“مغربيات” التقت ثريا إقبال على هامش إحدى الندوات حول الثقافة الشفاهية التي سبق ونظمت خلال الدورة 49 للمهرجان الوطني للفنون الشعبية بمراكش فكان الحوار التالي..
مغربيات : معلوم أنك قمت برحلة استثنائية من عالم الإقتصاد إلى عالم التصوف، ما الذي يجمع الاقتصاد بالتصوف؟
في الواقع منذ صغري، كان هناك اهتمام بما هو روحاني و ما هو عميق فينا، وكل ما يربط بين ما هو مادي وغير مادي كان دائما حاضرا منذ الصبا. منذ تشكل وعيي حول العالم، أدركت أن هناك شيء أقوى مما نراه. اكتشفت مبكرا أن رؤيتنا للأشياء و العالم محدودة، وبالتالي لدينا عينان فقط نرى بهما ما يوجد أمامنا و لا يمكننا الرؤية من الخلف. عرفت ان هناك النهار و الليل و أن هذا الأخير يحجب الرؤية و أن هناك أشياء خفية. بالنسبة لولوجي عالم الإقتصاد هو كان فقط بشكل عملي و تقني و أكاديمي، لكن هاجسي كان دائما مرتبطا بالبحث عن ما يربط المادي باللامادي، و حتى في إطار البحث لنيل شهادة الدكتوراه اشتغلت على “اقتصاد الولاية وتدبير المقدس في علوم الشيخ محيي الدين بن عربي” وعلماء الحكمة. اهتمامي الكبير الأول انصب حول البحث عن ماهية الحكمة و العلاقة بين ما هو مرئي و ما هو غير مرئي
هل تلقيت تربية روحانية أم أنك كنت مهيأة منذ البداية للاهتمام بالتصوف وبما هو روحاني؟
في الحقيقة لا أعرف إن كنت مهيأة لذلك . الله وحده يعرف كيف هيأ كل واحد منا. لكن أكيد أنني كنت أملك الإستعداد النفسي و الروحي، وكما يقال “يكون الإمداد على قدر الاستعداد“، فكما توجد عمارة الكون هناك كذلك عمارة الكائن أيضا . سعيت دوما لمعرفة تتجاوز ظاهر الأشياء إلى إدراك المعنى الكامن خلفها. تربيت في وسط روحاني متصوف، فالتي ربتني هي جدتي لأبي، وقد كانت واحدة من . العارفات و العالمات، فضلا عن كونها حرفية. للا رقية المجادلي كانت “مجادلية (صناعة المجدول) إذن فقد كان بيتنا يعج بالذكر و المديح. كما كان أبي من العلماء ورغم أن تكوينه كان فركفونيا وعربيا إلا أنه كان ملما بأمور الفقه والسنة و له تفاسير في القرآن. كانت أجوبته حول تساؤلاتي و أنا طفلة تغذي فضولي وشغفي بمعرفة الإنسان و مصيره، تساؤلات من قبيل من اين جئنا و إلى أين نحن ذاهبون. لم يحدثني أبي قط عن الموت. كان يقول لي هناك انتقال إلى عالم آخر. إذن كل هذه الأشياء تظافرت لتخلق مني ما أنا عليه اليوم
معلوم أن المهتمين بعالم التصوف يكون لهم ارتباط بأحد أعلام التصوف وهم كثر. لماذا هذا الارتباط تحديدا باشسيخ الأكبر محيي الذين ابن عربي؟
في الواقع هناك مداخل كثيرة لعالم الروحانيات. عندما قال يعقوب عليه السلام لأبنائه لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة، فهناك أبواب كثيرة للارتقاء للعالم العلوي، و الله سبحانه وتعالى يفتح لنا أبوابا ومداخل عدة. قد تكون من خلال التصوف حيث توجد الحكمة و الفكر، أو من عالم السماع، وهناك من يدخل من عالم الخط العربي و جماليته، لأن التمظهرات الجمالية في الثقافة العربية الإسلامية هي متعددة، و الحقائق تتعدد بأنفاس الخلائق، لكن الحقيقة الوحيدة الكبرى هي أن هناك خالق وهناك حكمة هي أرفع منا، و لكي تتنزل لدينا نحن البشر، فهي تتنزل بقدر استعداد كل واحد منا وكيف سيتلقاها. الله بعدله و بفضله يعرف كيف يخاطب كلا منا. بعضنا يخاطبه السماع أكثر مما تخاطبه الفلسفة و الحكمة. إذن هناك علم الأوراق وهناك علم الأذواق، ولولا هذا الأخير لسارت العلوم الأخرى بلا أي طعم، و لسار أصحابها مضطرين للنضال من أجل أن تكون حقائق ثابتة لا محيد عنها، دون الاعتراف بوجود حقائق أخرى. بينما العارف بالله يدرك أن الله يعطينا قدرا بسيطا من التذوق و لا يمكننا أن ندعي أننا نمتلك الحقائق كلها. أعطانا نعمة أن نتذوق أشياء بسيطة لأن جماله لا متناهي و لا يمكن أن نترفع عليه.
الملاحظ أن بعض مؤلفات رموز الصوفية صعبة الفهم، فمثلا قليلون من يفهمون “الفتوحات المكية” لمحيي الدين بن عربي ، بم تنصحين المقبلين على القراءة لأعلام الصوفية؟
لي تجربة في هذا الشأن، حيث إنني اشتغلت أثناء انجاز بحثي الأكاديمي على الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، و أثناء تلك الرحلة أرسل لي الله سبحانه وتعالى إشارات كثيرة لأفهم و أستوعب أنه لا يمكن أن نلبس دائما ثوب الأكاديمي ونشرح النصوص بنظريات نقدية و فكرية. يجب أن يكون هناك نوع من الفتح و لا أقصد هنا فتح الأولياء لأنني لا أدعي أنني واحدة منهم، لكن يجب أن يكون هناك انفتاح على هذا العالم على قدر إمكانيات فهم هذه الأشياء. حتى أنه في بعض المناطق حرمت قراءة هذه الكتب لكي لا تزعزع إيمان من لا يستطيع فهم بعض الحقائق التي قد يبدو فيها نوع من زعزعة الثوابت، لذلك فمن يريد أن يلج هذا العالم عليه ان يتحلى بخصلتين مهمتين جدا هي التواضع و الصبر، و لن تفتح هذه العوالم إلا لمن يريد أن يفهم بأن هذه الحقائق ليست له و ليس له عليها سلطة الفهم بقدر ما له سلطة التدبر وغرف ما يمكن غرفه من هذه العلوم التي لا ساحل لها، فالباحث في هذا المجال يجب أن يكون صبورا، ويعرف بأن هذه العوالم قد تفتح لمن يعتقد أنه لا علاقة له بها أبدا. وولوجها ليس سهل المنال. هناك أسرار كثيرة، ومن دعاه الله لهذا المجال حسب تكوينه الشخصي، فليعلم أنه مدعو لعالم غير سهل المنال بشكل عام و أنه من الصعب أن تكون لنا إحاطة بهذه العوالم لأنها بحور كثيرة وعميقة، فالشيخ الأكبر يكتب على شاكلة القرآن الكريم، وما الفتوحات المكية إلا تفسير إشاري للقرآن. وحتى الذين كفروا ابن عربي، فهم لا يدركون هذه الأشياء، لأن القرآن له مداخل عديدة و هناك حديث قدسي يقول : للقرآن ظهر وبطن و حد ومطع فحتى الاعتقاد بأن الدارس قد حد القرآن و لم يعد هناك شيء ليغرف منه، فهناك مطلع، ولكن هذه هي هلوم الأولياء و الأنبياء. أما بالنسة لنا نحن فينبغي أن نعلم أن هذه علوم وعرفان و أشياء ذوقية نأخذ منها على مدى استطاعتنا.
كيف أمكنك الجمع بين السياسة و التصوف ، علما أن التصوف فيه زهد عن كل ما هو مادي عكس السياسة؟
أعتقد أنه عندما نكون في عالم الاستواء، قد تبدو الأطراف متباعدة تماما، لكن عندما نكون في الدائرة، فإن ما يبدو بعيدا جدا يمكن أن يلتقي في نقطة ما. هناك من يُعرِف التصوف بأنه إخلاص في كل شيء : الإخلاص في العمل و في التقرب من الله و في النية و حتى في السياسة.و اهل الله يقولون” مقامك حيث أقامك”. ربما، لحكمة ما، يجد الإنسان نفسه في عالم قد يتخيله لمدة طويلة جدا لا علاقة له به، في حين أنه في الحقيقة خلق له. حتى في عالم السياسة يمكننا أن نعمل بإخلاص و بأخلاق و جمال وذوق أيضا
أرى أنه كيفما كان العمل الذي نقوم به يجب أن نمارسه بإتقان و محبة كذلك، لأن أصل المحبة هي مقام إلهي، و من وهبه الله المحبة فقد أعطاه طرفا من مقام إلهي يمكنه أين يكون مؤثرا حتى و إن كان يبدو صوته غير مسموع، فنحن في حاجة إلى هذه الهمسة.
أين نحن اليوم من فلسفة التصوف؟
للأسف مع تسارع تطور التكنولوجيات الحديثة في عالمنا اليوم، لم يعد هناك اهتمام بالثقافة العربية الإسلامية بالشكل الذي كان. ابتعدنا عن كل ما هو جميل و روحاني، فالثقافة العربية الإسلامية زاخرة بمظاهر الجمال ، من عمران و شعر و فنون قول و خط عربي وغيرذلك. هذه الأشياء هي التي تصنع لنا هوية وثقافة و حضارة، و ما تركه أسلافنا من علماء و مشايخ التصوف هو كنوز ثمينة ينبغي استعادتها، لأنها إذا اندثرت نصبح بلا هوية.