لذا، وقبل البحث عن إجابة: “لماذا لم توفق المعارضة السورية بإقامة أنموذج يحتذى؟”، يبرر أسباب الخروج على النظام. وتقديم للعالم، صديق ومؤيد للثورة أو متردد ومعاد لها، دلائل تؤكد أن العلّة في نظام حكم وطرائق إدارة مافيوية وغياب الرؤى والخطط التنموية.
قبل الحكم والإجابة، حبذا أن نقيس ونقارن بأهم ثلاثة مؤشرات، علنا نقترب من المنطق والواقع، ولا نزيد من غلال التنجيم والرمي الجزاف من دون أدلة.
المؤشر الأول الذي تمكن المقارنة به والاعتداد أيضاً، لما له من مدلولات على صوابية الخطط، هو البطالة. كما لمرض البطالة آثار جانبية، تتعدى العقابيل الاقتصادية لتصل إلى تهديم البنى المجتمعية وتنال من القيم الأخلاقية والبنى الفوقية بالمجتمعات.
المتابع لكوارث صنائع نظام بشار الأسد، يعرف أن نسبة البطالة لم تكن تزيد عن 12.6% عام 2010، قبل أن تتعاظم لتبلغ نحو 34% عام 2013، وقت بدأ النظام بعقاب تسريح العمال بتهم الانتماء للثورة، لتبلغ 50% عام 2015 وفق تصريحات رسمية، وتزيد نسبة هذه الآفة هذا العام الجاري، وفق باحثين وتقديرات، إلى أكثر من 82%، في حين لا تصدر مؤسسات حكومة الأسد، أي رقم دقيق وحديث.
كما الأخطر، بهذا المقياس ربما، أن قوة العمل كانت في سورية نحو 5.5 ملايين عام 2011، لكن الموظفين لدى حكومة الأسد، اليوم، لا يزيدون عن 1.8 مليون عامل، بعد موجات التسريح والتهجير وخسارة الإنسان، أهم قوى الإنتاج وحوامل التنمية.
ولكن على المقلب الآخر، هل الأمر أحسن حالاً؟
تقول إحصاءات وتقارير موثّقة وموثوقة إلى حد بعيد، منها بيانات فريق “منسقو استجابة سورية”، أن نسبة البطالة وصلت شمال غربي سورية إلى 85% كما أكد هذه النسبة وزير الاقتصاد بالحكومة السورية المؤقتة التابعة للإئتلاف المعارض، ما يعني أنها نسبة يمكن الاعتماد والقياس عليها.
لنعد إلى الحديث ذاته، حول ما يمكن أن تفعله نسبة كهذه بالسكان، على صعيد تأمين مستلزمات العيش، أو حتى بيع ما يباع لمرة واحدة!
وأما المؤشر الآخر، المرتبط بالبطالة لا شك، فهو الفقر. فنسبة الفقر بمناطق سيطرة بشار الأسد اليوم، بعد ارتفاع تكاليف المعيشة للأسرة إلى أكثر من 3 ملايين ليرة وتثبيت الأجور عند مئة ألف، تزيد وفق التصريحات والتقارير المحلية والدولية عن 90%، وربما لولا التحويلات الخارجية لرأينا أكثر من 95% من السوريين بالداخل يعانون من تأمين قوت يومهم.
ليأتي السؤال عن نسبة الفقر بمناطق سيطرة المعارضة، والتي من المفترض أن تحسين مستوى معيشة الإنسان ومنحه الحقوق والكرامة، أهم دوافع الثورة وتضحية السوريين بأكثر من مليون قتيل ومعتقل، وزيادة عدد المهاجرين والنازحين، عن نصف السكان.
تقول المصادر الرسمية ومراكز الأبحاث شمال غربي سورية إن نسبة الفقر خلال العام الجاري وصلت إلى 87.11%، بعد انعدام دخل معظم السكان وتراجع مردود العمل الزراعي الذي تبقّى، كقطاع عمل، لنيف و5 ملايين سوري يعيشون في رقعة جغرافية محدودة. لنأتِ ذكراً، وليس تفصيلاً، على المؤشر الثالث، وهو العدالة في توزيع الدخول أو كفاية السكان ومسؤولية السلطات القائمة على أرض الواقع.
غني عن الذكر والتفصيل ربما، أن مناطق سيطرة نظام بشار الأسد تعاني من خلل هائل في توزيع الثروة وعدالة الدخول، وربما التفاوت الهائل بين معيشة 10% المقربين من نظام الأسد، ونحو 90% من السوريين، يتلظون يومياً على نيران الفاقة والعوز، دليل واضح.
كما بالتقارير الأممية التي تؤكد أن 14,6 مليون شخص في سورية يحتاجون الى مساعدات إنسانية خلال العام الحالي، دليل إضافي لكل من يحاول التشكيك بخلل عدالة توزيع الدخل في مناطق سيطرة الأسد.
بيد أن مناطق سيطرة المعارضة، والتي من المفترض أنها تأخذ من سد حاجات الناس بوصلة لها وتأكيداً على صوابية وحق انتفاضة السوريين بثورتهم عام 2011، ليست بأحسن حال.
إذ، وبحسب “فريق منسقو الاستجابة”، لم تسد المساعدات الأممية والأجور لمن يعمل ضمن حكومتي الإنقاذ والمؤقتة، وحتى التحويلات الخارجية، أكثر من 30% من حاجة القاطنين في مناطق المعارضة، في الوقت الذي تحوّل خلاله بعض المعارضين ومن يسموّن “مافيات المنظمات الدولية” إلى اثرياء، فشيدوا مشروعات وأسسوا لاستثمارات، في تركيا وغيرها.
هذا طبعاً، إن لم نأت على مؤشرات أخرى، لها من الدلائل ما يزيد من صفعة المقارنة، سواء خروج الأطفال عن مقاعد الدراسة ونسب التسرب بمناطق المعارضة، أو حتى فشل المعارضة والدول المدعية بنصرة الثورة، من إيواء النازحين عن بيوتهم ومدننهم، بسبب الملاحقة أو التهديم أو السعي للعيش بمناطق الحرية والكرامة والعدالة.
إذ وحتى تاريخه، يبلغ عدد من يسكن في خيم قماشية، لا تقي ولا تحمي، مليونا و43 ألفا و869 نازحا، يعيشون ضمن 1293 مخيما، من بينها 282 مخيما عشوائيا أقيمت على أراض زراعية، ولا تحصل على أي دعم أو مساعدة إنسانية أممية.
نهاية القول: الأرجح، بمحاولة الإجابة عما انطلقنا منه ولأجله، ثمة مشيئة دولية معيقة لتطلع السوريين، ولتلك المشيئة دور لا يستهان به، بعدم بلوغ مناطق المعارضة الأنموذج المشتهى للسوريين، بيد أن ثمة أدواراً ومسؤوليات يتحملها القائمون والمسؤولون على الأرض، سواء بحكومة الإنقاذ في محافظة إدلب، أو الحكومة المؤقتة في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون “أرياف حلب”، إذ لم تزل “ذهنية الأسد” للأسف قائمة وتتمدد، سواء لجهة حسن استثمار وتوزيع الموارد، من معابر وثروات زراعية وغيرها، أو إيلاء المهام والمسؤوليات لمتخصصين تكنوقراط، أو حتى التبعية الخارجية والعمل وفق ما يمليه المموّل والراعي.
وإلا، تصور لو أن المعارضة السورية فعلتها، وخلقت بيئة جاذبة ومناخ عيش وعمل مؤات وحريات وقوانين، ليقارن السوريون وغيرهم، بين المناطق المحررة ومناطق سيطرة النظام اليوم التي تعيش شللاً تاماً في جل القطاعات، ونفاداً شبه مطلق لحوامل الطاقة والخدمات، فضلاً على بدء انهيار العملة بعد أن تعدى الدولار 6 آلاف ليرة… فماذا يمكن أن تكون النتائج وكيف ستنعكس مصداقية وأملاً على ثورة السوريين وتطلعاتهم.
---------
سوريا الامل