ارتبطت ماينارد في شبابها الغض بعلاقة عاطفية شائكة مع الكاتب الأميركي ج. د. سالينجر حين كانت في التاسعة عشرة وكان هو في الثالثة والخمسين، هذه العلاقة تركت فيها الكثير من الندوب التي كشفت عنها في كتابتها. وإضافة إلى هذا الأثر، عانت في طفولتها اضطرابات في العلاقة مع والديها، فأبوها كان مدمناً على الكحول، وأمها طمحت أن تكون كاتبة ولم تتمكن من تحقيق حلمها. سجلت ماينارد البالغة من العمر اليوم 68 سنة معظم تفاصيل حياتها المؤلمة والسعيدة، وكتبت بذاتية وحميمية، وربما لكل هذه الأسباب نجحت في أن تحقق مكانتها لتكون الكاتبة الأكثر مبيعاً في قائمة "نيويورك تايمز"، فرواياتها تلقى رواجاً كبيراً، لأنها تنتمي إلى نوعية الموضوعات الاجتماعية المعقدة، الموجودة في كل زمان، والتي تناقش قضايا تشغل أذهان معظم المجتمعات.
وهذه سمات مميزة لأعمالها، لأنها تقدم عبر شخصيات بطلاتها تقاطعات العلاقة مع الرجل وكيان الأسرة من جهة، والمجتمع وتحولاته من جهة أخرى. ولعل منذ ظهور العولمة وتحول العالم إلى قرية صغيرة، لم تعد القضايا التي تناقشها ماينارد خاصة ومرئية فقط في المجتمع الأميركي بل تحظى باهتمام في بلدان أخرى، بدليل فوز روايتها بجائزة في فرنسا. تناقش معظم أعمالها واقع النساء بداية من الأيام الأولى المليئة بالأمل ثم من الزواج إلى الأمومة والطلاق والآثار الباهظة الثمن التي تستمر طوال الحياة.
نجاح سريع
بدأت جويس تنشر في المجلات في سن الرابعة عشرة، جاء إليها النجاح المهني بسهولة، وكان القوة الدافعة في حياتها. لكن السعادة العائلية ظلت بعيدة المنال، تصف حياتها قائلة: "كانت وظيفتي في الحياة وأنا شابة أن أجعل والديّ سعيدين بأي طريقة ممكنة؛ أن أمنع أبي من الشراب وأقدم لأمي نوع النجاح الذي استعصى عليها". وبعد بقائها لفترة وجيزة في مزرعة في نيو هامبشاير عقب انتهاء علاقتها مع سالينجر، انتقلت ماينارد إلى نيويورك وأصبحت مراسلة لصحيفة "نيويورك تايمز"، وفي ما بعد حين جاءها عرض عمل مهم حين كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، رفضت قائلة: "أريد العودة إلى نيوهامبشاير وإنجاب الأطفال؛ لقد وقعت في الحب" وهذا ما فعلته.
بنت الكاتبة رواية "حيث يعيش الناس السعداء" على شكل "فلاش باك" لذكريات الماضي "الرائعة"، كما يأتي في وصفها. يبدأ السرد مع البطلة إليانور التي تعود للمرة الأولى إلى منزلها في ولاية كونيتيكت في الولايات المتحدة، حيث عاشت أجمل لحظات حياتها. لقد عانت البطلة من طفولة غير سعيدة مع والدين غير مباليين، لذا قررت أن تقدم كل تضحياتها من أجل أسرتها، وأن تبني سعادتها كما تريد، لكن هل تتمكن من تحقيق هذا؟
تتناول الرواية أحداث حياة أسرة كاملة عبر خمسة عقود منذ سنوات السبعينيات، منذ لحظة لقاء إليانور مع حب حياتها "كام" وصولاً إلى الزمن المعاصر. وتتخلل هذه السنوات الطويلة أحداث محورية قلبت حياة الأسرة رأساً على عقب. تربط جويس ماينارد تنامي شخصياتها بتطورات المجتمع الأميركي مثل التحرر الجنسي، والإجهاض، وتحرير المرأة، حتى ظهور حركة مناهضة للتحرش المسماة "أنا أيضاً".
تقول: "أنا لا أسمي نفسي نسوية، لكن في الوقت نفسه، لا أعرف من أين توصلنا إلى فكرة أنني إذا كنت أحب الطبخ، إذا كنت أرغب في إنجاب الأطفال، فهذا مناهض للنسوية. بالنسبة لي، كوني ناشطة نسوية، يعني إظهار القوة والثقة والمثابرة لمتابعة كل ما أريد القيام به، وفي حالتي كان الهدف هو تكوين أسرة. ولكن مع القوة الكافية للتغلب على التقاليد".
تحولات كبرى
تلتقي بطلة الرواية "إليانور" مع "كام" في معرض للحرف اليدوية في "فيرمونت" في أوائل السبعينيات. إنها فنانة وكاتبة، لكن مصيرها يتحول تماماً، ففي غضون أربع سنوات يصبح لديها ثلاثة أطفال، ابنتان وابن "أحمر الرأس يملأ جيوبه بالحجارة ويعزف على الكمان ويتحدث إلى الله". بالنسبة إلى إليانور، توفر مزرعتهم في نيو هامبشاير كل ما تريده دائماً: ليالي الصيف التي تشاهد فيها ألعاب الكرة، وأيام الثلج بجوار النار، والتقليد السنوي المتمثل في صنع القوارب الورقية للانطلاق في الجدول كل ربيع... لكن بمرور الوقت تصاب العلاقة بين "إليانور" و"كام" بنوع من الفتور، لم يعد الحب متوهجاً كما كان، وفي المقابل صار لديهم ما هو أهم: "العائلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) تبلغ البطلة من العمر 50 سنة وقد قامت بحضور حفلة زفاف ابنها "آل"، الذي كان سابقاً "أليسون". تتعدد الأسئلة منذ لحظة حديثها عن اسمين لابنها، فيستنتج القارئ أن هناك قضية محورية تتعلق به. ونتساءل لماذا هربت من هذا المنزل على رغم قولها إنها عاشت أفضل لحظات حياتها؟ ولماذا لم تتحدث مع ابنتها أورسولا منذ ثلاث سنوات؟ المشاكل مطروحة منذ بداية الرواية، لذا سوف ندرك أن البطلة مرت بأحداث مروعة في الماضي، ولم تتمكن من تجاوزها بعد. تغرق إليانور في إحساس بالمرارة، وتفقد نفسها في حياتها كأم، بينما يجد زوجها "كام'' العزاء في علاقته مع شابة تصغره بسنوات.
قرارات وتحولات
وعلى مدى العقود التالية، يقوم أفراد الأسرة الخمسة باكتشافات نفسية وتحولات وقرارات تجمعهم أحياناً، وغالباً ما تمزقهم. تتبع الكاتبة مسار حياتهم - من خلال التحول الجنسي لطفل واختيار الابنة للانفصال التام عن والدتها. تلتقط جويس ماينارد تفاصيل هذه العائلة المجبرة على مواجهة الحقائق الأساسية المؤلمة من ماضيها، والعثور على الخلاص في أحلك ساعاتها. تستكشف ماينارد بحدة العلاقة التي لا مثيل لها في معرفة الذات والآخر، تتمحور حول "العائلة "، تتساءل: إلى أي مدى يمكن للمرأة أن تذهب من أجل أسرتها ؟ إليانور تمضي لاهثة في بحثها الدؤوب عن السعادة، مما يجعلها بطلة لا تُنسى، بحماقاتها وحقيقتها وسخائها العاطفي، وتسامحها المطلق. تعكس هذه الرواية ببراعة كل ما تصنعه حياتنا، في مواجهة عالم ومجتمع كاملين في حركة تحول دائمة، تترك انعكاساتها على أفراده جميعاً.
لعل المفارقة الواقعية في حياة جويس مينارد، في قرارها العودة للدراسة في جامعة "ييل"، بعد توقفها عن الدراسة منذ العشرينيات من عمرها. تزوجت ورزقت ثلاثة أطفال، وطلقت، ثم شاهدت زوجها الثاني يموت بسبب السرطان بعد ثلاث سنوات فقط من الزواج. هذا القرار الجريء تصفه بقولها: "لقد بدأت بالفعل في العمل على كتاب آخر حول العودة إلى جامعة ييل كطالبة في الستينيات من عمرها، هذا ليس بالأمر الهين، أن يُنظر إليك على أنك صوت جيلك، وفي الوقت نفسه تشاهد عجائب وتحديات جيل جديد". إلى جانب الجامعة أصبحت جويس مهووسة برياضة التنس التي اكتشفتها بعد تجاوز الستين، تقول: لقد أحببت التواصل الذي يحصل بين شخصين خلال ممارسة رياضة التنس، يمكن للمرء الرقص وحيداً، لكن لا يمكنه لعب التنس وحده".
------------
اندبندنت عربية