كانت، بالنسبة لي، في الأقل، مفاجأة جميلة.
وللقصة… قصة، لا تقل طرافة. كان ذلك في ليلة بغداية من ليالي الشتاء المجنون، لم تنقطع فيه الأمطار والعواصف الرعدية منذ الصباح، مما يبعث الشك على إمكان الخروج مع أستاذي، وصديق العمر، جبرا، لنتجول في شارع 14 رمضان، في العصاري، نتصيد الطماطم والخضار، والبيض، إن أمكن، في تلك الأيام في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، التي كنا نسميها «أيام السَغَبة» يوم كانت المواد الغذائية، في الغالب، «استيراد حكومي»، لا تدوم في الدكاكين طويلا، والسعيد من يظفر بخضار أو فاكهة غير تالفة، إذا بكّر في الصباح إلى مراكز التسويق الحكومية، أو حصل على شيء من ذلك «بوساطة صديق» شاركه في ما اصطاد، صباحاً.
كانت تلك الليلة تفرض البقاء في الدار، وعدم الخروج إلى الشوارع التي تفيض بمياه الامطار. والهاتف هو واسطة التواصل الوحيدة مع «العالم الخارجي» وعالم الأصدقاء بشكل خاص.
رنَّ الهاتف في أول تلك الليلة، وتوقّعتُ ان يكون المتكلم رَهين المحبِسَين: الدار والأمطار، رفيق التجوال في العصاري. راحت علينا؟ لا تجوال اليوم؟ ولكن عندي سؤال أريدك ان تفكر فيه وتجيبني في أقرب فرصة: هل لديك عِلم باثنين من الكتّاب اشتركا في تأليف رواية واحدة؟
أنت أستاذي، وتسأل تلميذك؟
أريدك ان تشحذ ذاكرتك فالأمر قد يروقك.
قلتُ على الفور: أنا أعلم، كما أنت تعلم، أن شكسبير، كما يقال، قد اشترك مع مؤلف مسرحي، أو اكثر، في تأليف اثنتين من المسرحيات، إضافة إلى الست والثلاثين أو السبع والثلاثين المعروفة. فبين 1612 ـ 1613 تاريخ انسحابه من عالم المسرح، ثمة مسرحيتان اشترك في تاليفهما معه اثنان أو أكثر من معاصريه، وهذه موضع شك وجدل بين الباحثين. ولكن في الرواية، لا علم لي بمن ألّف بالاشتراك مع غيره. ما قصدك من السؤال؟
قال: اتفقت مع الدكتور عبد الرحمن منيف أن نكتب رواية بالاشتراك. أكتب أنا بعض الصفحات، وأعطيها اليك أولاً لتقرأها و تعطيني رأيك، فتكون قارئي الأول، قبل أن أقدمها إلى الدكتور منيف، ليكمل، أو يزيد، أو، أو يعدل أو يضيف، وتعود الصفحات إلي ّ، بعد مرورها بك، لنواصل العملية/المؤامرة.
راقني هذا التحدّي. فواصلتُ الاشتراك بتلك المؤامرة الأدبية العجيبة، وصرنا نتحدث عنها في العصاري أثناء التجوال في شارع 14 رمضان، أو في شارع الأميرات بالمنصور، قرب داره، إذا كانت شِباك صيدنا في شارع 14 رمضان قد عادت الينا بخفي «حَسَنين» إذ لم يعد هناك من حُنين، ولا غيره، ونضحك كثيراً على ما آلت اليه الأمور، وعلى مشاغلنا الجديدة.
استمرت هذه الأنشطة، على تقطع إلى أن غادرتُ بغداد وجامعتها أوائل عام 1981، وبقيتُ أتابع تطور رواية عنوانها "عالم بلا خرائط"، وكانت طبعتها الأولى في بيروت 1982، عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ثم ظهرت طبعة مصوَّرة ببغداد عام 1983...
والذين يعرفون الكاتبين الاثنين معرفة شخصية، كما أعرفهما، أو من قرأ بعمق أعمال الاثنين، يجد نفسه في متاهة كبرى إذا حاول أن يستجلي مكان وزمان وقوع الأحداث، على الرغم من إشارات إلى سنوات بعينها، مثل 1948، 1967، 1973. ومدينة «عمورية» هذه المدينة المعروفة في شعر المتنبي، المجهولة الوجود خارج خيال المؤلف، أو كليهما، هل هي في منطقة ما شمال بلاد الشام، قريبة من البحر، كما نفهم من كثير من الأوصاف، أم أنها مدينة متخيلة بأجواء من بلاد السعودية، التي قد توحي أحياناً بأسلوب الدكتور عبد الرحمن منيف ومعرفته المفصلة بالبلاد السعودية، التي جعلتها روايته «مدن الملح» حقيقة شاخصة ملموسة. لكن هنا كذلك يختلط الأسلوبان، فنتساءل دون أمل بجواب: من المتكلم هنا؟ العارف بالمجتمع السعودي في العهد العثماني أم العارف بالموسيقى الكلاسيكية وفنون الرسم والنحت الأستاذ في معهد الفنون الجميلة بالجامعة؟ وهل ثمة معهد فنون جميلة في "عمورية" السعودية العثمانية؟."
-------
[ العراق ]
-------
[ العراق ]
-