته يخبرها أن بحثها الأخير كان أقل من المطلوب وعليها أن تبذل جهداً أكبر. الرابعة من شركة الهاتف تذكرها بدفع الفاتورة الشهرية حتى لا تتعرض لفصل الخدمة. الخامسة من صالون التجميل يخبرها أن طلبها لحجز موعد هذا الأسبوع مرفوض لأنها قامت بإلغاء أربعة مواعيد سابقة لضيق الوقت. السادسة من زميلاتها في الجامعة يدعونها لحضور حفلة غداً بمناسبة خطوبة إحداهنّ. السابعة من أختها الصغرى في الرياض تعاتبها فيها على عدم التواجد على الإنترنت للدردشة. الثامنة من زوجها يذكرها فيها بمواعيد التطعيم الخاصة بابنهما الأصغر.
راحت المبتعثة تتأمل الرسائل الثماني التي يحتاج كل منها إلى إجراء معين يستنزف من الوقت الذي كانت تأمل استغلاله في الاستذكار. على عجل، راحت تبحث عن حضانات أخرى تناسب ميزانية العائلة، ثم طبعت كشف درجاتها لترسله إلى مشرفها الأكاديمي، وكتبت رسالة اعتذار للبروفيسور تعده فيها ببذل جهد أكبر، ودخلت على الموقع الإلكتروني لشركة الهاتف لتسدد الفاتورة، وبحثت عن صالون تجميل آخر لتحجز موعداً ترمم فيه أنوثتها التي لم تعتن بها منذ أشهر، اعتذرت عن حضور الحفلة بسبب جدول مناوبة زوجها. أرسلت لأختها الصغرى لتعدها بالاتصال بها قريباً، ثم اتصلت بعيادة الأطفال لحجز موعد لطفلها الأصغر.
أخيراً، قررت أن تقرأ في كتابها عندما وصلها صوت صراخ الطفلين. هرعت لتجد الأكبر يضرب الأصغر بعدوانيّة لم تعهدها فيه من قبل. أقلقها هذا السلوك، فقررت أن تعود إلى جهازها بعد أن فرّقت بينهما لتقرأ قليلاً عن مسببات هذا السلوك. شعرت بالحزن عندما علمت أنه سلوك ناتج عن شعور الطفل بالإهمال وانشغال الأبوين. قررت أنها يجب أن تقضي وقتاً أطول مع طفليها ولكنها لا تعرف كيف سيتسنى لها ذلك في ظل جدولها اليوميّ المجنون. فكرت أن تحذف إحدى المواد من هذا الفصل الدراسي لتحل مشكلتي تراجع أدائها الجامعي وتوفير وقت لطفليها اللذين تأثرا نفسياً من هذا الجدول الميكانيكي الصارم. تذكرت أنها لجأت لهذا الحل مرتين خلال الفصلين الماضيين وستتأخر سنة كاملة عن موعد التخرج، ولا تدري كيف ستتعامل الملحقية مع هذا التأخير.
تمسح، دون أن تقرأ أياً منها، بقية الإيميلات المتراكمة في بريدها بما فيها من مقالات واهتمامات شخصية طالما أحبتها ولكنها لا تملك الآن وقتاً لقراءتها. يصرخ طفلها مرة أخرى باكياً بعد أن نشبت معركة أخرى، تتأمل في المرآة شعرها المهمل ويدها المتشققة، تلقي نظرة على أوراق وكتب الجامعة التي ينبغي أن تقرأها قبل بداية الأسبوع المقبل. تتساءل للمرة المئة منذ بدأت بعثتها إذا ما كان بوسعها تحمّل ذلك كله بضع سنوات أخرى.
بعد أربع سنوات من هذا الكفاح اليومي تخرجت فعلاً، ونال زوجها الزمالة. اكتسب طفلاها لغةً ثانية، وعادوا جميعاً للسعودية. ومنذ عودتها، كانت تقرأ بين الحين والآخر في الصحف عن إنجازات المبتعثات، ولكنها لم تجد يوماً اسمها
الابتعاث.. ماذا نعرف عنه
القصة الرمزية التي ذُكرت في مقالة الأسبوع الماضي حول الصعوبات اليومية التي تواجهها مبتعثة ما في أمريكا كانت تهدف إلى تسليط الضوء فقط على تفاصيل ربما غابت حتى عن بعض من مرّوا بتجربة الابتعاث أنفسهم. ووراء هذا الهدف المباشر لم تكن هناك محاولة لاستخدام القصة في دعم فكرةٍ ما أو تمهيد مشروعٍ معين. إنها مجرد قصة (خام) يمكن طرقها وسحبها وتكريرها وتفسيرها بعشرات الوسائل لتتحول إلى دليل على تلك الحجة أو مثال على ذلك الرأي. وقد كشفت أغلب تعليقات القراء الكرام قابلية هذا التوظيف المتعدد في تعليقاتهم عندما تمكنوا من زرعها في صميم أكثر من قضية جدلية قائمة حول برنامج الابتعاث، بل وتجاوز بعضهم برنامج الابتعاث ذلك إلى قضايا أوسع مثل العلاقات الزوجية، والمساواة بين الجنسين، والفروقات الاجتماعية بين بلدين، وغيرها.
من المثير للاهتمام أن هذه التوظيفات المتنوعة والجدل التراكميّ يثيرها ويحركها مجرد تسليط بسيط للضوء على واحد من تفاصيل الابتعاث اليومية، مما يدلل على أن هذا المشروع الهائل يشغل مساحة جدلية يعتدّ بها في الشأن الاجتماعي، وبالتالي، ونسبة إلى حجم أثره أيضاً، فهو بحاجة ماسّة إلى حزمة من التنظير الاجتماعي والثقافي لفهمه في سياقه الحضاري الذي جاء فيه. أقول ذلك لأني على (شبه يقين) يحتاج فقط إلى دراسة منهجية ليتحول إلى يقين كامل، أن برنامج الابتعاث هو واحد من أجرأ مشاريع التنمية في السعودية منذ السماح للشركات الأمريكية بالتنقيب عن النفط عام 1933م، ورغم ذلك فإن الدراسات المطروحة حوله نادرة جداً إن لم تكن معدومة.
من نافلة القول إذن أن نبرهن على أهمية برنامج الابتعاث وتأثيره الحضاري والاجتماعي والثقافي ونحن نزجّ بمئات الآلاف من رجال الوطن ونسائه دفعة واحدة لأزمنة مطوّلة في مجتمعات مختلفة. ومن نافلة القول أن نذكر أن الابتعاث أصبح فرداً من كل أسرة سعودية تحدّث به نفسها، أو تعهد إليه بأبنائها، أو تستعيذ بالله منه. ومن نافلة القول أن نقول إن مصيرية الابتعاث بالنسبة للفرد لا تقل أهميتها عن مصيريتها بالنسبة للمجتمع، إلا أنه رغم هذه الأهمية نجد أن التكهنات العشوائية والتصورات المغلوطة والتعميمات المسطّحة حوله قد بلغت حداً فانتازياً غريباً، حتى إن هذه القصة المبسّطة للمبتعثة عكست بعض التعليقات عليها حدّين متناقضين: حدٌّ يجزم بواقعية القصة وتشابهها حد التطابق مع تجارب حيّة، وحدٌّ يجدها قصة غير واقعية وتصف حال المبتعثين بمبالغة سينمائية. وبالتأكيد أن وجود التعليقين معاً تحت مقالة واحدة، وبعضها صادر من مبتعثين سابقين وحاليين، يدلل بوضوح على أن الصورة غير واضحة، أو في أفضل الأحوال غير متفق عليها. ومن هنا يكون تسليط الضوء بشكل سرديّ على جانب واحد من تفاصيل الحياة اليومية للمبتعثة هو بحد ذاته هدفٌ مبرر لنشر القصة، لعله يكشف لنا بشكل عمليّ كم نحن محدودون في فهم التصورات العامة حول الابتعاث بقدر ما نحن معتدّون بتصوراتنا الشخصية حوله.
الحقيقة، أن اتهام القصة بالمبالغة متوقع ولكنه غير مبرر، فمشروع الابتعاث استهدف شرائح مختلفة من المجتمع، وابتعثهم لأصقاع متباعدة من العالم، للانخراط في برامج أكاديمية متفاوتة في الجهد. مئات الآلاف من المبتعثين، عشرات الدول، عشرات التخصصات، مئات الجامعات. إنّ عدد المتغيّرات التي يمكن حشوها في هذه المعادلة هائلٌ جداً، وبالتالي فإن النتائج المحتملة لها لا يمكن حصرها. ومثلما أن المبتعثين يختلفون في منطلقاتهم الشخصية، وقدراتهم الاستيعابية، وتفصيلاتهم اليومية، وطموحاتهم الحياتية، فهم أيضاً يختلفون في خلفياتهم الثقافية، ورؤاهم الأخلاقية، وامتداداتهم العائلية، وانفعالاتهم الأيديولوجية. ولنضع كل هذا الخليط من الاحتمالات فوق خليط آخر تشكله تجربتهم الابتعاثية في دول ومجتمعات وجامعات وتقاطعات كبرى بين التاريخ والجغرافيا والثقافة والسياسة. هل يمكن بعد هذا كله أن يجزم مبتعث أو مبتعثة أن تجربته الابتعاثية الخاصة، في دولة واحدة، بين جامعة أو جامعتين، لبضع سنوات قصيرة، مع بعض الفسح السياحية من حين لآخر، والاختلاط العابر مع زملاء وغرباء، يمكن أن تمنحه قدرة كافية على تحديد كل النتائج المحتملة للمعادلة الهائلة أعلاه بدقة، مما يؤهله لدحض واقعية القصة أو تفنيدها؟
قد يمرّ مبتعثان بنفس الظروف حد التطابق. يقيمان في شقة واحدة، ويدرسان في نفس الجامعة، ويتقاضيان نفس المكافأة، ويسلكان نفس المسار الأكاديمي، ثم ينتهي أحدهما إلى تصور مختلف تماماً عن الآخر حول ماهية تجربة الابتعاث، وكيف يمكن اختزالها في قصة أو مقالة. فكيف إذن سيتفق مبتعثو أمريكا مع مبتعثي الهند؟ وكيف سيتفق مبتعثو فرنسا مع مبتعثي مصر؟ وكيف سيتفق المبتعث الأعزب مع المبتعث المتزوج؟ وكيف سيتفق مبتعث اللغة ذو الثمانية عشر ربيعاً مع مبتعث الزمالة الطبية ذي الثلاث والثلاثين سنة؟ وكيف ستتفق المبتعثة التي يرافقها أبوها مع المبتعثة التي يرافقها زوج وأربعة أطفال؟ وكيف سيتفق المبتعث الذي يقتطع من مكافأته شيئاً للأهل أو للمستقبل، والمبتعث الذي يفيض عليه من السعودية دخلٌ إضافي فوق مكافأة الابتعاث؟ كيف يتفق المبتعث الذي هو سليل أبوين مبتعثين منذ السبعينات، مع المبتعث الذي لم ير مطاراً من قبل سوى عبر بوابة وزارة التعليم العالي؟ وكيف سيتفق المبتعث الذي يدرس قدراتٍ تحصيلية محدودة مع الذي حباه الله بحذق يسهّل عليه التحصيل الجامعي؟ وكيف ستتفق المبتعثة التي تملك قدرة نفسية على تحمل الكدح اليوميّ مع تلك التي، مهما اجتهدت، تفتك بها المخاوف دائماً وتهزّ ثقتها بنفسها؟
وإذا لم يتمكن المبتعثون أنفسهم من الإحاطة بكل الحالات الممكن تفرعها من الابتعاث، فكيف سيحيط بها بقية المجتمع ممن يسمع ولا يرى؟ ويقرأ ولا يسافر؟ ويتأمل ولا يتفاعل؟ هذه القصة المبسّطة تطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب عليه. يخبرنا من يتفق معها أنه لم يتمكن من توثيقها كما ينبغي، ويخبرنا من اختلف معها أنه لم يتمكن من تصوّرها كما وقعت. الأول جرّب ولم يخبر، والثاني أخبر ولم يجرّب. القصة إذن، في هدفها المباشر، أرادت أن تسلط الضوء على قصور التصورات إزاء أهمية المشروع، وتهافت الجدل إزاء غياب التحليل. باختصار، كل ما نعرفه عن الابتعاث حتى الآن هو مجموعة مشتتة من التصورات الشخصية لم يجمعها كتاب، ولم تفحصها دراسة، ولم يتناولها حتى عمل أدبيّ أو فنّي. هذا لا يعني أن مشروع الابتعاث سيفشل، أو أن موازين المجتمع ستختل بسبب هذا القصور، ولكنه يعني أن فائدة نوعيّة كبرى كنا سنضيفها إلى فوائد الابتعاث لو وضعناه قليلاً تحت مجهر الفحص.
----------------------------------------------
مقالان ظهرا بالتتابع في صحيفة الوطن
تصل إلى الجامعة وتتجه إلى محاضرتها اليومية. تنجز محاضراتها خلال ست ساعات، ثم تسابق الريح باتجاه الباص حتى لا تتأخر على طفليها، ثم تظل فيه واقفة لعدم وجود كرسيّ فارغ. تصطحب طفليها في باص آخر إلى المنزل، وتدلف، لتجد زوجها قد عاد إلى المنزل ونام. تساعد طفليها على خلع أحذية الشتاء المبللة بالمطر والثلج، وتلقي عليهما بعض التوصيات، ثم بدلاً من أن ترتمي على الأريكة لتلتقط أنفاسها تتجه مباشرة إلى المطبخ لتبدأ في إعداد وجبة العشاء. تقضي ساعة في الطبخ، وساعة أخرى في إطعام الطفلين، ثم تبدأ في تجهيزهما للنوم. ينام الطفلان أخيراً فتتجه هي إلى المطبخ لغسل أطباق العشاء. تتذكر أثناء ذلك أن حمامات المنزل بحاجة للتنظيف، وكومة الملابس بحاجة للغسل، وأحذية طفليها بحاجة للتجفيف، فتعمل على ذلك لساعة تقريباً. وعندما تنتهي تفتح الثلاجة لتتأكد من أن متطلبات الإفطار موجودة فتكتشف أنه لا يوجد حليب. ترتدي ملابسها الثقيلة، وتلتقط مفاتيح زوجها، وتخرج لتجد السيارة محتجزة وراء تل صغير من الثلج. تخرج مجرفة صغيرة وتبدأ في إفساح طريق للسيارة. أخيراً تتجه إلى السوبرماركت وتشتري ما تحتاجه. تعود إلى المنزل بعد منتصف الليل. الطفلان وزوجها نائمون. البيت نظيف والثلاجة عامرة. الثلج يتساقط خارج النافذة. طاقتها الجسدية اقتربت من الصفر. الآن فقط بوسعها أن تخرج أوراقها وكتبها، وتبدأ في الاستذكار.
في الواحدة صباحاً تقرر أنها استذكرت بالقدر الذي تسمح لها ظروفها به. تأوي إلى فراشها وهي تعلم أن يومها الجديد سيبدأ بعد أربع ساعات فقط، لتكرر فيه كل ما فعلته اليوم خطوة خطوة. قبل أن تخلد إلى النوم، يدقّ الهاتف فيستيقظ زوجها ليردّ عليه، ثم ينهض ليرتدي ملابسه ويتجه إلى المستشفى لمتابعة حالة عاجلة. تسمع صوت محرك سيارته في الخارج، وتغرق هي في نوم عميق. وعندما يدقّ جرس التنبيه صباحاً تظنّ أنه أصيب بعطل لأنها لم تنم أكثر من خمس دقائق، قبل أن تكتشف أنها الخامسة والنصف فجراً.
تكرر البرنامج السابق خمسة أيام متتالية، وفي عطلة نهاية الأسبوع راحت المبتعثة تقرأ بريدها الإلكتروني لتجد فيه بضع رسائل. الأولى من حضانة ابنيها تنوه فيها أن رسوم الحضانة سترتفع بنسبة عشرة بالمئة. الثانية من الملحقية الثقافية تهدد فيها جميع المبتعثين بإيقاف المكافأة إذا لم يرسلوا كشوف درجاتهم الفصلية. الثالثة من البروفيسور الذي تدرس مادته يخبرها أن بحثها الأخير كان أقل من المطلوب وعليها أن تبذل جهداً أكبر. الرابعة من شركة الهاتف تذكرها بدفع الفاتورة الشهرية حتى لا تتعرض لفصل الخدمة. الخامسة من صالون التجميل يخبرها أن طلبها لحجز موعد هذا الأسبوع مرفوض لأنها قامت بإلغاء أربعة مواعيد سابقة لضيق الوقت. السادسة من زميلاتها في الجامعة يدعونها لحضور حفلة غداً بمناسبة خطوبة إحداهنّ. السابعة من أختها الصغرى في الرياض تعاتبها فيها على عدم التواجد على الإنترنت للدردشة. الثامنة من زوجها يذكرها فيها بمواعيد التطعيم الخاصة بابنهما الأصغر.
راحت المبتعثة تتأمل الرسائل الثماني التي يحتاج كل منها إلى إجراء معين يستنزف من الوقت الذي كانت تأمل استغلاله في الاستذكار. على عجل، راحت تبحث عن حضانات أخرى تناسب ميزانية العائلة، ثم طبعت كشف درجاتها لترسله إلى مشرفها الأكاديمي، وكتبت رسالة اعتذار للبروفيسور تعده فيها ببذل جهد أكبر، ودخلت على الموقع الإلكتروني لشركة الهاتف لتسدد الفاتورة، وبحثت عن صالون تجميل آخر لتحجز موعداً ترمم فيه أنوثتها التي لم تعتن بها منذ أشهر، اعتذرت عن حضور الحفلة بسبب جدول مناوبة زوجها. أرسلت لأختها الصغرى لتعدها بالاتصال بها قريباً، ثم اتصلت بعيادة الأطفال لحجز موعد لطفلها الأصغر.
أخيراً، قررت أن تقرأ في كتابها عندما وصلها صوت صراخ الطفلين. هرعت لتجد الأكبر يضرب الأصغر بعدوانيّة لم تعهدها فيه من قبل. أقلقها هذا السلوك، فقررت أن تعود إلى جهازها بعد أن فرّقت بينهما لتقرأ قليلاً عن مسببات هذا السلوك. شعرت بالحزن عندما علمت أنه سلوك ناتج عن شعور الطفل بالإهمال وانشغال الأبوين. قررت أنها يجب أن تقضي وقتاً أطول مع طفليها ولكنها لا تعرف كيف سيتسنى لها ذلك في ظل جدولها اليوميّ المجنون. فكرت أن تحذف إحدى المواد من هذا الفصل الدراسي لتحل مشكلتي تراجع أدائها الجامعي وتوفير وقت لطفليها اللذين تأثرا نفسياً من هذا الجدول الميكانيكي الصارم. تذكرت أنها لجأت لهذا الحل مرتين خلال الفصلين الماضيين وستتأخر سنة كاملة عن موعد التخرج، ولا تدري كيف ستتعامل الملحقية مع هذا التأخير.
تمسح، دون أن تقرأ أياً منها، بقية الإيميلات المتراكمة في بريدها بما فيها من مقالات واهتمامات شخصية طالما أحبتها ولكنها لا تملك الآن وقتاً لقراءتها. يصرخ طفلها مرة أخرى باكياً بعد أن نشبت معركة أخرى، تتأمل في المرآة شعرها المهمل ويدها المتشققة، تلقي نظرة على أوراق وكتب الجامعة التي ينبغي أن تقرأها قبل بداية الأسبوع المقبل. تتساءل للمرة المئة منذ بدأت بعثتها إذا ما كان بوسعها تحمّل ذلك كله بضع سنوات أخرى.
بعد أربع سنوات من هذا الكفاح اليومي تخرجت فعلاً، ونال زوجها الزمالة. اكتسب طفلاها لغةً ثانية، وعادوا جميعاً للسعودية. ومنذ عودتها، كانت تقرأ بين الحين والآخر في الصحف عن إنجازات المبتعثات، ولكنها لم تجد يوماً اسمها
الابتعاث.. ماذا نعرف عنه
القصة الرمزية التي ذُكرت في مقالة الأسبوع الماضي حول الصعوبات اليومية التي تواجهها مبتعثة ما في أمريكا كانت تهدف إلى تسليط الضوء فقط على تفاصيل ربما غابت حتى عن بعض من مرّوا بتجربة الابتعاث أنفسهم. ووراء هذا الهدف المباشر لم تكن هناك محاولة لاستخدام القصة في دعم فكرةٍ ما أو تمهيد مشروعٍ معين. إنها مجرد قصة (خام) يمكن طرقها وسحبها وتكريرها وتفسيرها بعشرات الوسائل لتتحول إلى دليل على تلك الحجة أو مثال على ذلك الرأي. وقد كشفت أغلب تعليقات القراء الكرام قابلية هذا التوظيف المتعدد في تعليقاتهم عندما تمكنوا من زرعها في صميم أكثر من قضية جدلية قائمة حول برنامج الابتعاث، بل وتجاوز بعضهم برنامج الابتعاث ذلك إلى قضايا أوسع مثل العلاقات الزوجية، والمساواة بين الجنسين، والفروقات الاجتماعية بين بلدين، وغيرها.
من المثير للاهتمام أن هذه التوظيفات المتنوعة والجدل التراكميّ يثيرها ويحركها مجرد تسليط بسيط للضوء على واحد من تفاصيل الابتعاث اليومية، مما يدلل على أن هذا المشروع الهائل يشغل مساحة جدلية يعتدّ بها في الشأن الاجتماعي، وبالتالي، ونسبة إلى حجم أثره أيضاً، فهو بحاجة ماسّة إلى حزمة من التنظير الاجتماعي والثقافي لفهمه في سياقه الحضاري الذي جاء فيه. أقول ذلك لأني على (شبه يقين) يحتاج فقط إلى دراسة منهجية ليتحول إلى يقين كامل، أن برنامج الابتعاث هو واحد من أجرأ مشاريع التنمية في السعودية منذ السماح للشركات الأمريكية بالتنقيب عن النفط عام 1933م، ورغم ذلك فإن الدراسات المطروحة حوله نادرة جداً إن لم تكن معدومة.
من نافلة القول إذن أن نبرهن على أهمية برنامج الابتعاث وتأثيره الحضاري والاجتماعي والثقافي ونحن نزجّ بمئات الآلاف من رجال الوطن ونسائه دفعة واحدة لأزمنة مطوّلة في مجتمعات مختلفة. ومن نافلة القول أن نذكر أن الابتعاث أصبح فرداً من كل أسرة سعودية تحدّث به نفسها، أو تعهد إليه بأبنائها، أو تستعيذ بالله منه. ومن نافلة القول أن نقول إن مصيرية الابتعاث بالنسبة للفرد لا تقل أهميتها عن مصيريتها بالنسبة للمجتمع، إلا أنه رغم هذه الأهمية نجد أن التكهنات العشوائية والتصورات المغلوطة والتعميمات المسطّحة حوله قد بلغت حداً فانتازياً غريباً، حتى إن هذه القصة المبسّطة للمبتعثة عكست بعض التعليقات عليها حدّين متناقضين: حدٌّ يجزم بواقعية القصة وتشابهها حد التطابق مع تجارب حيّة، وحدٌّ يجدها قصة غير واقعية وتصف حال المبتعثين بمبالغة سينمائية. وبالتأكيد أن وجود التعليقين معاً تحت مقالة واحدة، وبعضها صادر من مبتعثين سابقين وحاليين، يدلل بوضوح على أن الصورة غير واضحة، أو في أفضل الأحوال غير متفق عليها. ومن هنا يكون تسليط الضوء بشكل سرديّ على جانب واحد من تفاصيل الحياة اليومية للمبتعثة هو بحد ذاته هدفٌ مبرر لنشر القصة، لعله يكشف لنا بشكل عمليّ كم نحن محدودون في فهم التصورات العامة حول الابتعاث بقدر ما نحن معتدّون بتصوراتنا الشخصية حوله.
الحقيقة، أن اتهام القصة بالمبالغة متوقع ولكنه غير مبرر، فمشروع الابتعاث استهدف شرائح مختلفة من المجتمع، وابتعثهم لأصقاع متباعدة من العالم، للانخراط في برامج أكاديمية متفاوتة في الجهد. مئات الآلاف من المبتعثين، عشرات الدول، عشرات التخصصات، مئات الجامعات. إنّ عدد المتغيّرات التي يمكن حشوها في هذه المعادلة هائلٌ جداً، وبالتالي فإن النتائج المحتملة لها لا يمكن حصرها. ومثلما أن المبتعثين يختلفون في منطلقاتهم الشخصية، وقدراتهم الاستيعابية، وتفصيلاتهم اليومية، وطموحاتهم الحياتية، فهم أيضاً يختلفون في خلفياتهم الثقافية، ورؤاهم الأخلاقية، وامتداداتهم العائلية، وانفعالاتهم الأيديولوجية. ولنضع كل هذا الخليط من الاحتمالات فوق خليط آخر تشكله تجربتهم الابتعاثية في دول ومجتمعات وجامعات وتقاطعات كبرى بين التاريخ والجغرافيا والثقافة والسياسة. هل يمكن بعد هذا كله أن يجزم مبتعث أو مبتعثة أن تجربته الابتعاثية الخاصة، في دولة واحدة، بين جامعة أو جامعتين، لبضع سنوات قصيرة، مع بعض الفسح السياحية من حين لآخر، والاختلاط العابر مع زملاء وغرباء، يمكن أن تمنحه قدرة كافية على تحديد كل النتائج المحتملة للمعادلة الهائلة أعلاه بدقة، مما يؤهله لدحض واقعية القصة أو تفنيدها؟
قد يمرّ مبتعثان بنفس الظروف حد التطابق. يقيمان في شقة واحدة، ويدرسان في نفس الجامعة، ويتقاضيان نفس المكافأة، ويسلكان نفس المسار الأكاديمي، ثم ينتهي أحدهما إلى تصور مختلف تماماً عن الآخر حول ماهية تجربة الابتعاث، وكيف يمكن اختزالها في قصة أو مقالة. فكيف إذن سيتفق مبتعثو أمريكا مع مبتعثي الهند؟ وكيف سيتفق مبتعثو فرنسا مع مبتعثي مصر؟ وكيف سيتفق المبتعث الأعزب مع المبتعث المتزوج؟ وكيف سيتفق مبتعث اللغة ذو الثمانية عشر ربيعاً مع مبتعث الزمالة الطبية ذي الثلاث والثلاثين سنة؟ وكيف ستتفق المبتعثة التي يرافقها أبوها مع المبتعثة التي يرافقها زوج وأربعة أطفال؟ وكيف سيتفق المبتعث الذي يقتطع من مكافأته شيئاً للأهل أو للمستقبل، والمبتعث الذي يفيض عليه من السعودية دخلٌ إضافي فوق مكافأة الابتعاث؟ كيف يتفق المبتعث الذي هو سليل أبوين مبتعثين منذ السبعينات، مع المبتعث الذي لم ير مطاراً من قبل سوى عبر بوابة وزارة التعليم العالي؟ وكيف سيتفق المبتعث الذي يدرس قدراتٍ تحصيلية محدودة مع الذي حباه الله بحذق يسهّل عليه التحصيل الجامعي؟ وكيف ستتفق المبتعثة التي تملك قدرة نفسية على تحمل الكدح اليوميّ مع تلك التي، مهما اجتهدت، تفتك بها المخاوف دائماً وتهزّ ثقتها بنفسها؟
وإذا لم يتمكن المبتعثون أنفسهم من الإحاطة بكل الحالات الممكن تفرعها من الابتعاث، فكيف سيحيط بها بقية المجتمع ممن يسمع ولا يرى؟ ويقرأ ولا يسافر؟ ويتأمل ولا يتفاعل؟ هذه القصة المبسّطة تطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب عليه. يخبرنا من يتفق معها أنه لم يتمكن من توثيقها كما ينبغي، ويخبرنا من اختلف معها أنه لم يتمكن من تصوّرها كما وقعت. الأول جرّب ولم يخبر، والثاني أخبر ولم يجرّب. القصة إذن، في هدفها المباشر، أرادت أن تسلط الضوء على قصور التصورات إزاء أهمية المشروع، وتهافت الجدل إزاء غياب التحليل. باختصار، كل ما نعرفه عن الابتعاث حتى الآن هو مجموعة مشتتة من التصورات الشخصية لم يجمعها كتاب، ولم تفحصها دراسة، ولم يتناولها حتى عمل أدبيّ أو فنّي. هذا لا يعني أن مشروع الابتعاث سيفشل، أو أن موازين المجتمع ستختل بسبب هذا القصور، ولكنه يعني أن فائدة نوعيّة كبرى كنا سنضيفها إلى فوائد الابتعاث لو وضعناه قليلاً تحت مجهر الفحص.
----------------------------------------------
مقالان ظهرا بالتتابع في صحيفة الوطن