ممدوح عدوان قارئاً ومبدعاً
يمثل الكتاب جزءاً أصيلاً من نشاط ممدوح عدوان النقدي التأويلي، الذي اشتُهر به في كتاباته عن الأدب العالمي وظواهره وشخصياته الشهيرة.. والطريقة التي كان يستنبط بها الأفكار الجديدة من إعادة تحليل تلك الأعمال كي تحاكي ظواهر حياتنا وتفسر شيئاً من تراجيديا الواقع الذي نحياه. لقد ظل ممدوح عدوان حتى في المسلسلات التلفزيونية التي أعدّها أو اقتبسها من روايات عالمية، منذ اقتبس رواية (اللؤلؤة) لجون شتاينبك في تمثيلية تلفزيونية حملت اسم (التمثال) وأنتجها التلفزيون السوري عام 1978 وحتى اقتباساته الشهيرة عن روايات أجاثا كريستي في مسلسلي (اختفاء رجل) و(جريمة في الذاكرة) وهنري تروايا في مسلسل (شبكة العنكبوت) (2)، مشغولاً بقراءة الأدب العالمي من منظور يحاكي في جوهره النقدي أزمة الإنسان التراجيدية، ويسعي لملامسة الواقع السوري أو العربي، قافزاً فوق حواجز الاختلاف البيئي والثقافي، ومتجاوزاً تباين الزمان والمكان.وفي هذا السياق يحوّل ممدوح عدوان – ومنذ عنوان الكتاب - دون كيشوت الذي أبدعه الروائي الإسباني (ميغيل سرفانتس) في القرن السادس عشر، ساخراً من بطولاته الوهمية ومغامراته الفروسية المُسلّية هو وتابعه سانشو، إلى صورة لنا نحن.. انطلاقاً من الهامش الواسع الذي تمنحه القراءة للقارئ في إعادة تشكيل الأثر الأدبي، وتخيّل شخصياته، وفهم مقولاته، وهضم مناخاته وأفكاره ورسائله.. ولعل هذا الهامش هو الذي ينطلق منه ممدوح عدوان أساساً في نقده التحليلي والتأويلي.. هامش القارئ المبدع الخلّاق، الذي يملك أدوات نقدية وخيالاً واسعاً يعيد من خلاله تشكيل صورة سرفانتس باعتباره تعبيراً عنا: (نحن.. دون كيشوت).
دون كيشوت المشهور المجهول!
ولعل النص المختار على غلاف الكتاب الأخير يوضح تماماً هذا المسلك، إذ يقول ممدوح عدون فيه:
" لم يعد من الضروري الوقوف عند الصورة التي كتبها سرفانتس. هناك فرق كبير بين دون كيشوت الذي كتبه لكي يسخر منه، أو لأي هدف آخر، وبين دون كيشوت الذي صار ملكنا، وحملناه في مخيلتنا، وأخضعناه لتصوراتنا، وصرنا أحراراً في أن نعيد صنعه وصياغته كما نشاء. ويمكننا القول إن لكل منا دون كيشوته الخاص به سواء كان قد قرأ الرواية أم لم يقرأها، وسواء اعتمد على الصورة التي في الكتاب أم لم يعتمد. وسواء اعتمد على تفسيره الخاص لما في الكتاب، أم أسقط على الكتاب ما يريده. إن الوجوه المتعددة التي لشخصية مثل دون كيشوت تمنحنا الحرية والشجاعة للتعبير عن رؤيتنا الخاصة به. وبالتالي فإن كلاً منا قادر على أن يتحدث عن دون كيشوت الذي رآه في الكتاب، أو دون كيشوت الذي يربّيه هو في مخيلته الرمزية والإبداعية".
بل أكثر من ذلك.. يعترف ممدوح عدوان أن الناس فيما تتداوله من معلومات عن الأشياء أو الأعمال الشهيرة جداً، تكاد تكون لم تقرأها البتة وهذا – على سطحيته – يساعد كلاً منا في تكوين تصور خاص عن دون كيشوت أو سواه.. فهو يقول ص (35):
"هناك رأي يقول إن الأكثر شهرة هو مجهول أكثر. وهذا يعني أن المشهور جداً تطغى الصورة التقليدية المشهورة عنه، فلا يُعرف بعدها شيء عن خصوصياته. وللعبارة معنى أكثر دقة وأهمية وهو أن المشهور جداً يتناقل عنه الناس شهرته وأسطورته، ولكنهم لا يقرؤون حقيقته إذا كان كاتباً ولا يرون لوحاته إذا كان رساماً، ولا يسمعون موسيقاه إذا كان موسيقياً. وبالتالي لا يعرفونه معرفة حقيقية".
ثم يضيف: "ما أقوله لا يدخل في باب نقد الناس لعدم قراءتهم لدون كيشوت التي كتبها سرفانتس، فحتى بين الذين قرؤوا الكتاب هناك تصورات لدون كيشوت بعدد القراء الذين قرؤوه وتصورات له بعدد الناس الذين يرددون اسمه".
وعلى هذا الأساس، يرى ممدوح عدوان أيضاً أن "دون كيشوت موجود في كل مكان، وموجود في كل منا". ومن أجل البرهنة على هذه الرؤيا.. يبدأ في فصول هذا الكتاب الذي ولدت نواته الأولى على شكل محاضرة ألقاها في المركز الثقافي الإسباني عام 1997 في تحليل الموقف الدونكيشوتي من الحياة والرؤية الدونكيشوتية هي تلك التي لا تعطي صاحبها الفرصة للتراجع. لا بد من الوقفة التي تبدو انتحارية أو جنونية. فالتراجع للبحث عن فرصة جديدة يعني التغاضي عن الانهيار الذي حدث للبشر وللقيم. ويعني كأن المرء يتغاضى عن التردي. إنه نوع من معاقبة النفس لإحياء ضمائر الآخرين".
من هو دون كيشوت؟
لكن صورة دون كيشوت المأخوذ مبدئياً من رواية سرفانتس، تبقى مهمة لكي نقارب كل الصور الأخرى التي يحاول ممدوح عدوان مقارنتها وتحليل سمات تشابهها واختلافها، علّه يعثر على صورة دون كيشوت الذي يشبهنا ويعبّر عنا نحن. فمن هو دون كيشوت إذن؟ كما يسأل ممدوح عدوان ويجيب في الفصل الخامس من الكتاب:
- أهو الخارج لنصرة المظلومين كما يحب أن يرى نفسه، وكما صار كثيرون يرونه؟
- أم هو الذي تعبّأ بالأوهام فصار أضحوكة؟
- صاحب البطولات المضحكة ضد الأعداء الوهميين.. الذي يخترع الأعداء لكي يخترع البطولات والانتصارات؟
- أهو تجسيد للمثال وللقيم المجرّدة – كما يقول عبد الرحمن بدوي – إنه الجانب المثالي من الوجود الذي يصرعه الجانب الواقعي. إنه يمثل روح الإنسان أما رفيقه سانشو فيمثّل بدن الإنسان.
ويقدم ممدوح عدوان جوابه عن كل هذه التساؤلات التي يقطع من أجلها مشواراً طويلاً من تقصّي صورة دون كيشوت في أعمال ومسرحيات وروايات أخرى، يقدم جوابه في سياق تحليله للموقف الدون كيشوتي فيقول:
" إن هذا الرجل يشعّ بقوة داخلية حارقة. إنها قوة روحه. قوة اعتراضه على الحياة المحيطة به، واستعداده لمجابهة الخطأ مجابهة خاسرة حتماً؛ لأن القوى فيها غير متكافئة ولكن المجابهة لا بد منها. فالخطأ الذي تغرق فيه الدنيا أبشع من أن يُسكَت عنه، وإن يكن أقوى من أن يُجابه" ص (63).
استشهاد الحسين: قلوبهم معك وسيوفهم عليك!
ولعل الأكثر إثارة في سياق هذا التحليل هو النماذج التي يسعى ممدوح عدوان لتحليلها سواء في الأدب السوري في ضوء تطبيق "الموقف الدون كيشوتي عليها" أو في التراث.. سواء قصة أبو علي شاهين في بيئة الساحل السوري، التي كتب عنها ممدوح مسرحيته الشعرية (المخاض) وكتب عنها حيدر حيدر رواية (الفهد) (3) أو النموذجان الدونكيشوتيان اللذان كُتِب عنهما من التراث وهما أبو ذر الغفاري الذي كتب عنه مسرحيته (كيف تركت السيف) والحسين بن علي بن أبي طالب (حفيد رسول الله).. وفي هذا السياق يحلل الموقف الدون كيشوتي لاستشهاد الحسين بالقول:
"لقد أُرسل إلى الحسين لكي يأتي إلى العراق من أجل القيام معه ضد الحكم الأموي. وسار وهو يحمل مشروعه وشعوره بحقه، ولكنه في الطريق راح يدرك تدريجياً أن كل شيء قد انتهى. تخلّى الناس عنه خوفاً أو طمعاً أو تزلّفاً، وصارت قلوب الناس معك وسيوفهم عليك. بغتة صار وحده. إن انفضاض الناس في لحظة كهذه هو سقوط قيمي من وجهة نظره، أكثر مما هو هزيمة لمشروعه (ما يراه حقاً له في الخلافة). وفاجعته لا تقف عند فشل المشروع، بل في الانهيار الإنساني والقيمي عند من يتألبون عليه، ومن يخاذلون عنه، ومن كذبوا عليه وتخلوا عنه." ص (88)
بالمحصلة يختزل ممدوح عدوان الموقف الدون كيشوتي في جوهره بالموقف (المُحق اليائس) لكنه يقول موضحاً في سياق تحليل له:
" ليس الموقف اليائس إذاً، موقفاً غبياً. بل قد يكون من المُخزي السكوت على كل هذا الخطأ في العالم بحجة انتظار الظروف الملائمة للتصدي له. هذه الظروف التي قد لا تأتي. وقد يعجل توفرها وجود عدد من الدونكيشوتات الذين يضحّون بلا حساب. ونستطيع أن نقول بصورة عامة، لا بد من وجود وقفة دونكيشوتية دائماً كيلا يموت الشرف في الحياة ذاتها" ص (94).
الموقف الدون كيشوتي في أدب ممدوح عدوان
يلحق ممدوح عدوان هذا النص البحثي بقصيدة له بعنوان (دون كيشوت) يقول إنها أطول قصائد شعره، وإنه كتبها من وحي مشاهدته لتمثال دون كيشوت المشغول من الخيزران الذي شاهده عندما زار كوبا عام 1984.. لكن كتاب ممدوح عدوان الذي يبدو نصاً عن دون كيشوت سرفانتس ومن تأثروا به من الأدباء الآخرين، يضيء لنا أدب ممدوح عدوان نفسه.. فإشاراته إلى جملة أعماله (المخاض/ لماذا تركت السيف / الأبتر) وإلى قصيدته التي يلحقها ببحثه آخر الكتاب، تكشف أن جوهر الموقف الدونكيشوتي شكّل عاملاً مشتركاً بين جملة أعمال أدبية كتبها ممدوح في المسرح والشعر والرواية أو القصة الطويلة.. وكأنه كان يتبرّع ليساعد النقاد المُهلمين، على قراءة أدبه من وجهة نظر غابت عنهم أو تُركت في زوايا الإهمال.
كتاب ممدوح عدوان (نحن.. دون كيشوت) هو بشكل من الأشكال صورة عن عصر ثقافي مضى. عصر كانت تزدهر فيه هذه المحاورات والمحاضرات، وتولد فيه مثل هذه الكتب الارتجالية المخطط، التي تبدأ من نواة صغيرة ثم تتوسع وتكبر حتى تغدو كتاباً متفجراً بالأسئلة والمقارنات والمقاربات.. ولعل أجمل رثاء لذلك العصر الذي تم تدميره رغم أنه لم يكن ينعم بالحرية والديمقراطية الحقيقية، لكنه يحفل بالجدية في طرح الأفكار واكتشاف الرؤى، هذا القبس من قصيدة ممدوح عدوان الدون كيشوتية:
إن كانوا نجحوا في تحويل الإنسان إلى حيوان
فلماذا لا ننجح في إرجاع الحيوان إلى إنسان
هوامش:
(1) صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عن دار قدمس عام 2002
(2) أخرج هذه المسلسلات المخرج مأمون البني وأنتجت في فترة التسعينات من القرن العشرين.
(3) يرى كثيرون أن أسطورة (أبو علي شاهين) الشعبية في الساحل السوري ما هي إلا صورة محوّرة لقصة سليمان المرشد حيث تتطابق أحداث سيرته ومواجهاته مع الدرك، مع مجريات حياة وموت سليمان المرشد تماماً.