واتخذت القيادة الروسية قراراً بالحفاظ على نظام الأسد الشمولي الوحشي لتصورها الخاطئ بأن نظام عائلة الأسد هو الذي سيحمي مصالحها في سوريا ولكن الحقائق والوقائع تؤكد بأن بشار الأسد لا يستطيع ضمان نفسه وعائلته لولا تدخل إيران الملالي وأتباعها من الميليشيات الطائفية الداعشية ومعهم روسيا بطائراتها الحديثة.
لقد استخدمت موسكو مرتزقة فاغنر المتوحشين الذين جاؤوا لتنفيذ أجندات الجنرالات والسياسيين الروس، وكذلك لحماية مصالح رجال الأعمال الروس الذين يستثمرون في حقول النفط والغاز والفوسفات.
وطبعا اعتقدت موسكو أنها ستنهي مهمتها العسكرية في سوريا خلال ثلاثة أشهر، لكنها مازالت في سوريا بعد سبع سنوات وتنوي البقاء لخمسين سنة أخرى. والمعيب في الأمر أن داعش لم تختف من سوريا، التي تعيش وضعاً اقتصادياً وإنسانياً كارثياً ومازال طاغية دمشق مدعوماً من إيران وروسيا يجلس في دمشق على قلوب السوريين ويقود أكبر تجارة مخدرات في المنطقة.
ماذا جنت موسكو من تدخلها العسكري في سوريا؟
طبعا أنشأت قاعدتين عسكريتين واحدة جوية في حميميم والثانية بحرية في طرطوس ووقعت عقوداً مهينة بحق سيادة سوريا مع حكومة الأسد لمدة خمسين عاماً. كما قامت روسيا بتدريب أكثر من ستين ألف عسكري روسي وجربت أكثر من ثلاثمئة صنف جديد من الأسلحة على الأرض السورية ولم تفرق قنابلها وصواريخها بين الأطفال والنساء والشيوخ عن المسلحين. وهنا أذكر بتصريح الوزير لافروف في مؤتمره الصحفي في أروقة الأمم المتحدة حيث قال: إن الغرب يستخدم أوكرانيا كساحة لتجريب أسلحتها ونسي ماذا فعلت قوات بلاده في سوريا.
وصحيح أن موسكو تستخدم قاعدة حميميم للانطلاق إلى دول أفريقيا وشمال أفريقيا في مهمات نقل أسلحة ومرتزقة روس وحتى سوريين.
وصحيح أن روسيا استفادت من مفاوضات أستانا المشؤومة لتمرير خططها في استرجاع أراضي واسعة لسيطرة الأسد، بمساعدة تركيا وإيران. وكذلك استطاعت فصل موضوع اللجنة الدستورية عن المحاور الأربعة حسب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 وأولها تأسيس هيئة حكم انتقالية. ثم أدخلت روسيا العالم في دوامة من المماطلات وبيع الوهم لمدة أربعة أعوام تقريباً حول اللجنة الدستورية. واليوم تريد موسكو نقل المفاوضات إلى دمشق لتحقق أهم أهدافها وهو إجراء تغيرات شكلية جداً في نظام الأسد للحفاظ عليه وعلى أجهزة مخابراته القذرة بعد أن تجري توليفة سياسية تخدع فيها العالم مرة أخرى بأن الأسد طبق القرارات الدولية. بينما المعاناة الكارثية للشعب السوري ستتوسع وتتعمق، وسيحكم سوريا مجموعة من الشبيحة المتعطشين للقمع والنهب وإهانة السوريين.
موسكو مازالت تعاني من عدم الاستقرار في سوريا، فبدونه لا يمكنها الاستفادة من وجودها جيوسياسياً واقتصادياً وعسكرياً. ولا يمكن تحقيق الاستقرار بوجود الطاغية المريض نفسياً الذي يبتز روسيا وإيران معاً ويستثمر في دعمهما له. لأنه يعتقد بأن موسكو محتاجة له أكثر من حاجته لها. لدرجة أنه اعتبر النصر العسكري الروسي على المعارضة المسلحة انتصاره الشخصي، بينما قالها لافروف صراحة لولا دعمنا لسقطت دمشق.
عندما أتحدث عن موسكو فإنني لا أبرئ الولايات المتحدة ولا الدول الإقليمية وخاصة التي أجرمت بحق الشعب السوري كنظام الملالي في طهران الذي أسس ميليشيات طائفية تساهم في خلق الفوضى وعدم الاستقرار في أربع دول عربية هي العراق وسوريا واليمن ولبنان وتتحكم بحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي في غزة.
ويبدو بشكل شبه مؤكد أن كل التدخل العسكري الروسي لم يكن لولا ضوء أخضر أمريكي، لأنهما يتفقان في حماية أمن الكيان الصهيوني. بينما هما في حالة عداء شديد في الساحة الأوكرانية لاختلاف الأولويات والأجندات الجيوسياسية.
أكثر من إحدى عشرة سنة مضت على انطلاقة الثورة السورية، ولم تقدم أمريكا ولا روسيا حلاً للأزمة السورية وهذا دليل على أن مصلحتهما لا تتقاطع مع مصلحة الشعب السوري، بل هما وغيرهما من الدول والقوى يخوضون صراعات جيوسياسية على الأرض السورية وعلى حساب الدم السوري.
يبدو أن روسيا متورطة في سوريا تماماً، كما هي متورطة في أوكرانيا وفي ملفات خارجية أخرى. وإيران متورطة في ملفات خارجية عديدة بينما وضعها الداخلي هش ويذكرنا بالاتحاد السوفييتي. ويرى بعض الخبراء الروس أن روسيا من الأفضل لو أنها لم تتدخل في سوريا وليبيا وأفريقيا وأوكرانيا كما فعل الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، حيث صرف حينها عشرات المليارات من الدولارات على مشاريعه الأيديولوجية والجيوسياسية وفي النهاية تفكك الاتحاد السوفييتي الذي كان يعتبر الدولة العظمى الثانية في العالم، بينما كان الشعب السوفييتي يعيش حالة التقشف، واليوم تتوسع روسيا وتتوسع إيران بينما يعيش الناس في البلدين حياة فقر وتقشف وينتشر الفساد في الداخل وتصرف الدولة المليارات على مشاريعها في الخارج.
روسيا تخسر أصدقاءها يوماً بعد يوم. واعتقد أن الحديث لا يخص فقط الدول الكبرى مثل الهند والصين وكازاخستان، بل يخص نظام الأسد الذي خدمته موسكو وساعدته على البقاء حياً، ومع ذلك نجد الأسد يكشر بين وقت وآخر عن أسنانه تجاه موسكو، ويتخذ مواقف معاكسة تماماً للسياسة الروسية. وماذا سيكون سلوك الأسد لو انه انتهى من الأزمة السورية؟.
من المؤكد أنه سيتجه إلى التعاون مع الغرب، وسينسى حليفته روسيا التي تعاني هي الأخرى من عقوبات غربية وحصار شديد وهي غير قادرة على تقديم أي مساعدة لسوريا في مرحلة إعادة الإعمار بل هي تنتظر الاستثمارات وتشغيل الشركات الروسية في سوريا.
متى ستستخلص موسكو الدروس من دعمها لنظام الأسد المجرم الفاسد؟
ومتى ستتذكر موسكو أن في سوريا يعيش شعب سوري له تاريخ حضاري وثقافي وديني وإنساني عريق جداً يمتد إلى آلاف السنين ومن حقه العيش في ظل دولة القانون وأن تتوفر الفرص للشعب لكي يعيش بحرية ويبدع ويساهم في الحضارة الإنسانية كما فعل الأجداد على الأرض السورية.
لا يمكن للأنظمة الشمولية الديكتاتورية أن تُخلّد، بل عمرها محدود مهما تفرعنت وبطشت بالناس.
والشعوب مثلما لن تنسى من وقف معها وأيد مطالبها المشروعة، لن تنسى أيضاً من وقف ضدها وساعد جلاديها.
وبعد سبع سنوات عجاف من التدخل الروسي، جلبت القلق وانعدام الأمن والكارثة الاقتصادية والإنسانية، مازال لدى موسكو فرصة لتصحيح موقفها في سوريا. فهل ستفعل؟ على الأقل على ضوء التحديات الكبيرة التي تجابهها في أوكرانيا، التي أدخلت روسيا في معركة جيوسياسية مع الناتو والغرب بمجمله، وستستمر حرب الاستنزاف بالنسبة للشعبين الروسي والأوكراني بالرغم من الروابط العرقية والدينية والتاريخية والثقافية التي تجمعهما.
سوريا.. وطننا الجميل، حوّلَه الطغاة والغزاة والبغاة إلى بلد فاشل وجريح، وتم تشريد شعبه إلى كل أصقاع الأرض، ضمن حملة تغيير ديموغرافي ضد أغلبية الشعب السوري بمساهمة وتواطؤ من العالم.
وأكرر الدعوة للسوريين الأحرار لأن يجتمعوا على كلمة واحدة، فقوتنا في توحدنا تحت سقف سوريا الوطنية الموحدة أرضاً وشعباً، مع احترام تنوع الآراء والانتماءات.
واجبنا المقدس، كأحزاب سياسية وقوى ونخب وشخصيات وطنية ديمقراطية تجاه شعبنا وبلادنا العزيزة على قلوبنا، أن نتخذ خطوة عملية جماعية على طريق إنشاء جسم سياسي وطني مستقل، يخرجنا من عنق الزجاجة التي وضعنا فيها النظام والمتدخلون من الخارج من دول وقوى مسلحة إرهابية، والمعارضات الرسمية الهزيلة.
الرحمة لأرواح شهداء الحرية والكرامة.. وعاشت سوريا دولة مواطنة وعدالة لكل السوريين.
---------
سوريا المستقبل