من هنا يفهم ظهور الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله في الأول من هذا الشهر بعد ساعات من الاتصالات الإيرانية ليزف إلى اللبنانيين خبر الموافقة على ترسيم الحدود حسب اقتراح المبعوث الأميركي أموس هوكشتاين والذي نقلته السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا إلى رؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء، وخصص بعد ذلك خطابه للدفاع عن إنجازات الدور الإيراني بقيادة المرشد علي خامنئي، مستغفلاً عقول الناس بقوله، إنه لولا وجود الدولة الإيرانية بعد اتفاق كامب ديفيد لكانت أوضاع العراق وسوريا ولبنان أكثر سوءاً.
مضحك ومبكٍ كلام نصر الله عن أوضاع أكثر سوءاً مما يحصل في الدول التي تسيطر عليها جمهورية ولي الفقيه، إلا أن الحقيقة هي أنه لم يعد سراً أن نصر الله وحزبه لا هدف لديهما سوى تأمين مصالح النظام الإيراني مما يتطلب أن يبقى لبنان ساحة مباحة بلا حدود ولا سيادة ولا أمن ولا استقرار... يبقى بلداً معزولاً تتحكم إيران بواسطة ذراعها في ثرواته وموارده وطاقاته التي يجيّرها لمصلحة الجمهورية الإسلامية وليس لمصلحة اللبنانيين.
في اليوم الذي أعطى فيه نصر الله إشارة الموافقة على ترسيم الحدود، ترددت أخبار في واشنطن عن عدم ممانعة وزارة الخزانة الأميركية من بيع النفط الإيراني في الأسواق العالمية ليصل إلى مليوني برميل يومياً، أي بزيادة 1.6 مليون برميل في اليوم، حتى لو كان هذا قبل التوصل إلى الاتفاق النووي.
هكذا يتجلى دور نصر الله بتأمين مصالح الإيرانيين، فيتنازل لإسرائيل عن حق لبناني مثبت في الأرض والبحر لقاء زيادة بيع إيران للنفط في الأسواق العالمية. والأنكى أن نصر الله الذي تلحق به المنظومة الحاكمة، يفعل هذا ويمنن الشعب اللبناني أنه دافع عن حقوقهم بمقاومته التي مارسها بتمثيلية مسيّرات هي أقرب إلى لعب أطفال أسقطتها إسرائيل خلال ثوان من انطلاقها.
قبل الإعلان عن الاتفاق، قال المؤرخ الدكتور عصام خليفة، إن ما يجري على صعيد ترسيم الحدود هو سابقة تاريخية يستحق مرتكبوها المحاكمة. واتهم «المنظومة الفاسدة» بتخليها عن ثروة لبنان، واصفاً ما قام به الرؤساء الثلاثة بـ«الخيانة العظمى». وأوضح الدكتور خليفة، أن الخط 23 لا ينطلق من رأس الناقورة وإنما من 30 متراً شمال رأس الناقورة، واعتبر أن لبنان هو الدولة الوحيدة في العالم التي تفتش عن حدود للمنطقة الاقتصادية من خارج حدودها البرية، والتخلي عن نقطة حدود رأس الناقورة خيانة عظمى ومخالفة للدستور. وبعد الإعلان عن الاتفاق قال رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد، إن اتفاق الحدود البحرية تاريخي بين لبنان وإسرائيل ويدعم أمن إسرائيل.
الآن تمت الموافقة، وعند توقيع الدولة اللبنانية التي يسيطر «حزب الله» على جميع مقوماتها على اتفاق ترسيم الحدود، ستعلن وزارة الخزانة الأميركية السماح ببيع النفط الإيراني الذي سيورّد لدولة القمع أكثر من 70 مليار دولار سنوياً لقاء تنازل لبنان عن حقه في حقل كاريش لصالح إسرائيل، بينما يبقى البلد الصغير لبنان غارقاً في العتمة، والفقر والديون والتخبط السياسي والفلتان الأمني والاجتماعي.
لقد وقّعت إسرائيل بالفعل عقداً مع شركة الطاقة اليونانية العملاقة «إنيرجن»، التي وعدت بأول ضخ للغاز لها من كاريش في خريف هذا العام، ويقال مع نهاية هذا الشهر.
وحذر الخبراء من أن لبنان لن يرى ربحاً من الغاز البحري لمدة ثماني سنوات على الأقل، ويرجع ذلك جزئياً إلى التكلفة الأولية العالية للتنقيب والاستخراج.
إن العوامل التي ساعدت في حدوث ذلك أيضاً تعود إلى اهتمامات اقتصادية لبنانية وسياسات داخلية، وحكومة أقل تشدداً في إسرائيل (ماذا لو كان بنيامين نتنياهو)؟ كما أن هوكشتاين كشف عن ذكائه وأنه مستمع جيد واختصر تماطلاً استمر في جيب نبيه بري رئيس حركة أمل ومجلس النواب لأكثر من عشر سنوات، اختصرها في أشهر وكانت مسوّدة الاتفاق، الذي سمّته كل الأطراف «الصفقة التاريخية».
بعد الإعلان عن تسلم لبنان ملف الاتفاق نقلت «رويترز» عن مسؤولين لبنانيين، أن «حزب الله» موافق، ونقلت عن مقرب من الحزب، أنه موافق وأن التعليق الرسمي قريب.
أصغر دولة عربية، فيها حكومتان وجيش وميليشيا وهي كالحامل بدويلة منذ أكثر من أربعين عاماً. الدولة الحقيقية نائمة على ظهرها لأنها لم تنتهِ من عملية الولادة بعد؛ لذلك لا توافق إلا إذا وافقت الميليشيا، فهي لا تستطيع أن تتحرك، وهذه لا يمكن أن تقدم على أي تصرف إلا بعد إذن من «الحرس الثوري» الإيراني.
طبعاً سيقول نصر الله إن «الفضل» له، وإنه وفّر على إسرائيل حرباً، ومن المؤكد أنه يستعد لإيجاد مخرج أو رد على من سيكرر على مسمع الحزب بأن الموافقة «المبدئية» ليست سوى اعتراف ضمني بإسرائيل رغم قوله إنه ومقاتليه ومؤيديه يريدون تدمير إسرائيل. وبما أن الحرب أصبحت أقل احتمالاً لأسباب كثيرة، بينها المصالح الاقتصادية المشتركة، يمكن في المقابل عدم توقع أي نوع من اتفاق سلام. ثم إذا كان لدى لبنان حفارات الغاز الخاصة به، فسيخسر الكثير إذا هاجم «حزب الله» إسرائيل، وهكذا كسبت إسرائيل الردع. أيضاً، إن الفائدة المالية الفورية هي لمصلحة إسرائيل المستعدة لاستخراج الغاز الآن.
فلبنان متأخر، وليس معروفاً ما إذا كان هناك أي غاز والأبشع من هذا أنه من غير المحتمل أن يغير، نبيه ونجيب وجبران وسليمان وسمير ورعد وعلي حسن وبقية من هم في الحكم منذ أكثر من ثلاثين عاماً والطارئون أن يغيروا قواعد اللعبة، وليس خافياً على أحد أن لبنان أسيئت إدارته ونهب، مع خسائر بلغت 70 مليار دولار، ويبدو أنه لا يمكن توقع تغيير النخبة لأساليبها. وقد يكون ما سهّل وصول المسوّدة والتنازلات اللبنانية أن المعتادين على أخذ الحصص، حصلوا على ما يريدون، فلن يتغير عليهم شيء ولن يتغير على اللبنانيين شيء.
في اتصاله مع لبيد، قال له الرئيس الأميركي: إنك تصنع التاريخ! وجماعة الرئيس ميشال عون قالوا له: أنت تصنع الترسيم! في اتصال مع متابع لكل تطورات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل كان شرحه لافتاً:
السؤال الأساسي هو، لماذا استغرقت الأمور كل هذا الزمن؟ لماذا لم يأخذ لبنان المبادرة في التسعينات أو بعدها ليستكشف ولينقب؟ ولماذا وقّع لبنان مع قبرص بشكل يخالف مصالحه؟ وكيف استمرت المسيرة الخاطئة حتى 2012؛ ما أعطى إسرائيل حججاً واهية وفق قانون البحار، لكن السلطة السياسية في لبنان سمحت بذلك.
يضيف: ما هي ظروف ولادة خط هوف الذي لا يعتمد أيضاً على أي مرجع قانوني؟ لبنان اليوم أمام خيارين: الخط 23 أو ربط نزاع على الخط 29. الأول هو الخيار الممكن حالياً، خاصة أن وضع لبنان المالي مهترئ، ولكن ربما كانت هناك حقوق تنازل عنها لبنان اليوم مرغماً تجنباً للحرب أو المزيد من العوز... ماذا سيكتب المؤرخون وماذا سنكتشف؟ هل الغاز وافر أو قليل؟
السؤال المطروح هو هل سيصوّت البرلمان كي يصبح التفاهم اتفاقية ملزمة وتستوجب بالتالي توقيع رئيس الجمهورية. لبنان وافق على وقع تصفيق فقط وللضرورة، ولعل هذا هو الممكن نتيجة مسار مشين لعشرات السنوات لسلطة فاسدة. وأيضاً لضغوط فُرضت عليه عبر «حزب الله».
وكي لا ننسى؛ فإن مخططات إيران المدمرة والشيطانية في لبنان كما في دول المنطقة الأخرى هي أكثر خطورة من كل المخططات؛ لأنها تتغلغل في المجتمعات باسم العقيدة وادعاء نصرة المذهب والدفاع عن المظلومين، ومن ثم تحدث انقسامات بواسطة أذرعها بين مكونات المجتمع الواحد التي تتقاتل فيما بينها لتضعف الدولة وينهار هيكلها، وعندها يطبق الأخطبوط الإيراني عليها ويسيطر. إنه مبدأ فرّق تسد الذي مارسته دول الاستعمار بعد انتصارها في الحروب واحتلالها لدول.
ولكن الفارق أن الاستعمار الإيراني لا يتم بالحروب إنما بإثارة النعرات والتفرقة والكراهية في المجتمعات، وهذا أقسى وأشد إيلاماً من الحروب، وقد بدأ هذا يحدث في إيران نفسها تجاه الأكراد في سنندج وتجاه الطائفة السنية منذ بدء الاضطرابات فيها مع مقتل الصبية مهسا أميني. وعلى لبنان أن يشكر مهسا أميني، فما سببه موتها دفع بإيران إبلاغ «حزب الله» أن يدفع باتجاه الاتفاق ما بين إسرائيل ولبنان. وكل اتفاق وأنتم بخير.