وقبل شهرين من إطلاق الفعاليات، أصدر معهد العالم العربي بباريس، بالاشتراك مع دار النشر الفرنسية "سوي"، ضمن السلسلة الدورية "أرابوراما"، كتابا جماعيا باللغة الفرنسية بعنوان "ما تقدمه فلسطين للعالم" ساهم فيه 50 مبدعا وكاتبا على غرار ليلى شهيد الكاتبة وسفيرة فلسطين السابقة لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم "اليونسكو"، وآلان غريش، الكاتب والصحفي الفرنسي والكاتب إلياس صنبر، والشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي.
والكتاب عبارة عن مجموعة من الدراسات الفكرية والبحوث الاجتماعية والمقالات الصحفية والقصائد الشعرية والصور والخرائط التوضيحية والرسومات الفنية واللوحات التشكيلية، لنخبة متميزة من المبدعين والباحثين العرب والأوروبيين.
وتتضمن الفعاليات عرض أكثر من 600 عمل فني، يبرز قضية فلسطين ويقدمها للعالم بصورة إبداعية مختلفة.
وتنقسم الأعمال الفنية المعروضة إلى ثلاثة أوجه من المتاحف: أعمال حديثة ومعاصرة من مجموعتي متحف فلسطين الوطني ومتحف معهد العالم العربي، ومجموعة افتراضية لمشروع متحف السحاب بقيادة مجموعة من الفنانين المقيمين في غزة. بالإضافة إلى ذلك تعرض أعمال مستقلة لفنانين من العالم العربي عن القضية الفلسطينية مثل أحمد نواش وضياء العزاوي.
وعلى مدى ستة أشهر سيقوم معهد العالم العربي بباريس بتنظيم 15 ندوة أدبية كبرى تتخللها مناقشات ثرية لنخبة من الباحثين والكتاب والفاعلين والمثقفين.
وقال السيد إلياس صنبر المشرف العام على المعرض، وسفير فلسطين الأسبق لدى "اليونسكو" في تصريح لوكالة الأنباء القطرية "قنا"،: إن رمزية وأهمية هذا المعرض تتجلى في كونه يعبر عن الشعب الفلسطيني الحي الذي له هاجس ثقافي مهم جدا، وعادة ما يهمل هذا الجانب الثقافي الإبداعي لصالح الجانب النضالي.
وأكد أن الشعب الفلسطيني له قناعة مطلقة أن الثقافة هي سلاح مقاومة فعال لنيل الحقوق والمساواة. وأن الهاجس الثقافي قديم جدا في فلسطين، منوها بأن معرض "ما تقدمه فلسطين للعالم" هو محاولة لتجاوز الثقافة كفكرة ورمز والمرور إلى العمل الفعلي الملموس من خلال أصوات سيسمعها ويشاهدها ويتعرف عليها الجمهور الزائر مثل صوت محمود درويش وقصائده والصور الفوتوغرافية والأمسيات الشعرية والموسيقية والتراث الفلسطيني الذي يعبر بصورة ملموسة عن الثقافة الحقيقية الحاضرة على مر التاريخ.
ولفت صنبر إلى أن الجمهور سيكون على موعد مع 15 ندوة أدبية تخوض كلها في مواضيع حول الأدب والثقافة الفلسطينية، فضلا عن عروض أفلام سينمائية ومسرحية، وحفلات موسيقية، لافتا إلى أن عنوان المعرض، فيه دعوة صريحة إلى الجمهور للحضور واكتشاف الصور النادرة جدا عن فلسطين التي تعود إلى القرن التاسع عشر وفن الفوتوغرافيا الحديثة والمنحوتات المتميزة واللوحات الفريدة التي تسافر بالزائرين إلى فلسطين العميقة الحقيقية.
وشدد سفير فلسطين الأسبق لدى اليونسكو، على أن الثقافة هي أحد الحصون الكبرى التي عول عليها الشعب الفلسطيني على مر تاريخه لتحقيق وجوده الفعلي وقاوم من خلالها لأنها سلاح ضد الغياب، مؤكدا في الوقت نفسه على ضرورة المحافظة على هذا السلاح الثقافي الحيوي الذي يحفظ الهوية الفلسطينية من الاندثار.
من جهتها قالت الدكتورة ماريون سليتين، المشرفة على المعرض، من جامعة مرسيليا، في تصريح مماثل لـ "قنا"، إنه من المهم جدا الحديث عن فلسطين في الذكرى 75 للنكبة، خاصة بالموازاة مع ما وقع في الفترة الأخيرة من عدوان سافر على غزة.
وأشارت إلى أن هذا المعرض والفعاليات هو من أجل إبراز الجانب الإبداعي للقضية الفلسطينية في بعده المستقبلي عبر الاستمرارية الثقافية لأصوات إبداعية شابة تقدم أفكارا جديدة للنضال الفني الثقافي.
ونوهت بأن النضال الثقافي مهم جدا على مدى تاريخ الفن الفلسطيني القديم والمعاصر أيضا، وباعتباره سلاح مقاومة حاضر بقوة في كل مراحل القضية.
وأضافت: نعلم أن النكبة مستمرة منذ أجيال وهي تعبر عن معاناة هذا الشعب المناضل، وفي الوقت نفسه هناك جانب مضيء لا يجب نسيانه وإغفاله وهو ما يمثل المستقبل حيث تتعدد أوجه الإبداع والخلق لمبدعين شباب في الداخل الفلسطيني وفي الشتات أيضا، وهذه الأصوات لابد من تسليط الضوء عليها والتعريف بما تقوم به من إبداعات وابتكارات.
وشددت على أنه من المهم اليوم بالنسبة للمبدعين الفلسطينيين إظهار صورة جديدة للنضال عبر الفن والإبداع.. وأيضا عبر حب الحياة وفن العيش رغم كل التناقضات والظلم والتشريد والممارسات اللإنسانية التي يمارسها الاحتلال.
وخلصت دكتورة أنثروبولوجيا الفنون المعاصرة في جامعة مرسيليا في ختام تصريحها، إلى أن الإبداع يعطي رسائل إيجابية للآخر وهو وسيلة تحد ومقاومة غير مباشرة ولكنها تحفر في آلة الزمن وتأثيراته القوية على وعي الإنسان المبدع والمتقبل على حد سواء. وبالتالي فإن الزائرين لمعرض "ما تقدمه فلسطين للعالم" ستنتابهم عدة أحاسيس متناقضة ومتداخلة ولكنها تشجع كلها على الحياة والأمل والتحدي والإيمان بعدالة القضية الفلسطينية وأهميتها.
بدوره، أكد إريك ديلبون مدير متحف الفن المعاصر في معهد العالم العربي بباريس في تصريحه لـ "قنا"، على أن ما يبعث على التفاؤل في هذه المعارض هو القدرة الكبيرة للمبدعين الفلسطينيين الشباب على تجاوز المحن والمضايقات والصعوبات اليومية التي يعيشونها في الأراضي المحتلة، وتجسيد كل ذلك في لوحات ومنحوتات وصور تعلي من قيمة الحياة اليومية وتتشبث بها بطريقة إبداعية عجيبة.
ونبه إلى أن المبدع الفلسطيني نجح إلى حد بعيد في تحنيط الألم والصعوبات والمآسي وتخزينها وتمريرها عبر الذاكرة وتحويلها إلى فن وإبداع وفرح وانطلاق لدرجة أنه استطاع أن ينسى بها واقعه اليومي المعقد ويحلق بعيدا في سماء الحرية والحياة وهذه هي قوة الإرادة والتحدي، وهي إحدى الرسائل الجوهرية لهذا المعرض والحدث الاستثنائي.
بالموازاة مع ذلك، يقام على هامش هذه الفعاليات، معرض "في حقائب جان جينيه: الفلسطينيون ساعدوني على العيش"، بالشراكة مع معهد ذاكرة النشر المعاصر (إيماك) المتخصص في حياة وأدب جان جينيه.
ويكشف هذا المعرض من خلال مجموعة من الوثائق النادرة غير المنشورة التي جمعها جينيه في حقيبتين ظلتا تصاحبانه في كل رحلته الفلسطينية، عن العلاقة الاستثنائية والكبيرة التي جمعت هذا الكاتب العالمي بالقضية الفلسطينية في كثير من أحداثها التاريخية المفصلية.
وتتعلق هذه المستندات والمخطوطات بالقضية التي دعمها جينيه، ويشهد الكثير منها على التزامه تجاه الفلسطينيين منذ سبعينيات القرن الماضي.
وقبل خمسة عشر يوما من وفاته، في شهر أبريل من العام 1986، سلم جان جينيه لمحاميه رولان دوما هاتين الحقيبتين بكل ما فيهما من مخطوطات ووثائق نادرة.
ويلقي معرض حقائب جان جينيه، بتصميم ألبرت ديشي الضوء على المسار السري لهذه المخطوطات والوثائق التي ظلـت مجهولة تماما حتى الآن.
كما تعرض أيضا إلى جانب الحقيبتين أغلفة مجموعة من أعداد مجلة الدراسات الفلسطينية التي ساهم فيها جان جينيه، وتولى رسم لوحاتها فنانون مشهورون مثل ألبرتو جياكوميتي وإيتيل عدنان وكمال بالطة وضياء العزاوي.
من جانبه أشار ألبرت ديشي المشرف على معرض "في حقائب جان جينيه..."، والمدير الأدبي لمعهد ذاكرة النشر المعاصر "إيماك" المتخصص في جان جينيه، في تصريحه لوكالة الأنباء القطرية "قنا"، إلى أن علاقة جان جينيه قوية جدا بالقضية الفلسطينية وهي علاقة أكثر من إنسانية، لأنه قضى فترة طويلة من حياته مع المقاومين واللاجئين وساندهم وأحبهم وكتب عنهم بإحساس وصدق.
وشدد على أن أهمية الوثائق المعروضة، تكمن في كونها لا أحد اطلع عليها من قبل ومعهد العالم العربي بباريس يعرضها لأول مرة للعموم.
وعرج على أن قصة هاتين الحقيبتين فريدة وجميلة وتعطي قيمة مضافة للمعرض، حيث سلمهما جينيه قبل 15 يوما من وفاته لمحاميه رولان دوما وبقيت الحقيبتان لمدة 34 عاما عند المحامي قبل أن يهديهما ويسلمهما إلى معهد ذاكرة النشر المعاصر "ايماك" المتخصص في حياة وأدب جان جينيه.
جدير بالذكر أن معهد العالم العربي بباريس، الذي تأسس سنة 1980 في عهد الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، مؤسسة فرنسية تعنى بالشأن الثقافي، وتستقبل ضمن أنشطتها المتواصلة على طول العام، الكتاب والمفكرين والفنانين من كل أنحاء العالم العربي والأوروبي لعرض أفكارهم وإبداعاتهم.
ويعد المعهد أهم مؤسسة للثقافة العربية الإسلامية في فرنسا وأوروبا، ويسعى هذا المعلم الثقافي الذي تبلغ ميزانيته 30 مليون يورو، إلى تطوير دراسة العالم العربي في فرنسا وتعميق فهم حضارته وثقافته وتشجيع التبادل الثقافي معه.