هدى النعيمي حاصلة على ماجستير في الفيزياء النووية ودكتوراه في الفيزياء الحيوية الطبية ـ جامعة القاهرة ـ وعضو المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث في قطر.
التقيتها بدمشق مشاركة في ملتقى الأديبات العربيات، وهنا حوار حول تجربتها الابداعية.
ہ ماالذي حفزك على كتابة القصة وأنت في رحاب عالم الفيزياء النووية والحيوية؟ وهل تذكرين قصتك الأولى؟
ہہ الكتابة الابداعية في أي شكل من أشكالها وبأي صورة كانت لم تأت بقرار مسبق، ولم تنزلق على الورق لأن الارادة العقلية سبقت إلى ذلك، ولكن محرك ماخفي ذو صوت ساحر يحرك الأصابع لتولد القصة أو لتكون القصيدة، من هنا كانت بدايتي بذلك الصوت الخفي الساحر. فلم أقرر الكتابة ولم أعرف أن سطوري شيء من عالم الابداع، كل ما وعيته مع تلك البدايات هو الرغبة في الحديث مع الورق، وكان القلم ذاك الوسيط الجميل المطواع فلم يرفض كتابتي، فأعطيته من وقتي ومن نبضي وأعطاني من أحباره ماصار اليوم في مصاف الابداع. أتمنى الآن لو أتذكر ماهي القصة الأولى التي كتبتها، لكنني وبشدة أذكر شجرة ظليلة وافرة كانت في فناء المدرسة وكانت بيتي حين تهرع القرينات إلى اللعب والفسحة، كانت الشجرة بيتي وكنت أعشقها كوطن، وهي الخميلة جمعت وريقات وكنت أخط عليها أشكالاً ما وبداخلها أيضاً جمعت أوراقاً من أشجار برية كانت تنمو خلف الفناء، كانت تجف أمامي فكنت أرقب صلابتها في الجفاف ونعومتها عند الحياة تلك الشجرة اجتزت بفعل المزارع الذي يرعى الشجيرات المدرسية وكان ثمةحزن في نفسي الصغيرة ـ التي كنتها ـ في ضياع وطن صغير. ذاك المشهد والحزن والوطن الذي انتهى بفعل مزارع لايعلم اعتمل بداخلي ولم أفق منه حتى كتبته أقصوصة أودعتها الأدراج. لاأذكر إن كانت تلك قصتي الأولى، لكن عاطفتي نحو الشجرة كانت محركاً فذاً لاأنساه.
ہ متى فكرت في اصدار قصصك التي ملأت الأدراج في كتاب!؟
ہہ كان ذلك خلال مرحلة دراسة الدكتوراه في القاهرة وقد سبقتها سنوات في تلك المدينة المستفزة لم تخصص بالنسبة لي للعلوم الاكاديمية فقط ولكن الدرس كان في كل مكان ـ خلال تلك السنوات عرفت عدداً من أدباء مصريين وعرب وعدداً أكثر ممن يتماهى مع الآداب وفنونها فكانت الشرارة/ الفكرة لماذا لاأعلن أنني عاشقة للقلم وهل في ذلك خجل؟! وكان جوابي على الذات أن أعلني وقد كان أن جئت ببعض تلك الأقاصيص لرفاق يرتادون الندوات الأدبية، والمؤتمرات الثقافية مثلي، وكانت المفاجآت الصغيرة الحلوة تأتي كلمات هؤلاء الرفاق تشجيعاً للنحو نحو النشر بشكل مجموعة قصصية. والفكرة راقت رغم الخوف من خوض ذاك الغمار إلا أنني انتقيت من الأوراق الساكنة في أدراجي مجموعة شعرت بأنها الأقرب وكانت قصة الشجرة الوطن من بينها.. اثنتا عشرة قصة كانت بيدي ذات يوم أذكره وأعيه تماماً، يوماً صيفياً طويلاً وأعباء جامعية وأخرى منوعة كانت على كتفي والأوراق بيدي تنام في ملف أخضر اللون بانتظار أن أزور الناشر الذي فكرت أن يكون ناشري الأول.. كان يوماً طويلاً قفزت فيه من موقع إلى موقع من مؤسسة إلى مؤسسة من زيارة إلى أخرى ولم يكن بين تلك الزيارات والمواقع الناشر الذي نويت زيارته، وحين عدت إلى غرفتي مساء لم يكن بين يدي الملف الأخضر وأقاصيصه الاثنتا عشرة، في خضم ذاك النهار القاهري الطويل ضاعت مجمو عتي الأولى ولم أكن أمتلك نسخاً من الأقاصيص ولم يكن من وسيلة لإعادة امتلاك لحظات إبداعية كتلك الاثنتي عشرة. فما كان مني إلا أن هادنت القدر في قراره بأنه لم يحن الأوان بعد لأن أخاطب القارئ كمبدعة قلت لنفسي لاتزال تجربتي تحتاج إلى البقاء تحت الخميلة إلى إشعار آخر وكان ذلك بعدها بعامين.
في مجموعة المكحلة كان حضور الرجل خفياً بين السطور بينما طغت حالات النساء ببوحهن أو حالاتهن بغض النظر عن أعمارهن.. هل أردت إيصال الأصوات الساكتة إلى العلن أم التعريف عن أحوالهن فنياً من خلال القص؟!
نعم، ربما كان ذلك في الأقاصيص الأولى التي كانت صوتاً ليس مبحوحاً لامرأة تطلب الكلام، نعم لم يكن حضور الرجل قوياً في تلك لكنه الموجود لأنه المتكئ لتلك المرأة صاحبة الصوت وربما تحاول الابتعاد عن الاتكاء على الرجل وربما حاولت أن يعلو صوتها على صوت الآخر، أقول ربما فهي مهمة الناقد أن يقول ذلك أولا يقوله، ولكن ماأعرفه أن تجربتي الحياتية لتلك المرحلة تجربة متواضعة تحاكي المرأة وشؤونها وقضاياها وتحلم أن القادم يكون أحلى لوصار الصوت مسموعاً أعتقد أن التجربة الحياتية وثراءها هو السر وراء ثراء الكلمة واحتوائها بالمعنى وحضور الآخر/ الآخرين بها بوعي من الكاتب وقد امتلك كامل أدواته أو شبه الكامل من تلك الأدوات.. لاأستغرب لو كانت قصصي في المجموعة الأولى تعبر عن امرأة لاتشير إلى رجل بعينه لكنها تصور الحياة والمجتمع رجلاً ضخماً تحتاج إلى حمايته وفي الوقت ذاته تكثف المحاولات للخلاص من قبضته، مجموعتي الأولى عنونتها المكحلة وهي أداة زينة للمرأة بشكل خاص كما يعلم الجميع ولكن بالموروث الشعبي لدينا حكاية شعبية لفتى وأخته تختطفهما الساحرة، وعندما يهربان تلحق بهما فيطلب الفتى من أخته الجميلة أن تتكحل ثم تنظر هل تراها.. ترى الساحرة في إثرهما، تلك الحكاية لم أنسها أبداً وصار الكحل عندي أداة أو وسيلة لبعد النظر طبعاً بالنسبة للمرأة وربما كانت أمنيتي الخفية منذ الطفولة أن أحصل على مكحلة كتلك التي اكتحلت بها بطلة الحكاية لأنني لطالما تمنيت أن أبصر فأرى الأبعد..
ہ لمست في (أباطيل) مجموعتك الأخيرة روحاً أخرى تكتب الإنسان بشكل عام وكأنك ابتعدت كثيراً عن مكان نشأتك الأولى وعن الهم الخاص بالنساء؟!
ہہ عود على بدء والحديث عن التجربة الحياتية عندما كتبت قصص مجموعتي الأخيرة «أباطيل» كانت تجربتي قد تطورت شيئاً ما. ربما تدحرجت نحو آفاق أخرى.. بالمناسبة كنت قد تركت القاهرة وعدت إلى دوحتي وقد أنهيت دراستي الاكاديمية، كم من الأفكار وأوزان من السطور وسيل من الأحوال كان يلطخ كفي ويعبث في خلايا دماغي وكانت الكتابة منقذاً وربما هي البحر الذي أغرق فيه وأيما كانت فقد كان عشق القلم والكتابة قد تمكن مني فما عدت أنا القادرة على الخلاص منه وماعاد هو المغادر لتفاصيل يومي، في تلك الظلال والثنايا صارت الأوراق أباطيل تبحث عن ناشر والناشر أيضاً كان في القاهرة ثانية، قد لاتبدو رائحة المكان جلية في أباطيل، هذا صحيح لكن الصورة ستكون أوضح لو نظرت لها أيها القارئ من منحى آخر.. هنا الصوت ليس صوت امرأة إنه صوت كاتب، صوت مفكر، صوت مهموم بهموم وطن وهموم إنسان، إنسان عمره ألف عام ومازال يتألم الألم ذاته ومازال يحلم الحلم ذاته.. سميتها أباطيل لأنني لم أر البديل.
ہ شكل القص كان مختلفاً.. كان حداثياً وغير تقليدي مع تنوع القضايا والحالات التي تطرقت إليها كذلك تفاوتت اللغة بين بسيطة وغير بسيطة.. هل تختارين اللغة والأسلوب قبل بدء الكتابة أم اللغة /الشكل يفرضان نفسهما على العمل الابداعي؟!
ہہ أيضاً كما أن اللحظة الابداعية تأتي بلا ميعاد مسبق هو الشكل واللغة لاتعتمد مسبقاً من الكاتب إنها اللحظة بما تحتويه من مشاهد وانعطافات نحو الصورة والصوت والقلب، كان هذا سراً لم أعه عندما جاءت الأقاصيص مقولبة في شكل مختلف ربما، غير تقليدي ربما، غير اعتيادي ربما، ولست أرفض أياً من هذه التسميات وأتركها للقارئ وأتركها للناقد ولكن شكلاً ولغة في أباطيل قد ظهرت لم تكن من بين أشكال قصص المجموعتين السابقتين هذا صحيح وكما قلت إن تجربتي الانسانية والحياتية قد كبرت كما هي تراكماتي الثقافية، قد كبرت وربما وجدت في القلم وسيلة للظهور للعلن.. ربما كان ذلك سبباً، ولكن ماأود قوله أنني كنت قد قرأت كثيراً في القصة القصيرة ونقدها وفي الروايات العربية والأجنبية المترجمة ونقدها كان ذلك مع ولادة أباطيل ولابد للحظات الولادة أن تأخذ شيئاً من أجواء الكاتب كما هي تأخذ من نفسه وحسه ونبضه.
من تلك الأشياء التي ظهرت في أباطيل استلهام التراث واستخدامه ضمن أدوات الكتابة وأظن أنه حق مشروع للكاتب أن يصنع أدواته وأن يطوعها لخدمة فكرته الأساسية، من هنا كان البعد عن المباشرة ظاهراً في قصص أباطيل فلم أكن بحاجة إلى أن أسمي الأسود حالكاً والأبيض ناصعاً كي يدرك القارئ أن الحديث عن الليل والنهار فهو أذكى من ذلك وهو أعلم بالليل ظلمة وهو أعلم بالنهار شمساً واعتماداً على علم قارئي وإدراكه بالموروث من أقاصيص ألف ليلة وغيرها حدثته عما يحدث حوله اليوم من قبيل المقاربة بين التراث وهذا الذي نعيشه اليوم، ثورات تكنولوجية وغير تكنولوجية.
ہ زيارتك لدمشق هل هي الأولى؟! وماهو انطباعك عن الشام، وماذا عن مشاركتك في ملتقى الأديبات العربيات؟
ہہ ليست هذه زيارتي الأولى للشام العريقة وكيف يستطيع الكاتب العربي أن يبتعد عن أرض كهذه وعراقة كهذه ورائحة من التعايش والتمازج كهذه التي تقدمها دمشق، زيارتي الأولى تفرقت على الأعوام السابقة للتشبع من حميمية المكان وملء الناظرين بصور التاريخ يجسد نفسه في أحياء دمشق القديمة وفي مدن حولها كمعلولا وحمص واللاذقية وغيرها.
في زياراتي الأولى كان هذا الارتواء الذي لم ولن يكتمل من دمشق، واليوم آتي إليها مهرولة بدعوة من المستشارية الأدبية ممثلة بالأديبة الكبيرة كوليت خوري للمشاركة في ملتقى الأديبات العربيات، اجتمعت بثلاثين كاتبة وأديبة عربية على مدى الأيام الخمسة السابقة وكان الجمال أن الأديبات ـ ودون سابق إعداد ـ شكلن جوقة تنشد نشيداً شامياً رائعاً وليس للنشاز مكان. هذا اللقاء الحميم الذي قدمته لنا دمشق عاصمة الثقافة العربية كان بمنزلة الهبة الحلوة التي تحلم بها كل كاتبة أو كل أديبة. اللقاء من أجل اللقاء ومن أجل التعارف والتقابل الانساني وقد التقينا على الورق كثيراً ومنذ أزمنة فهي الكلمات من تعبر الحدود.. دون أوراق رسمية أو أختام فالكلمات جمعتنا لأزمنة لكننا إنسانياً أبعدتنا المسافات وهي دمشق عاصمة الثقافة دوماً تجمعنا لنفرح ولنعلن العشق للكتابة بشهادة من الشام العريقة.
--------------
الصورة : رائدة القصة القطرية الدكتورة هدى النعيمي
التقيتها بدمشق مشاركة في ملتقى الأديبات العربيات، وهنا حوار حول تجربتها الابداعية.
ہ ماالذي حفزك على كتابة القصة وأنت في رحاب عالم الفيزياء النووية والحيوية؟ وهل تذكرين قصتك الأولى؟
ہہ الكتابة الابداعية في أي شكل من أشكالها وبأي صورة كانت لم تأت بقرار مسبق، ولم تنزلق على الورق لأن الارادة العقلية سبقت إلى ذلك، ولكن محرك ماخفي ذو صوت ساحر يحرك الأصابع لتولد القصة أو لتكون القصيدة، من هنا كانت بدايتي بذلك الصوت الخفي الساحر. فلم أقرر الكتابة ولم أعرف أن سطوري شيء من عالم الابداع، كل ما وعيته مع تلك البدايات هو الرغبة في الحديث مع الورق، وكان القلم ذاك الوسيط الجميل المطواع فلم يرفض كتابتي، فأعطيته من وقتي ومن نبضي وأعطاني من أحباره ماصار اليوم في مصاف الابداع. أتمنى الآن لو أتذكر ماهي القصة الأولى التي كتبتها، لكنني وبشدة أذكر شجرة ظليلة وافرة كانت في فناء المدرسة وكانت بيتي حين تهرع القرينات إلى اللعب والفسحة، كانت الشجرة بيتي وكنت أعشقها كوطن، وهي الخميلة جمعت وريقات وكنت أخط عليها أشكالاً ما وبداخلها أيضاً جمعت أوراقاً من أشجار برية كانت تنمو خلف الفناء، كانت تجف أمامي فكنت أرقب صلابتها في الجفاف ونعومتها عند الحياة تلك الشجرة اجتزت بفعل المزارع الذي يرعى الشجيرات المدرسية وكان ثمةحزن في نفسي الصغيرة ـ التي كنتها ـ في ضياع وطن صغير. ذاك المشهد والحزن والوطن الذي انتهى بفعل مزارع لايعلم اعتمل بداخلي ولم أفق منه حتى كتبته أقصوصة أودعتها الأدراج. لاأذكر إن كانت تلك قصتي الأولى، لكن عاطفتي نحو الشجرة كانت محركاً فذاً لاأنساه.
ہ متى فكرت في اصدار قصصك التي ملأت الأدراج في كتاب!؟
ہہ كان ذلك خلال مرحلة دراسة الدكتوراه في القاهرة وقد سبقتها سنوات في تلك المدينة المستفزة لم تخصص بالنسبة لي للعلوم الاكاديمية فقط ولكن الدرس كان في كل مكان ـ خلال تلك السنوات عرفت عدداً من أدباء مصريين وعرب وعدداً أكثر ممن يتماهى مع الآداب وفنونها فكانت الشرارة/ الفكرة لماذا لاأعلن أنني عاشقة للقلم وهل في ذلك خجل؟! وكان جوابي على الذات أن أعلني وقد كان أن جئت ببعض تلك الأقاصيص لرفاق يرتادون الندوات الأدبية، والمؤتمرات الثقافية مثلي، وكانت المفاجآت الصغيرة الحلوة تأتي كلمات هؤلاء الرفاق تشجيعاً للنحو نحو النشر بشكل مجموعة قصصية. والفكرة راقت رغم الخوف من خوض ذاك الغمار إلا أنني انتقيت من الأوراق الساكنة في أدراجي مجموعة شعرت بأنها الأقرب وكانت قصة الشجرة الوطن من بينها.. اثنتا عشرة قصة كانت بيدي ذات يوم أذكره وأعيه تماماً، يوماً صيفياً طويلاً وأعباء جامعية وأخرى منوعة كانت على كتفي والأوراق بيدي تنام في ملف أخضر اللون بانتظار أن أزور الناشر الذي فكرت أن يكون ناشري الأول.. كان يوماً طويلاً قفزت فيه من موقع إلى موقع من مؤسسة إلى مؤسسة من زيارة إلى أخرى ولم يكن بين تلك الزيارات والمواقع الناشر الذي نويت زيارته، وحين عدت إلى غرفتي مساء لم يكن بين يدي الملف الأخضر وأقاصيصه الاثنتا عشرة، في خضم ذاك النهار القاهري الطويل ضاعت مجمو عتي الأولى ولم أكن أمتلك نسخاً من الأقاصيص ولم يكن من وسيلة لإعادة امتلاك لحظات إبداعية كتلك الاثنتي عشرة. فما كان مني إلا أن هادنت القدر في قراره بأنه لم يحن الأوان بعد لأن أخاطب القارئ كمبدعة قلت لنفسي لاتزال تجربتي تحتاج إلى البقاء تحت الخميلة إلى إشعار آخر وكان ذلك بعدها بعامين.
في مجموعة المكحلة كان حضور الرجل خفياً بين السطور بينما طغت حالات النساء ببوحهن أو حالاتهن بغض النظر عن أعمارهن.. هل أردت إيصال الأصوات الساكتة إلى العلن أم التعريف عن أحوالهن فنياً من خلال القص؟!
نعم، ربما كان ذلك في الأقاصيص الأولى التي كانت صوتاً ليس مبحوحاً لامرأة تطلب الكلام، نعم لم يكن حضور الرجل قوياً في تلك لكنه الموجود لأنه المتكئ لتلك المرأة صاحبة الصوت وربما تحاول الابتعاد عن الاتكاء على الرجل وربما حاولت أن يعلو صوتها على صوت الآخر، أقول ربما فهي مهمة الناقد أن يقول ذلك أولا يقوله، ولكن ماأعرفه أن تجربتي الحياتية لتلك المرحلة تجربة متواضعة تحاكي المرأة وشؤونها وقضاياها وتحلم أن القادم يكون أحلى لوصار الصوت مسموعاً أعتقد أن التجربة الحياتية وثراءها هو السر وراء ثراء الكلمة واحتوائها بالمعنى وحضور الآخر/ الآخرين بها بوعي من الكاتب وقد امتلك كامل أدواته أو شبه الكامل من تلك الأدوات.. لاأستغرب لو كانت قصصي في المجموعة الأولى تعبر عن امرأة لاتشير إلى رجل بعينه لكنها تصور الحياة والمجتمع رجلاً ضخماً تحتاج إلى حمايته وفي الوقت ذاته تكثف المحاولات للخلاص من قبضته، مجموعتي الأولى عنونتها المكحلة وهي أداة زينة للمرأة بشكل خاص كما يعلم الجميع ولكن بالموروث الشعبي لدينا حكاية شعبية لفتى وأخته تختطفهما الساحرة، وعندما يهربان تلحق بهما فيطلب الفتى من أخته الجميلة أن تتكحل ثم تنظر هل تراها.. ترى الساحرة في إثرهما، تلك الحكاية لم أنسها أبداً وصار الكحل عندي أداة أو وسيلة لبعد النظر طبعاً بالنسبة للمرأة وربما كانت أمنيتي الخفية منذ الطفولة أن أحصل على مكحلة كتلك التي اكتحلت بها بطلة الحكاية لأنني لطالما تمنيت أن أبصر فأرى الأبعد..
ہ لمست في (أباطيل) مجموعتك الأخيرة روحاً أخرى تكتب الإنسان بشكل عام وكأنك ابتعدت كثيراً عن مكان نشأتك الأولى وعن الهم الخاص بالنساء؟!
ہہ عود على بدء والحديث عن التجربة الحياتية عندما كتبت قصص مجموعتي الأخيرة «أباطيل» كانت تجربتي قد تطورت شيئاً ما. ربما تدحرجت نحو آفاق أخرى.. بالمناسبة كنت قد تركت القاهرة وعدت إلى دوحتي وقد أنهيت دراستي الاكاديمية، كم من الأفكار وأوزان من السطور وسيل من الأحوال كان يلطخ كفي ويعبث في خلايا دماغي وكانت الكتابة منقذاً وربما هي البحر الذي أغرق فيه وأيما كانت فقد كان عشق القلم والكتابة قد تمكن مني فما عدت أنا القادرة على الخلاص منه وماعاد هو المغادر لتفاصيل يومي، في تلك الظلال والثنايا صارت الأوراق أباطيل تبحث عن ناشر والناشر أيضاً كان في القاهرة ثانية، قد لاتبدو رائحة المكان جلية في أباطيل، هذا صحيح لكن الصورة ستكون أوضح لو نظرت لها أيها القارئ من منحى آخر.. هنا الصوت ليس صوت امرأة إنه صوت كاتب، صوت مفكر، صوت مهموم بهموم وطن وهموم إنسان، إنسان عمره ألف عام ومازال يتألم الألم ذاته ومازال يحلم الحلم ذاته.. سميتها أباطيل لأنني لم أر البديل.
ہ شكل القص كان مختلفاً.. كان حداثياً وغير تقليدي مع تنوع القضايا والحالات التي تطرقت إليها كذلك تفاوتت اللغة بين بسيطة وغير بسيطة.. هل تختارين اللغة والأسلوب قبل بدء الكتابة أم اللغة /الشكل يفرضان نفسهما على العمل الابداعي؟!
ہہ أيضاً كما أن اللحظة الابداعية تأتي بلا ميعاد مسبق هو الشكل واللغة لاتعتمد مسبقاً من الكاتب إنها اللحظة بما تحتويه من مشاهد وانعطافات نحو الصورة والصوت والقلب، كان هذا سراً لم أعه عندما جاءت الأقاصيص مقولبة في شكل مختلف ربما، غير تقليدي ربما، غير اعتيادي ربما، ولست أرفض أياً من هذه التسميات وأتركها للقارئ وأتركها للناقد ولكن شكلاً ولغة في أباطيل قد ظهرت لم تكن من بين أشكال قصص المجموعتين السابقتين هذا صحيح وكما قلت إن تجربتي الانسانية والحياتية قد كبرت كما هي تراكماتي الثقافية، قد كبرت وربما وجدت في القلم وسيلة للظهور للعلن.. ربما كان ذلك سبباً، ولكن ماأود قوله أنني كنت قد قرأت كثيراً في القصة القصيرة ونقدها وفي الروايات العربية والأجنبية المترجمة ونقدها كان ذلك مع ولادة أباطيل ولابد للحظات الولادة أن تأخذ شيئاً من أجواء الكاتب كما هي تأخذ من نفسه وحسه ونبضه.
من تلك الأشياء التي ظهرت في أباطيل استلهام التراث واستخدامه ضمن أدوات الكتابة وأظن أنه حق مشروع للكاتب أن يصنع أدواته وأن يطوعها لخدمة فكرته الأساسية، من هنا كان البعد عن المباشرة ظاهراً في قصص أباطيل فلم أكن بحاجة إلى أن أسمي الأسود حالكاً والأبيض ناصعاً كي يدرك القارئ أن الحديث عن الليل والنهار فهو أذكى من ذلك وهو أعلم بالليل ظلمة وهو أعلم بالنهار شمساً واعتماداً على علم قارئي وإدراكه بالموروث من أقاصيص ألف ليلة وغيرها حدثته عما يحدث حوله اليوم من قبيل المقاربة بين التراث وهذا الذي نعيشه اليوم، ثورات تكنولوجية وغير تكنولوجية.
ہ زيارتك لدمشق هل هي الأولى؟! وماهو انطباعك عن الشام، وماذا عن مشاركتك في ملتقى الأديبات العربيات؟
ہہ ليست هذه زيارتي الأولى للشام العريقة وكيف يستطيع الكاتب العربي أن يبتعد عن أرض كهذه وعراقة كهذه ورائحة من التعايش والتمازج كهذه التي تقدمها دمشق، زيارتي الأولى تفرقت على الأعوام السابقة للتشبع من حميمية المكان وملء الناظرين بصور التاريخ يجسد نفسه في أحياء دمشق القديمة وفي مدن حولها كمعلولا وحمص واللاذقية وغيرها.
في زياراتي الأولى كان هذا الارتواء الذي لم ولن يكتمل من دمشق، واليوم آتي إليها مهرولة بدعوة من المستشارية الأدبية ممثلة بالأديبة الكبيرة كوليت خوري للمشاركة في ملتقى الأديبات العربيات، اجتمعت بثلاثين كاتبة وأديبة عربية على مدى الأيام الخمسة السابقة وكان الجمال أن الأديبات ـ ودون سابق إعداد ـ شكلن جوقة تنشد نشيداً شامياً رائعاً وليس للنشاز مكان. هذا اللقاء الحميم الذي قدمته لنا دمشق عاصمة الثقافة العربية كان بمنزلة الهبة الحلوة التي تحلم بها كل كاتبة أو كل أديبة. اللقاء من أجل اللقاء ومن أجل التعارف والتقابل الانساني وقد التقينا على الورق كثيراً ومنذ أزمنة فهي الكلمات من تعبر الحدود.. دون أوراق رسمية أو أختام فالكلمات جمعتنا لأزمنة لكننا إنسانياً أبعدتنا المسافات وهي دمشق عاصمة الثقافة دوماً تجمعنا لنفرح ولنعلن العشق للكتابة بشهادة من الشام العريقة.
--------------
الصورة : رائدة القصة القطرية الدكتورة هدى النعيمي