مثلما تشهد تايوان نمواً متسارعاً على مختلف الأصعدة، فإنها تشهد أيضاً حراكاً ملحوظاً على مستوى ترجمة المؤلفات من وإلى الصينية، وذلك من منطلق أن ترجمة إبداعات الآخر المتفوق هو المفتاح لمنافسته واللحاق به. وتوقفنا عند دور تايوان في هذه العملية، وهو ما سنستكمله لما لهذا الدور من أهمية. هذه الأهمية التي لئن تضاعفت مع بزوغ ظاهرة العولمة، فإنها في حقيقة الأمر تعود إلى القرن السابع عشر حينما بدأ المستوطنون الصينيون من طائفة "الهان "الوصول إلى شواطئ الجزيرة من البر الصيني أثناء حقبة احتلال شركة الهند الشرقية الهولندية لإقليم تاينان ما بين عامي 1624 و1662. في هذه الفترة اشتد الطلب على أفراد يجيدون الهولندية ولغة سكان تايوان الأصليين من طائفة "الهولو" للقيام بإعمال الترجمة والتفاوض في مجال التبادل التجاري، ولا سيما بعد أن صارت غابات تايوان مصدراً رئيسياً لأخشاب الكافور.
وإذا ما قفزنا مباشرة من تلك الفترة البعيدة إلى الحقبة التالية للحرب العالمية الثانية، والتي صارت فيها تايوان كياناً منفصلاً عن البر الصيني ويحظى باعتراف المجتمع الدولي - حتى ذلك التاريخ- كممثل وحيد للشعب الصيني، فإننا نجد أن الولايات المتحدة باعتبارها حامية الجزيرة وحليفتها العسكرية وشريكتها التجارية الأولى اعتمدت حصرياً في ما أرادت معرفته أو توثيقه أو تطويره على مؤلفات ووثائق منشورة بالإنجليزية من إعداد الشباب التايواني المؤهل في مجالات العلم المختلفة والمتخرج من الجامعات الأميركية.
تحديات العولمة والتنافس الشرس في منطقة الشرق الأقصى على جذب الأموال والاستثمارات، دفعت شركات ومؤسسات تايوانية عديدة إلى الاستثمار المكثف في أعمال الترجمة الصوتية والتحريرية من خلال تأسيس معاهد متخصصة للتدريب على هذه الأعمال، وذلك من منطلق أنه إذا كان التميز عن الصين الكبرى بات محالاً على مختلف الأصعدة ، فإنه على الأقل يمكن التميز عنها لغوياً، وبالتالي جذب رجال الأعمال الذين يفضلون التحدث إلى نظرائهم مباشرة أو من خلال مترجمين مؤهلين تأهيلاً جيداً.
في هذا الموضوع تحديدا يخبرنا "جون لين " نائب رئيس شركة النخبة للترجمة عن مساهمات شركته وما تضطلع به من دور بحسب النسبة المترجمة من كل لغة إلى أخرى فيقول: إن نسبة الترجمة من الصينية إلى الإنجليزية هي 16 بالمئة، ومن الإنجليزية إلى الصينية هي 36 بالمئة، مضيفاً أن النسب المتبقية تتقاسمها الترجمة من الصينية إلى اليابانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية أو العكس.
أما "جورج هو "، المدير المؤسس لدائرة الترجمة الصوتية والتحريرية في كلية "وينزاو" للغات بمدينة "كاو سيونغ"، فيعلن صراحة أن صناعة الترجمة في تايوان مثلما تتميز ببعض عوامل القوة، فإنها تشكو أيضاً من بعض عوامل الضعف. ويرجع عوامل الضعف إلى تكالب مؤسسات الترجمة التايوانية على دخول السوق الصينية الكبيرة من أجل جني أكبر قدر من الفائدة، وإنْ كان الثمن التضحية ببعض معايير الأداء والكفاءة في عملية التوظيف.
غير أن للبروفسور الأميركي "بول كوكس"، الذي عمل مترجماً في تايوان لنحو عقدين من الزمن رأياً آخر، فهو يرى أن المنتج المترجم في تايوان يتفاوت من ناحية الضعف والقوة. ثم يضيف قائلاً إنه في الحصيلة النهائية يكتشف المرء أن الترجمة من الإنجليزية إلى الصينية أقوى من الترجمة من الصينية إلى الإنجليزية في تايوان بسبب صغر و ضعف التنافس في الحقل الثاني. وعلى حين يؤكد "كوكس" أن هناك قاعدة متينة لصناعة الترجمة في تايوان كنتيجة لتمسك التايوانيين باللغة الإنجليزية (لغة العصر والمال والأعمال) كلغة ثانية، فإنه يؤكد من جهة أخرى صعوبة ازدهار هذه الصناعة بصورة سريعة لأسباب كثيرة من بينها قلة العائد على أعمال الترجمة وعدم اكتساب المترجم للاحترام، الذي يحظى به أصحاب التخصصات العالية الأخرى في المجتمع.
في عام 2005 قام التايواني "سونغ كانغ تسو"، بإعداد بحث ميداني حول صناعة الترجمة في بلاده بشقيها الصوتي والتحريري، وذلك ضمن متطلبات حصوله على درجة الماجستير من كلية اللغات في جامعة "ماكواري" الأسترالية فتوصل إلى أن تلك الصناعة تتأثر بعوامل عديدة كتسعير المنتج والتنافس الشرس بين مؤسسات الترجمة، التي أدت إلى تدهور شكل وجودة المنتج والاستعانة بمترجمين غير متخصصين أو يعملون بدوام جزئي. وفي سياق الجزئية الأخيرة، يقول البروفسور "كوكس": إن حرص مؤسسات الترجمة على جني أقصى قدر من الأرباح، ودفع أقل قدر من التكاليف دفعتها أحياناً إلى الاستعانة بطلبة المدارس في الخارج ممن لديهم الرغبة في القيام بأعمال الترجمة من بيوتهم ولديهم أيضاً دوافع لجني دخول إضافية تعينهم على المعيشة، وذلك عبر استخدام وسائل ثورة الاتصالات كالإنترنت. وهؤلاء الذين يمكن أن نطلق عليهم ظاهرة المترجمين "الفري لينس"، أي غير الأجراء ليسوا حكراً على تايوان، بل صاروا في السنوات الأخيرة وبفضل الثورة التكنولوجية في مجال الاتصالات موجودين في كل مكان، لكنهم في تايوان (بحسب سونغ) لا يحصلون على مكافآت مجزية تشجعهم على تنمية مواهبهم واكتشاف أخطائهم- إنْ وجدت.
وهذا صحيح- طبقا للأميركية "تيري والتز "، التي عملت في تايوان ما بين 1993 و2000 كمترجمة من اللغتين الصينية والإسبانية إلى الإنجليزية بدوام كامل وتحت مسمى "مترجمة فري لينس"، ثم عادت في عام 2002 إلى "تايبيه" لنيل درجة الماجستير في الترجمة من جامعة "فوجين الكاثوليكية " في مقاطعة تايبيه. حيث تقول هذه السيدة التي لا زالت تعمل في صناعة الترجمة في كل من تايوان والولايات المتحدة: يحصل المترجم في تايوان على ما بين سنتين وثمانية سنتات للكلمة المترجمة، لكنه يحصل في الولايات المتحدة على 14 سنتاً وأحياناً 18 سنتاً للكلمة، وتضيف: رغم كل المحاولات التي دشنها المترجمون التايوانيون لتكوين نقابة أو اتحاد لهم بهدف تعديل أوضاعهم وفرض شروطهم على المستفيدين من نشاطهم بما في ذلك سعر ترجمة الكلمة، فإنهم لا يزالون في بداية الطريق. ولعله من نافلة القول هنا الإشارة إلى أن صناعة الترجمة هي أكثر الصناعات التي يستحيل حمايتها من خلال القيود والحواجز، ولا سيما في العصر الراهن. حيث بإمكان أي شركة أن تبعث بأي نص بالإنترنت أو الفاكس إلى أية مؤسسة أجنبية للترجمة في أي مكان ويصلها الرد سريعاً عبر الايميل. بل بإمكان أي شخص لدية خلفية معقولة في لغتين أو أكثر من اللغات العالمية المستخدمة في مجالات البزنس أن يقوم بالدعاية لنفسه من خلال المواقع الإلكترونية كمترجم، فيحصل على مستوى معيشي معقول في تايوان. ولا يعني هذا إن كبريات الشركات التايوانية التي لا تزال تتعامل تجارياً أو صناعياً مع الخارج أنها تلجأ إلى هكذا مترجمين عند الحاجة، فلدى البعض منها مبرر اللجوء إلى مؤسسات ترجمة تعمل وفق المعايير العالمية الراقية - وإنْ تطلب ذلك إنفاقاً أكبر. هذا المبرر الذي يكمن في منافسة المؤسسات الصينية المماثلة والمنتج المصدر من البر الصيني.
عبدالله المدني =كاتب في الاتحاد الاماراتية
وإذا ما قفزنا مباشرة من تلك الفترة البعيدة إلى الحقبة التالية للحرب العالمية الثانية، والتي صارت فيها تايوان كياناً منفصلاً عن البر الصيني ويحظى باعتراف المجتمع الدولي - حتى ذلك التاريخ- كممثل وحيد للشعب الصيني، فإننا نجد أن الولايات المتحدة باعتبارها حامية الجزيرة وحليفتها العسكرية وشريكتها التجارية الأولى اعتمدت حصرياً في ما أرادت معرفته أو توثيقه أو تطويره على مؤلفات ووثائق منشورة بالإنجليزية من إعداد الشباب التايواني المؤهل في مجالات العلم المختلفة والمتخرج من الجامعات الأميركية.
تحديات العولمة والتنافس الشرس في منطقة الشرق الأقصى على جذب الأموال والاستثمارات، دفعت شركات ومؤسسات تايوانية عديدة إلى الاستثمار المكثف في أعمال الترجمة الصوتية والتحريرية من خلال تأسيس معاهد متخصصة للتدريب على هذه الأعمال، وذلك من منطلق أنه إذا كان التميز عن الصين الكبرى بات محالاً على مختلف الأصعدة ، فإنه على الأقل يمكن التميز عنها لغوياً، وبالتالي جذب رجال الأعمال الذين يفضلون التحدث إلى نظرائهم مباشرة أو من خلال مترجمين مؤهلين تأهيلاً جيداً.
في هذا الموضوع تحديدا يخبرنا "جون لين " نائب رئيس شركة النخبة للترجمة عن مساهمات شركته وما تضطلع به من دور بحسب النسبة المترجمة من كل لغة إلى أخرى فيقول: إن نسبة الترجمة من الصينية إلى الإنجليزية هي 16 بالمئة، ومن الإنجليزية إلى الصينية هي 36 بالمئة، مضيفاً أن النسب المتبقية تتقاسمها الترجمة من الصينية إلى اليابانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية أو العكس.
أما "جورج هو "، المدير المؤسس لدائرة الترجمة الصوتية والتحريرية في كلية "وينزاو" للغات بمدينة "كاو سيونغ"، فيعلن صراحة أن صناعة الترجمة في تايوان مثلما تتميز ببعض عوامل القوة، فإنها تشكو أيضاً من بعض عوامل الضعف. ويرجع عوامل الضعف إلى تكالب مؤسسات الترجمة التايوانية على دخول السوق الصينية الكبيرة من أجل جني أكبر قدر من الفائدة، وإنْ كان الثمن التضحية ببعض معايير الأداء والكفاءة في عملية التوظيف.
غير أن للبروفسور الأميركي "بول كوكس"، الذي عمل مترجماً في تايوان لنحو عقدين من الزمن رأياً آخر، فهو يرى أن المنتج المترجم في تايوان يتفاوت من ناحية الضعف والقوة. ثم يضيف قائلاً إنه في الحصيلة النهائية يكتشف المرء أن الترجمة من الإنجليزية إلى الصينية أقوى من الترجمة من الصينية إلى الإنجليزية في تايوان بسبب صغر و ضعف التنافس في الحقل الثاني. وعلى حين يؤكد "كوكس" أن هناك قاعدة متينة لصناعة الترجمة في تايوان كنتيجة لتمسك التايوانيين باللغة الإنجليزية (لغة العصر والمال والأعمال) كلغة ثانية، فإنه يؤكد من جهة أخرى صعوبة ازدهار هذه الصناعة بصورة سريعة لأسباب كثيرة من بينها قلة العائد على أعمال الترجمة وعدم اكتساب المترجم للاحترام، الذي يحظى به أصحاب التخصصات العالية الأخرى في المجتمع.
في عام 2005 قام التايواني "سونغ كانغ تسو"، بإعداد بحث ميداني حول صناعة الترجمة في بلاده بشقيها الصوتي والتحريري، وذلك ضمن متطلبات حصوله على درجة الماجستير من كلية اللغات في جامعة "ماكواري" الأسترالية فتوصل إلى أن تلك الصناعة تتأثر بعوامل عديدة كتسعير المنتج والتنافس الشرس بين مؤسسات الترجمة، التي أدت إلى تدهور شكل وجودة المنتج والاستعانة بمترجمين غير متخصصين أو يعملون بدوام جزئي. وفي سياق الجزئية الأخيرة، يقول البروفسور "كوكس": إن حرص مؤسسات الترجمة على جني أقصى قدر من الأرباح، ودفع أقل قدر من التكاليف دفعتها أحياناً إلى الاستعانة بطلبة المدارس في الخارج ممن لديهم الرغبة في القيام بأعمال الترجمة من بيوتهم ولديهم أيضاً دوافع لجني دخول إضافية تعينهم على المعيشة، وذلك عبر استخدام وسائل ثورة الاتصالات كالإنترنت. وهؤلاء الذين يمكن أن نطلق عليهم ظاهرة المترجمين "الفري لينس"، أي غير الأجراء ليسوا حكراً على تايوان، بل صاروا في السنوات الأخيرة وبفضل الثورة التكنولوجية في مجال الاتصالات موجودين في كل مكان، لكنهم في تايوان (بحسب سونغ) لا يحصلون على مكافآت مجزية تشجعهم على تنمية مواهبهم واكتشاف أخطائهم- إنْ وجدت.
وهذا صحيح- طبقا للأميركية "تيري والتز "، التي عملت في تايوان ما بين 1993 و2000 كمترجمة من اللغتين الصينية والإسبانية إلى الإنجليزية بدوام كامل وتحت مسمى "مترجمة فري لينس"، ثم عادت في عام 2002 إلى "تايبيه" لنيل درجة الماجستير في الترجمة من جامعة "فوجين الكاثوليكية " في مقاطعة تايبيه. حيث تقول هذه السيدة التي لا زالت تعمل في صناعة الترجمة في كل من تايوان والولايات المتحدة: يحصل المترجم في تايوان على ما بين سنتين وثمانية سنتات للكلمة المترجمة، لكنه يحصل في الولايات المتحدة على 14 سنتاً وأحياناً 18 سنتاً للكلمة، وتضيف: رغم كل المحاولات التي دشنها المترجمون التايوانيون لتكوين نقابة أو اتحاد لهم بهدف تعديل أوضاعهم وفرض شروطهم على المستفيدين من نشاطهم بما في ذلك سعر ترجمة الكلمة، فإنهم لا يزالون في بداية الطريق. ولعله من نافلة القول هنا الإشارة إلى أن صناعة الترجمة هي أكثر الصناعات التي يستحيل حمايتها من خلال القيود والحواجز، ولا سيما في العصر الراهن. حيث بإمكان أي شركة أن تبعث بأي نص بالإنترنت أو الفاكس إلى أية مؤسسة أجنبية للترجمة في أي مكان ويصلها الرد سريعاً عبر الايميل. بل بإمكان أي شخص لدية خلفية معقولة في لغتين أو أكثر من اللغات العالمية المستخدمة في مجالات البزنس أن يقوم بالدعاية لنفسه من خلال المواقع الإلكترونية كمترجم، فيحصل على مستوى معيشي معقول في تايوان. ولا يعني هذا إن كبريات الشركات التايوانية التي لا تزال تتعامل تجارياً أو صناعياً مع الخارج أنها تلجأ إلى هكذا مترجمين عند الحاجة، فلدى البعض منها مبرر اللجوء إلى مؤسسات ترجمة تعمل وفق المعايير العالمية الراقية - وإنْ تطلب ذلك إنفاقاً أكبر. هذا المبرر الذي يكمن في منافسة المؤسسات الصينية المماثلة والمنتج المصدر من البر الصيني.
عبدالله المدني =كاتب في الاتحاد الاماراتية