لا يغير ما سبق من قول أن يكون الأب حوش قد انتحر فعلاً، أو أُجبر على الانتحار تحت ضغوط ما، أو تعرّض للقتل. في كل الحالات، في هذا الحدث تعبير عن مستوى من التعاسة وانحطاط الحياة في سورية، قلّ أن وصل إليه مجتمع في العصر الحديث.
حدث "انتحار" الأب جورج حوش تعبير عن مستوى من التعاسة وانحطاط الحياة في سورية، قلّ أن وصل إليه مجتمع في العصر الحديث
إذا كان الأب حوش قد انتحر فعلاً، وهو أمرٌ حوله شكوك وتساؤلات منطقية، تتعلق، إذا صحّت الأخبار، بمكان الانتحار (كاتدرائية القديس جورجيوس للروم الأرثوذكس)، وتوقيته (وقت الصلاة) أي أمام المصلين أو أمام الجوقة على الأقل، ووجود مسدّس بحوزة الأب وهو يستعد لتأدية الطقوس، وإطلاق الرصاصة على الصدر وليس على الرأس كما هو شائع في حالات الانتحار المشابهة، وبقاء الأب على كرسيه من دون أن يتدخّل أحد من الحاضرين لمحاولة إنقاذه، والاتصال بالشرطة قبل الاتصال بالإسعاف، ووجود ورقة في حوزته مكتوبة بخط يده تؤكد انتحاره بسب ضغوط نفسية واجتماعية، والحال أن من ينتحر بحضور الناس لا يحتاج ورقة يؤكد فيها انتحاره. نقول إذا كان الأب حوش قد انتحر فعلاً، فإن في هذا ما يدلّ على مستوى من التعاسة واليأس قادر على جعل الخوري الذي يتلقى الاعترافات، أي الذي يشكل حليفاً خارجياً لضمائر المؤمنين الممتحنين المعذّبين، ينهي حياته يأساً. أكان يأسُه بفعل عجزه عن تأمين المتطلبات الأساسية لأسرته، أو بفعل عجزه أمام حالة البؤس العام التي يشهدها، ولاسيما أنه، كما يقول كثيرون عنه، من الآباء الذين يندفعون لتقديم العون للناس، ويقال إنه ساعد كثيرين على الخروج من البلد أو إنه كان يتدخّل لدى السلطات، بما له من اعتبار أو من تأثير في لجنة المصالحة التي كان عضواً فيها، لحماية بعض المطلوبين من الشباب.
وسط غرابة الحدث، وبرود البيان الصادر عن الأبرشية، البيان الذي عرض، بتقريرية لافتة، الدافعَ إلى الانتحار "قد أتى هذا التصرّف المستغرب، نتيجة ضغوط نفسية واجتماعية متراكمة"، من دون أن ينسب القول (دافع الانتحار) إلى الراحل الذي قالت وزارة الداخلية إنه كان قد كتب دافعه للانتحار على ورقةٍ وجدت بحوزته تتحدّث عن "ضغوط نفسية واجتماعية"، فإن للحدث، كما يبدو، خلفيات تتجاوز حادثة انتحار، لصالح أن يكون الرجل ضحية تحالفٍ صارم بين سلطات دينية وسلطات أمنية لا يتحمّل أي خروج عليه، ولاسيما من أشخاصٍ لهم اعتبار أو وزن شعبي. كما أن تقديم التفسير من الأبرشية ومن وزارة الداخلية بالعبارات نفسها إنما يشير إلى ميلٍ مشتركٍ للختم على الحدث وإغلاق الباب على أي تفسير آخر محتمل. ويمكن الإشارة أيضاً إلى أن تقديم التفسير، كما يفعل بيان الأبرشية، يُسقط عن التصرّف صفة "المستغرب" التي ألصقها به البيان الذي يبيّن ماهية هذه الضغوط النفسية والاجتماعية التي يصفها بـ"المتراكمة"، ما يوحي بأن الأبرشية على دراية ومتابعة لهذه الضغوط وهي "تتراكم".
إذا كان الأب حوش قد انتحر فهذا أمرٌ حوله شكوك وتساؤلات منطقية
الحقيقة أنّ في هذا التشابه في التعابير بين بياني الأبرشية ووزارة الداخلية ما يكاد يشير إلى السبب الأرجح لانتحار الرجل، ويدفع القارئ إلى تخيّل "حكم" صدر بحق الضحية التي كُلفت هي نفسها بتنفيذه بحق نفسها، كما تعرض الأفلام التي تتناول نشاط المافيات في العالم. هذا إذا أضفنا إلى القصة ما نقله بعضهم أن زوجة الراحل وابنته خاطبتا فقيدهما بالقول: "ليتك خلعت الثوب الذي يريد المطران أن يُجبرك على خلعه". وإذا أضفنا إليه أيضاً ما قيل عن أن الراحل تلقّى اتصالاً هاتفياً قبل دخوله إلى المذبح، ما يذكّر بقصة انتحار أخرى جرت في 2005، كان ضحيتها وزير الداخلية حينها.
سواء أكان للتحليل السابق نصيب من حقيقة ما جرى للفقيد، أو لم يكن، وأن القصة هي انتحار عادي مستقل عن حبائل السلطات وسعيها المحموم إلى تعزيز سيطرتها، وسط ظروف سياسية تفاقمت بتفاقم أزمة "الحليف الروسي" التي قد يكون للأب الراحل موقف مغاير للسلطات حيالها، ووسط ظروف معاشية توفر كل سبل الاحتجاج الشعبي، فإن حقيقة الحدث بذاتها نقطة فارقة في تاريخ انحدار مستوى الحياة في سورية من جميع نواحيها، الانحدار الذي قادته باقتدار طغمة الحكم الأسدية، منذ رسّخت سيطرتها المطلقة على جهاز الدولة السورية بعد أقل من عقد من انقلاب الأسد الأب واستلامه أعلى سلطة في الدولة، وتحويل السلطة إلى الغاية الأولى على حساب المجتمع وقيمه ومعيشته. وفي خطٍّ مواز ومعاكس لهذا الانحدار، كانت ترتفع ظاهرة التشبيح والفساد وشتى صنوف التضييق على حياة المحكومين.
--------------
العربي الجديد