من القليلين الذين تستمتع، وترتوي، وتضحك، وتبكي، وتقف على قدميك، وتلوح بيديك، وتسخن دماؤك، ويتوقد عقلك، وأنت تقرأ لهم، وتتناغم كل الأدوات والمهارات الموسيقية في سردها ووصفها وكلماتها، فهي تستدعي كل آلات النقر والنفخ والعزف و"الشخللة" والوتريات، مما يشعرك بالغنى التاريخي، والإرث الحضاري المحفود بالمجد، والمحشود باللغة الراقية الرقراقة المتأنقة، ويتقافز المرح الذكي، والطرافة اللماحة، من ثنايا عباراتها، وحنايا معانيها. بكل عفوية وتلقائية تجد نفسك قد وقعت أسيرا في حوزة أديبة ذات أصالة وحميمية نادرة، ألقت إليك بهداياها البراقة كبلورات الكريستال وتركتك تتأمل الصفاء والجمال الذي لا يقاوم.
وحقيقة فإن مصر -كما قال الأستاذ عباس العقاد- ممتلئة بالنساء والمثقفات المتألقات عن جدارة، في الحرم الجامعي، وفي المجتمع، وفي الصحافة، وفي كل الميادين. أما في "الأدب" فليس هناك أديبة فنانة حقا، بالمعنى الذي أفهمه للأدب… سوى جاذبية صدقي (1921-2001).
ولدت حفيدة الباشا وبنت الباشا نفيسة جاذبية بنت محمود عبد الحميد صدقي (جاذبية صدقي) في 3 يناير/كانون الثاني 1921 بقصر العائلة بلاظوغلي وسط القاهرة، والدها وزير الأشغال محمود باشا صدقي، وجدها لأمها عبد الحميد باشا صادق، رئيس مجلس النواب، وتنتمي من جهة الأم إلى الأسرة العلوية التي حكمت مصر والسودان قرابة 150 عاما (فرع إبراهيم باشا)، كما تنتمي بجذورها من جهة الآباء والأجداد إلى الإمام الليث بن سعد رضي الله عنه (توفي 175هـ/791م)، فقيه مصر الأشهر.
تلقّت جاذبية صدقي تربية راقية، شأن أولاد "الباشاوات" في ذلك العصر، وأجادت في بيتها العربية والإنجليزية والفرنسية إجادة رفيعة المستوى، وألمّت بالإيطالية والألمانية.
تخرجت في مدرسة رمسيس للبنات (كلية رمسيس) عام 1936، ثم التحقت بالجامعة الأميركية وتخرجت في كلية الآداب قسم المسرح عام 1941. وحصلت على "دبلوم" في الأدب الإنجليزي عام 1943، والماجستير في الأدب المسرحي من الجامعة الأميركية عام 1945.
ودرست الموسيقى والرسم دراسة متخصصة كما درست الفلك والطبيعة والأحياء وفلسفة الأديان، وكانت على قدم راسخة من الثقافة الرفيعة. وأشرقت مواهبها الأدبية الفنية في بدايات عقدها الثاني، وفور تخرجها بدأت قصصها ومقالاتها تحتل جريدة "المصري". نشرت قصصها في مجلات الرسالة، والهلال، وروز اليوسف، إذ التحقت بالعمل بها صحفية وكاتبة بدءا من عام 1954، وكانت في أخريات أيام حياتها من أشهر كتاب جريدة الأخبار، وأخبار اليوم.
أصبح اسمها يزاحم أسماء إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، وأنيس منصور، ونجيب محفوظ إلى الحد الذي جعل العقاد يصفها بأنها "القلم النسائي الذي يفهم الأدب كما ينبغي أن يُفهم، ويكتبه كما ينبغي أن يُكتب".
كتب عنها محمود تيمور (قريب الأسرة) والعقاد وأنيس منصور، ويحيى حقي، وطه حسين، وعباس خضر، وفتحي رضوان، وغيرهم، وتناولت أدبها بالدراسة رسائل ماجستير ودكتوراه عدة.
لها نحو 60 عملا بين القصة والرواية والدراسات المسرحية والمسرحيات والترجمات، وتحولت بعض رواياتها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية مثل رواية "صابرين"، والمجموعة القصصية "مملكة الله"، و"بوابة المتولي"، وكان آخر أعمالها "بلاد اليابان الشمس المشرقة، وأشجار الكرز". وتحولت روايتها الطويلة التي كتبتها باللغة الإنجليزية "أمنا الأرض" (Mother Earth) إلى مسلسل إذاعي شهير عام 1972 بإذاعة الشرق الأوسط. وترجمت أعمالا أجنبية لأدباء عالميين مثل "قلبي كبير" لأدنا فرير، و"الشارة القرمزية" لنتانيال هورلورن، و"أمي.. أحبك" لوليام سارويان.
وكانت جاذبية صدقي أفضل من وظّف نهر النيل في الأدب المعاصر، واستطاعت أن توظّف مفرداته -عبر الحكي- لترسيخ مجموعة من القيم الأخلاقية والدينية، والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والوجدانية، بطريقة رائعة، صراحة أحيانا أو ضمنيا أحيانا أخرى.
وقد قُرّر لها وحدها "6 قصص" على المراحل الابتدائية (ربيب الطيور، وبين الأدغال، وفتى من الصعيد، والقلب الذهبي، وابن النيل، وعش العصافير) لفترات زمنية يبلغ مجموعها أكثر من 20 عاما دراسيا.
نالت جاذبية صدقي جائزة المجمع اللغوي عن مجموعتها القصصية الأولى "مملكة الله" عام 1954، كما حازت جائزة "الرواد" في عيد الإعلاميين عام 1986، وعام 1987 من اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري.
كانت جاذبية صدقي في عالم القصة تمتح من ماء الإسلام في كل ما أبدعت.. ولا سيما في عالم الأدب التربوي الذي وصلت إلى قمته عن جدارة واقتدار.
وقد أعربت بلسان عربي مبين عن هويتها الإبداعية فقالت في إهدائها لمجموعتها "على باب الله": "إليه.. ذلك العفريت الذي يقيم في غيابات مجاهل أعماقي.. عفريت يصيح بحيوية.. وحياة.. ومرح.. ويحب الابتسامة.. والضحكة.. والنكتة.. والطعمية.. والبلح الأبريمي. شقاوته.. ساعات.. تسيل غصبا عني، عبر سن قلمي.. أو كالبرق تومض فجأة في عيني، أو تندلع شررا في إيماءات وإيحاءات معفرتة إلى تفكيري..".
"لكنه.. والشهادة لله، عفريت مؤمن، مسلم موحّد بالله، يصوم ويصلي، ويقوم الليل إلا قليله، ويحرص حرصا شديدا على صلاة الفجر، والصلاة الوسطى.. ولقد حج معي 4 مرات.. وأدّى العمرة معي مرات ومرات.. ودينه.. وعبادته.. ومحور سعادته: الصبر على خلق الله، وخدمة خلق الله مخلصا، وبجميع مشاعره الدافقة.. تقربا وتبتّلا للعلي العظيم.. سريرته صاخبة.. وروحه صافية.. وقلبه صاف.. ومع ذلك كله.. عفريت.. ابن عفريت".
ذلكم.. كانت جاذبية صدقي في كل ما كتبت وأبدعت.. لم تخرج عن مألوف ومعروف الناس قط.. ولم تجنح في رؤاها العامة والخاصة عن الإطار العام للإسلام.. بل إنها كانت تعلن.. وبإيضاح ساطع في "على باب الله" قائلة "لا بد للإنسان.. كل إنسان.. من قدسية في هذه الحياة.. قدسية تلوذ بها روحه حين تعتصرها مادية دنيانا.. قدسية ترفّ حولها روحه كالفراشة، تستروح من أنسامها، وتستجلب لنفسها بردا وسلاما وأمنا"، وتواصل أن "السياق الملتاث الذي يشترك فيه العالم، كل العالم، كله واحد، والهدف واحد، الذهب والسلطان.. هو السبب أن فتحت الدنيا فاها كالهاوية لضياع ذلك العالم.. ولفنائه السبب في سيادة الحس.. وانكماش الروح لكني أنا لا يمكنني بحال أن أتصور حياة كلها هكذا حس.. لا مكان فيها لقدسية روحانية، وأعظم قدسية روحانية هي الدين.. الدين بكل ما يمت إليه بصلة من قريب أو بعيد".
لم تخرج جاذبية صدقي أو تشذّ عن روح الإسلام ومقاصد شريعته قط في كل ما كتبت أو أبدت أو بدت.. في كل قضايا المرأة.. في العلاقات الاجتماعية.. في الفلسفة.. في الاجتماع.. في الاقتصاد.. في السياسة.. في رؤيتها للصهاينة.. فقط كانت تطعّم وتلغّم سردها بعمق وبخفة ظل متناهية وبلباقة ولياقة، قلّ أن تتمتع بها أديبة في عصرها.
وبلغ الأمر أن كثيرا من النساء كنّ يلمنها على أنها تنتصر لقضايا الرجل على حسابهن، ولكنها تقول إن هذه الرؤية "عن عقل، وعن معنى وعن تعقّل، وبعد تروّ وتأمل ودراسة وخبرة، وتجربة شخصية".
وماذا يكون المبدع المسلم أو الذات المبدعة أدبا إسلاميا، إذا لم تكن هي تلك الذات التي تحدثت عنها (جاذبية) حين تشتعل جوانحها بحرارة الإبداع وتلذعها وقدة الابتكار.
والعجيب أن الأمومة التركية لجاذبية صدقي لم تمنعها من أن تعجن وتخبز في أدبها الشخصية المصرية في شتى أدوارها.. وسحناتها ومهنها.. فقد أشربت حياة الصعيد الجواني والبراني.. كما أشربت أجواء وأهواء شخصية ابن البلد.. والبنت البلدي.. وغاصت في تلافيف المدن، والأحياء الشعبية من أقصى مصر إلى أقصاها، فمن يقرأ كتاباتها المشبعة والمشعّة ستأخذه الجلوة نفسها إذا ذهب معها إلى "سانت تريزا" أو كوم الدكة" أو "كوم الشقافة".. بمدينة الإسكندرية.. وستشبعه وتمتعه الرؤية المشعّة نفسها إذا دار معها حول العالم، أو طاف معها في بلاد الله البعيدة.. كأميركا واليابان.. أو زار معها الأندلس، أو مخر معها صحراء ليبيا ووديانها.
ومن يدخل معها "السيرك" أو "المزار" سيحوز درجة التشبع والإشباع الثقافي والإنساني نفسها إذا قضى في حضرتها "ليلة العيد"، أو ذهب معها إلى "رحلة نيلية"، أو عاش في ظل فكرتها وسكرتها وهي تذوب في شوق العبادة، وتحيا متعة الانكسار والإقبال على الله تعالى ومحبة خلقه، وهي تناجيه ضارعة "سبيلي إليك أن أهدهد دمعي المكلوم والمحروم واليتيم، لأنني أطمع أن تهدهد أنت أشجاني برحمتك اللهم، التي وسعت السموات والأرض.. وأن تهدهد دموعي التي لا يراها ولا يعلم بها سواك.. خالقي.. بارئي.. مصوّري".
هذه الشخصية ذات الدماء نصف التركية، المفطورة على ذكاء وقّاد، وخفّة ظل لا منتهى لها ونفاذ اجتماعي يكاد يتماهى مع النماذج المجتمعية التي تكتب عنها. ربما لا يشاركها في ذلك إلا قلة، ممن نفذوا إلى عمق أعماق الشخصية المصرية بكل ما تكتنزه من أسرار وتداخل حضاري يصعب فكّه أو فهمه بسهولة، كأحمد باشا تيمور وآل تيمور من الشعراء والأدباء، وكذلك الأب الروحي للأدب الشعبي حسين شفيق المصري والأديب الكبير يحيى حقي، وربما يرجع ذلك إلى عبقرية الشخصية المصرية ذات الفاعلية المتبادلة بين الأنا والآخر.
تميزت جاذبية صدقي بخصوصية وتفرّد في الذهاب مع التحليل النفسي، والقراءة الجوانية -الخالية من العقد والأخطاء العلمية- إلى نهاية المدى، فهي فنانة الأدب النفسي المقتدر، في رفع البصمات السيكولوجية لكل شخوصه ورموزه، ورسم حركاتهم وسكناتهم وأمواجهم النفسية من الداخل، وربما لا يقاربها في الأدب العربي الحديث إلا نزر يسير لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من أمثال الرائد الكبير نظمي لوقا والأديب (قليل الإنتاج) يحيى الرخاوي والكاتب الكبير الراحل إبراهيم المصري والأستاذ الكبير أنيس منصور الذي قال عنها إنها ناظرة مدرسة التحليل النفسي، والتلميذة الوحيدة بها، فكل قصصها الطويلة والقصيرة كانت رحلات شقاء وعذاب في حواري النفس، وسراديب الخصوصية، وكانت عنيفة وقاسية على أبطالها مثل قسوة الدنيا عليها، تُنطق أبطالها بما تعرف عنهم لا بما يريدون أن يقولوا عن أنفسهم.
لم تنصف جاذبية صدقي من أي من الفرقاء أو الأصدقاء حتى الآن على جميع المستويات، مع أنها تعد "سيدة عصرها" فيما قُرّر لها من قصص وروايات على المراحل التعليمية المختلفة، فلم ينصفها مثلا أهل الأدب التربوي على الإطلاق، كما كانت مغبونة أيضا من رواد ونقّاد الأدب الإسلامي الذين لم يشر أحد منهم بكلمة إليها من قريب أو بعيد.
وجاء معظم النقد الذي تناول أعمالها بدافع التصفية وعلى خلفية طبقية، إذ لم يعثر أحد النقاد على ما يقوله -أو ما يدسه بالأحرى- عن أدبها سوى قوله "إن أدب جاذبية صدقي ليس إلا ملامح الخيول، وسباق الفرسان، وروائح الإصطبلات، وكرابيج الباشاوات.. عند هذه الطبقة المتخمة بالمال والترف"، وليس هذا نقدا أدبيا ولا رأيا فنيًا بالمرة، ولا يعدو أن يكون بلاغا مغرضا لجهاز تصفية "الإقطاع، وسيطرة رأس المال على الحكم"، كما كان يجأر ويزأر رجال هذه الحقبة. مع أن شقيقها اللواء مصطفى ممدوح صدقي كان من صلب الضباط الأحرار.
وفي دراستها "لمحات من المسرح العالمي" تضع أصابعك على أنك أمام أكاديمية من الطراز الراقي الذي هضم الأدب الغربي، وأعاد تمثّله لك.. رحيقا .. وطاقة.. وانطلاقا.
ترجمت لأعلام الأدب الغربي، فأبدعت أدبا موازيا ومحاذيا، لا يقل جمالا عن النصوص الأصلية، فقد كانت الإنجليزية والفرنسية "لغة أمّا" بالنسبة لها، عدا أعمالها وتراجمها غير المنشورة.
وعن جدارة أيضا درّست جاذبية صدقي مادة المسرح بجامعة "إلينوي" (University of Illinois) عاما كاملا (1960-1961)، وأبدعت روايتها "أمنا الأرض" بالإنجليزية البريطانية الغنية العريقة.
وانعكست عالميتها الإبداعية والثقافية في ما أبدعت من "أدب الرحلات" إلى أميركا وإسبانيا واليابان وليبيا وبريطانيا، حيث كانت تصطحب معها دينها وحضارتها وعروبتها ومصريتها، في ذات واحدة، هي ذات جاذبية صدقي، حفيدة الباشا وبنت الباشا التي تفهم الخدم والحشم كما تفهم البربر والعجم، في ذكاء باسم وأدب شفّاف وفكر ضحوك، ومن ثمّ فأدب رحلاتها أدب استغراق ومحض ثقافة، وفن سياحة وسباحة في الآفاق والأعراق.
لا تكتفي بوصف ظاهر وباطن اللوحات والأمكنة.. فهي الأديبة المثقفة الكبيرة التي تعرف قدر نفسها، وتثمّن خطاها ورحلاتها، فحين تذهب إلى اليابان مثلا لا تقتصر على تصوير حالها وتاريخها ومستقبلها، بل تحظى بلقاء مطوّل مع الأمير "ميكاسا" الشقيق الأصغر للإمبراطور "هيروهيتو" سليل أسرة "توكوجاوا" التي تحكم اليابان منذ عام 1600 وحتى الآن.
تترجّل وتنتقل جاذبية صدقي عبر الديار والأقطار، وهي تقرأ أو تتلو بعيونها وعقلها، وأقدامها ومشاعرها، ثم تثمر لك أدبا يملؤك ثقة واعتدادا ما بين حضارتنا في الأندلس المفقود، إلى بلاد الإنجليز حيث تحلّ لك العقدة المركبة في ولوع المغلوب بالغالب، فحين تذهب إلى أميركا تقف أمام حضارتها فتحاورها ندّا لند، ويظهر ذلك جليًا في عنوان كتابها الذي دوّنت فيه رحلتها "أمريكا.. وأنا".
كانت جاذبية في جاذبيتها، تأسرك في كل ما كتبت، وبكل ما كتبت، فترحل معها بصدقها الشعوري إلى النفَس الأخير.
اقرأ معي إهداءها لمجموعتها القصصية "بوابة المتولي" لابنتها الوحيدة بهية وهي المجموعة رقم 34 لها إذ تقول:
"إليها.. بهية..
أهديتها جميع مشاعري.
أو لعلها بعذوبتها، وبطريقتها الرقيقة الناعمة، هي التي استولت عليها.. وعلى قلبي معها.. وعلى حياتي.. وعلى عمري كله.. ووقتي كله.. وعلى تفكيري.. وعلى ليلي ونهاري.. وعلى فنّي.. وعلى أدبي.. حتى ثيابي استولت عليها.. فماذا بقي بعد، أهديه إليها؟".
كانت تضفر قمة صدقها وظرفها معا، فترسم هذا الكلام الجميل الذي تختفي بين سطوره الضحكات، على حد تعبير العقاد عن طريقتها وأسلوبها في الكتابة الذي وصفه الدكتور محمد حسين هيكل "بالمرح، حتى إنه يضحك طوب الأرض".. وهكذا كانت رائدة الأدب التربوي الرشيق والتراث الشعبي.. "بنت الأكابر".. جاذبية صدقي.
وحقيقة فإن مصر -كما قال الأستاذ عباس العقاد- ممتلئة بالنساء والمثقفات المتألقات عن جدارة، في الحرم الجامعي، وفي المجتمع، وفي الصحافة، وفي كل الميادين. أما في "الأدب" فليس هناك أديبة فنانة حقا، بالمعنى الذي أفهمه للأدب… سوى جاذبية صدقي (1921-2001).
ولدت حفيدة الباشا وبنت الباشا نفيسة جاذبية بنت محمود عبد الحميد صدقي (جاذبية صدقي) في 3 يناير/كانون الثاني 1921 بقصر العائلة بلاظوغلي وسط القاهرة، والدها وزير الأشغال محمود باشا صدقي، وجدها لأمها عبد الحميد باشا صادق، رئيس مجلس النواب، وتنتمي من جهة الأم إلى الأسرة العلوية التي حكمت مصر والسودان قرابة 150 عاما (فرع إبراهيم باشا)، كما تنتمي بجذورها من جهة الآباء والأجداد إلى الإمام الليث بن سعد رضي الله عنه (توفي 175هـ/791م)، فقيه مصر الأشهر.
تلقّت جاذبية صدقي تربية راقية، شأن أولاد "الباشاوات" في ذلك العصر، وأجادت في بيتها العربية والإنجليزية والفرنسية إجادة رفيعة المستوى، وألمّت بالإيطالية والألمانية.
تخرجت في مدرسة رمسيس للبنات (كلية رمسيس) عام 1936، ثم التحقت بالجامعة الأميركية وتخرجت في كلية الآداب قسم المسرح عام 1941. وحصلت على "دبلوم" في الأدب الإنجليزي عام 1943، والماجستير في الأدب المسرحي من الجامعة الأميركية عام 1945.
ودرست الموسيقى والرسم دراسة متخصصة كما درست الفلك والطبيعة والأحياء وفلسفة الأديان، وكانت على قدم راسخة من الثقافة الرفيعة. وأشرقت مواهبها الأدبية الفنية في بدايات عقدها الثاني، وفور تخرجها بدأت قصصها ومقالاتها تحتل جريدة "المصري".
أصبح اسمها يزاحم أسماء إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، وأنيس منصور، ونجيب محفوظ إلى الحد الذي جعل العقاد يصفها بأنها "القلم النسائي الذي يفهم الأدب كما ينبغي أن يُفهم، ويكتبه كما ينبغي أن يُكتب".
كتب عنها محمود تيمور (قريب الأسرة) والعقاد وأنيس منصور، ويحيى حقي، وطه حسين، وعباس خضر، وفتحي رضوان، وغيرهم، وتناولت أدبها بالدراسة رسائل ماجستير ودكتوراه عدة.
لها نحو 60 عملا بين القصة والرواية والدراسات المسرحية والمسرحيات والترجمات، وتحولت بعض رواياتها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية مثل رواية "صابرين"، والمجموعة القصصية "مملكة الله"، و"بوابة المتولي"، وكان آخر أعمالها "بلاد اليابان الشمس المشرقة، وأشجار الكرز". وتحولت روايتها الطويلة التي كتبتها باللغة الإنجليزية "أمنا الأرض" (Mother Earth) إلى مسلسل إذاعي شهير عام 1972 بإذاعة الشرق الأوسط. وترجمت أعمالا أجنبية لأدباء عالميين مثل "قلبي كبير" لأدنا فرير، و"الشارة القرمزية" لنتانيال هورلورن، و"أمي.. أحبك" لوليام سارويان.
وكانت جاذبية صدقي أفضل من وظّف نهر النيل في الأدب المعاصر، واستطاعت أن توظّف مفرداته -عبر الحكي- لترسيخ مجموعة من القيم الأخلاقية والدينية، والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والوجدانية، بطريقة رائعة، صراحة أحيانا أو ضمنيا أحيانا أخرى.
وقد قُرّر لها وحدها "6 قصص" على المراحل الابتدائية (ربيب الطيور، وبين الأدغال، وفتى من الصعيد، والقلب الذهبي، وابن النيل، وعش العصافير) لفترات زمنية يبلغ مجموعها أكثر من 20 عاما دراسيا.
نالت جاذبية صدقي جائزة المجمع اللغوي عن مجموعتها القصصية الأولى "مملكة الله" عام 1954، كما حازت جائزة "الرواد" في عيد الإعلاميين عام 1986، وعام 1987 من اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري.
كانت جاذبية صدقي في عالم القصة تمتح من ماء الإسلام في كل ما أبدعت.. ولا سيما في عالم الأدب التربوي الذي وصلت إلى قمته عن جدارة واقتدار.
وقد أعربت بلسان عربي مبين عن هويتها الإبداعية فقالت في إهدائها لمجموعتها "على باب الله": "إليه.. ذلك العفريت الذي يقيم في غيابات مجاهل أعماقي.. عفريت يصيح بحيوية.. وحياة.. ومرح.. ويحب الابتسامة.. والضحكة.. والنكتة.. والطعمية.. والبلح الأبريمي. شقاوته.. ساعات.. تسيل غصبا عني، عبر سن قلمي.. أو كالبرق تومض فجأة في عيني، أو تندلع شررا في إيماءات وإيحاءات معفرتة إلى تفكيري..".
"لكنه.. والشهادة لله، عفريت مؤمن، مسلم موحّد بالله، يصوم ويصلي، ويقوم الليل إلا قليله، ويحرص حرصا شديدا على صلاة الفجر، والصلاة الوسطى.. ولقد حج معي 4 مرات.. وأدّى العمرة معي مرات ومرات.. ودينه.. وعبادته.. ومحور سعادته: الصبر على خلق الله، وخدمة خلق الله مخلصا، وبجميع مشاعره الدافقة.. تقربا وتبتّلا للعلي العظيم.. سريرته صاخبة.. وروحه صافية.. وقلبه صاف.. ومع ذلك كله.. عفريت.. ابن عفريت".
ذلكم.. كانت جاذبية صدقي في كل ما كتبت وأبدعت.. لم تخرج عن مألوف ومعروف الناس قط.. ولم تجنح في رؤاها العامة والخاصة عن الإطار العام للإسلام.. بل إنها كانت تعلن.. وبإيضاح ساطع في "على باب الله" قائلة "لا بد للإنسان.. كل إنسان.. من قدسية في هذه الحياة.. قدسية تلوذ بها روحه حين تعتصرها مادية دنيانا.. قدسية ترفّ حولها روحه كالفراشة، تستروح من أنسامها، وتستجلب لنفسها بردا وسلاما وأمنا"، وتواصل أن "السياق الملتاث الذي يشترك فيه العالم، كل العالم، كله واحد، والهدف واحد، الذهب والسلطان.. هو السبب أن فتحت الدنيا فاها كالهاوية لضياع ذلك العالم.. ولفنائه السبب في سيادة الحس.. وانكماش الروح لكني أنا لا يمكنني بحال أن أتصور حياة كلها هكذا حس.. لا مكان فيها لقدسية روحانية، وأعظم قدسية روحانية هي الدين.. الدين بكل ما يمت إليه بصلة من قريب أو بعيد".
لم تخرج جاذبية صدقي أو تشذّ عن روح الإسلام ومقاصد شريعته قط في كل ما كتبت أو أبدت أو بدت.. في كل قضايا المرأة.. في العلاقات الاجتماعية.. في الفلسفة.. في الاجتماع.. في الاقتصاد.. في السياسة.. في رؤيتها للصهاينة.. فقط كانت تطعّم وتلغّم سردها بعمق وبخفة ظل متناهية وبلباقة ولياقة، قلّ أن تتمتع بها أديبة في عصرها.
وبلغ الأمر أن كثيرا من النساء كنّ يلمنها على أنها تنتصر لقضايا الرجل على حسابهن، ولكنها تقول إن هذه الرؤية "عن عقل، وعن معنى وعن تعقّل، وبعد تروّ وتأمل ودراسة وخبرة، وتجربة شخصية".
وماذا يكون المبدع المسلم أو الذات المبدعة أدبا إسلاميا، إذا لم تكن هي تلك الذات التي تحدثت عنها (جاذبية) حين تشتعل جوانحها بحرارة الإبداع وتلذعها وقدة الابتكار.
والعجيب أن الأمومة التركية لجاذبية صدقي لم تمنعها من أن تعجن وتخبز في أدبها الشخصية المصرية في شتى أدوارها.. وسحناتها ومهنها.. فقد أشربت حياة الصعيد الجواني والبراني.. كما أشربت أجواء وأهواء شخصية ابن البلد.. والبنت البلدي.. وغاصت في تلافيف المدن، والأحياء الشعبية من أقصى مصر إلى أقصاها، فمن يقرأ كتاباتها المشبعة والمشعّة ستأخذه الجلوة نفسها إذا ذهب معها إلى "سانت تريزا" أو كوم الدكة" أو "كوم الشقافة".. بمدينة الإسكندرية.. وستشبعه وتمتعه الرؤية المشعّة نفسها إذا دار معها حول العالم، أو طاف معها في بلاد الله البعيدة.. كأميركا واليابان.. أو زار معها الأندلس، أو مخر معها صحراء ليبيا ووديانها.
ومن يدخل معها "السيرك" أو "المزار" سيحوز درجة التشبع والإشباع الثقافي والإنساني نفسها إذا قضى في حضرتها "ليلة العيد"، أو ذهب معها إلى "رحلة نيلية"، أو عاش في ظل فكرتها وسكرتها وهي تذوب في شوق العبادة، وتحيا متعة الانكسار والإقبال على الله تعالى ومحبة خلقه، وهي تناجيه ضارعة "سبيلي إليك أن أهدهد دمعي المكلوم والمحروم واليتيم، لأنني أطمع أن تهدهد أنت أشجاني برحمتك اللهم، التي وسعت السموات والأرض.. وأن تهدهد دموعي التي لا يراها ولا يعلم بها سواك.. خالقي.. بارئي.. مصوّري".
هذه الشخصية ذات الدماء نصف التركية، المفطورة على ذكاء وقّاد، وخفّة ظل لا منتهى لها ونفاذ اجتماعي يكاد يتماهى مع النماذج المجتمعية التي تكتب عنها. ربما لا يشاركها في ذلك إلا قلة، ممن نفذوا إلى عمق أعماق الشخصية المصرية بكل ما تكتنزه من أسرار وتداخل حضاري يصعب فكّه أو فهمه بسهولة، كأحمد باشا تيمور وآل تيمور من الشعراء والأدباء، وكذلك الأب الروحي للأدب الشعبي حسين شفيق المصري والأديب الكبير يحيى حقي، وربما يرجع ذلك إلى عبقرية الشخصية المصرية ذات الفاعلية المتبادلة بين الأنا والآخر.
تميزت جاذبية صدقي بخصوصية وتفرّد في الذهاب مع التحليل النفسي، والقراءة الجوانية -الخالية من العقد والأخطاء العلمية- إلى نهاية المدى، فهي فنانة الأدب النفسي المقتدر، في رفع البصمات السيكولوجية لكل شخوصه ورموزه، ورسم حركاتهم وسكناتهم وأمواجهم النفسية من الداخل، وربما لا يقاربها في الأدب العربي الحديث إلا نزر يسير لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من أمثال الرائد الكبير نظمي لوقا والأديب (قليل الإنتاج) يحيى الرخاوي والكاتب الكبير الراحل إبراهيم المصري والأستاذ الكبير أنيس منصور الذي قال عنها إنها ناظرة مدرسة التحليل النفسي، والتلميذة الوحيدة بها، فكل قصصها الطويلة والقصيرة كانت رحلات شقاء وعذاب في حواري النفس، وسراديب الخصوصية، وكانت عنيفة وقاسية على أبطالها مثل قسوة الدنيا عليها، تُنطق أبطالها بما تعرف عنهم لا بما يريدون أن يقولوا عن أنفسهم.
عالمية وتجاهل
وعلى مستوى عالمية المبدع والإبداع كانت جاذبية صدقي على ذلك المستوى بالحق والحقيقة والاستحقاق، مع وجود مظلومية حقة أراها لم ترفع عن ذات وكتابات جاذبية صدقي.لم تنصف جاذبية صدقي من أي من الفرقاء أو الأصدقاء حتى الآن على جميع المستويات، مع أنها تعد "سيدة عصرها" فيما قُرّر لها من قصص وروايات على المراحل التعليمية المختلفة، فلم ينصفها مثلا أهل الأدب التربوي على الإطلاق، كما كانت مغبونة أيضا من رواد ونقّاد الأدب الإسلامي الذين لم يشر أحد منهم بكلمة إليها من قريب أو بعيد.
وجاء معظم النقد الذي تناول أعمالها بدافع التصفية وعلى خلفية طبقية، إذ لم يعثر أحد النقاد على ما يقوله -أو ما يدسه بالأحرى- عن أدبها سوى قوله "إن أدب جاذبية صدقي ليس إلا ملامح الخيول، وسباق الفرسان، وروائح الإصطبلات، وكرابيج الباشاوات.. عند هذه الطبقة المتخمة بالمال والترف"، وليس هذا نقدا أدبيا ولا رأيا فنيًا بالمرة، ولا يعدو أن يكون بلاغا مغرضا لجهاز تصفية "الإقطاع، وسيطرة رأس المال على الحكم"، كما كان يجأر ويزأر رجال هذه الحقبة. مع أن شقيقها اللواء مصطفى ممدوح صدقي كان من صلب الضباط الأحرار.
وفي دراستها "لمحات من المسرح العالمي" تضع أصابعك على أنك أمام أكاديمية من الطراز الراقي الذي هضم الأدب الغربي، وأعاد تمثّله لك.. رحيقا .. وطاقة.. وانطلاقا.
ترجمت لأعلام الأدب الغربي، فأبدعت أدبا موازيا ومحاذيا، لا يقل جمالا عن النصوص الأصلية، فقد كانت الإنجليزية والفرنسية "لغة أمّا" بالنسبة لها، عدا أعمالها وتراجمها غير المنشورة.
وعن جدارة أيضا درّست جاذبية صدقي مادة المسرح بجامعة "إلينوي" (University of Illinois) عاما كاملا (1960-1961)، وأبدعت روايتها "أمنا الأرض" بالإنجليزية البريطانية الغنية العريقة.
وانعكست عالميتها الإبداعية والثقافية في ما أبدعت من "أدب الرحلات" إلى أميركا وإسبانيا واليابان وليبيا وبريطانيا، حيث كانت تصطحب معها دينها وحضارتها وعروبتها ومصريتها، في ذات واحدة، هي ذات جاذبية صدقي، حفيدة الباشا وبنت الباشا التي تفهم الخدم والحشم كما تفهم البربر والعجم، في ذكاء باسم وأدب شفّاف وفكر ضحوك، ومن ثمّ فأدب رحلاتها أدب استغراق ومحض ثقافة، وفن سياحة وسباحة في الآفاق والأعراق.
لا تكتفي بوصف ظاهر وباطن اللوحات والأمكنة.. فهي الأديبة المثقفة الكبيرة التي تعرف قدر نفسها، وتثمّن خطاها ورحلاتها، فحين تذهب إلى اليابان مثلا لا تقتصر على تصوير حالها وتاريخها ومستقبلها، بل تحظى بلقاء مطوّل مع الأمير "ميكاسا" الشقيق الأصغر للإمبراطور "هيروهيتو" سليل أسرة "توكوجاوا" التي تحكم اليابان منذ عام 1600 وحتى الآن.
تترجّل وتنتقل جاذبية صدقي عبر الديار والأقطار، وهي تقرأ أو تتلو بعيونها وعقلها، وأقدامها ومشاعرها، ثم تثمر لك أدبا يملؤك ثقة واعتدادا ما بين حضارتنا في الأندلس المفقود، إلى بلاد الإنجليز حيث تحلّ لك العقدة المركبة في ولوع المغلوب بالغالب، فحين تذهب إلى أميركا تقف أمام حضارتها فتحاورها ندّا لند، ويظهر ذلك جليًا في عنوان كتابها الذي دوّنت فيه رحلتها "أمريكا.. وأنا".
كانت جاذبية في جاذبيتها، تأسرك في كل ما كتبت، وبكل ما كتبت، فترحل معها بصدقها الشعوري إلى النفَس الأخير.
اقرأ معي إهداءها لمجموعتها القصصية "بوابة المتولي" لابنتها الوحيدة بهية وهي المجموعة رقم 34 لها إذ تقول:
"إليها.. بهية..
أهديتها جميع مشاعري.
أو لعلها بعذوبتها، وبطريقتها الرقيقة الناعمة، هي التي استولت عليها.. وعلى قلبي معها.. وعلى حياتي.. وعلى عمري كله.. ووقتي كله.. وعلى تفكيري.. وعلى ليلي ونهاري.. وعلى فنّي.. وعلى أدبي.. حتى ثيابي استولت عليها.. فماذا بقي بعد، أهديه إليها؟".
كانت تضفر قمة صدقها وظرفها معا، فترسم هذا الكلام الجميل الذي تختفي بين سطوره الضحكات، على حد تعبير العقاد عن طريقتها وأسلوبها في الكتابة الذي وصفه الدكتور محمد حسين هيكل "بالمرح، حتى إنه يضحك طوب الأرض".. وهكذا كانت رائدة الأدب التربوي الرشيق والتراث الشعبي.. "بنت الأكابر".. جاذبية صدقي.