عودة الاحتمال
ورغم الشكوك الكبيرة التي أُثيرت حول هذه الاحتمالية، بالنظر إلى تعقّد الموقف بين الدول المتدخّلة في الملف السوري، والموقف المتحفّظ للولايات المتحدة وروسيا تجاه هذا الخيار، إلا أن ضخامة العملية وكثافة النيران التي استُخدمت فيها، وتوسّع دائرة الاستهداف بشكل غير مسبوق خلالها، دفع الكثيرين إلى تعديل تقديراتهم، ومنهم عبد الوهاب عاصي الباحث في مركز جسور للدراسات.عاصي كان قد نشر ظهر الثلاثاء عدة تغريدات بدا فيها أكثر ميلاً لاستبعاد الهجوم البري، لكنه في تصريحات أدلى بها لأورينت بعد القصف الذي استهدف مدينة إعزاز بريف حلب الشمالي، والمعلومات التي وردت عن استنفار غير مسبوق لقوات الجيش الوطني، اعتبر أن إمكانية الخيار باتت واردة. يقول عاصي: "في العادة تستخدم الجيوش قواتها الجوية من أجل التمهيد للقوات البرية، لكن مؤخراً أوجد الجيش الأمريكي نموذجاً مختلفاً عندما أوكل لسلاح الطيران مهمات شبه متكاملة، تقوم على إنجاز العمليات وتحقيق الأهداف التي يريدها بما يُغني دون التدخل البري، وهذا حدث في العراق على سبيل المثال، والعملية التركية بدت من هذا النوع، إذ كانت واسعة واستخدمت كثافة نارية كبيرة واستهدفت عدداً غير مسبوق من المواقع خلال فترة زمنية قصيرة". ويضيف: "ما سبق جعلنا نميل كمحللين إلى الاقتناع بأن العملية التركية ستكتفي بالقصف الجوي أو الصاروخي مع توسيع وتكثيف هذا القصف، وبالفعل فإن هذا ما كان يحدث بمرور الوقت، بالتزامن طبعاً مع مجمل التصريحات من مختلف الأطراف تعليقاً على تطوراتها، لكن استهداف قسد لمدينة إعزاز وسقوط خمسة ضحايا من المدنيين، مع سيل التصريحات الواردة من مختلف الأطراف أعاد وضع خيار الهجوم البري، على الأقل من جانب الجيش الوطني، على قائمة الاحتمالات مرة أخرى".
متطلبات
إلا أنه حتى مع وجود هذا الاحتمال، فإن شنّ عملية عسكرية كاملة يتطلب تنسيقاً كاملاً مع القوات الأجنبية التي توجد في مناطق سيطرة قسد أو على أطرافها، وهو عالأغلب يعني انسحاب هذه القوات كما حصل عندما غادر الروس عفرين قبيل عملية "غصن الزيتون"، أو عندما انسحب الجيش الأمريكي من تل أبيض ورأس العين غداة عملية "نبع السلام" كما يقول عاصي، الذي يؤكد بذات الوقت أنه ليس هناك مؤشرات على انسحاب الروس أو الايرانيين أو الأمريكان من المناطق المحتملة لتكون وجهة للقوات البرية التركية وفصائل الجيش الوطني.زيادة التعقيد
وقد زاد من غموض الموقف على هذا الصعيد التصريحات التي يمكن وصفها بأنها حمّالة أوجه، والتي صدرت عن المسؤولين الأتراك، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان.فيوم الاثنين، قال أردوغان "إن العمليات في شمال سوريا والعراق لا تقتصر على الحملة الجوية، وسنُجري مناقشات حول مشاركة قوات برية فيها".
ونقلت قناة "خبر ترك" المحلية، عن أردوغان قوله لدى عودته من قطر، إن "هيئة الأركان ووزارة الدفاع ستقرران ما يجب فعله بشأن مشاركة قوات برية، إذ من غير الوارد أن تقتصر العملية العسكرية على الغارات الجوية، وسنتخذ القرار بشأن حجم القوات البرية التي يجب أن تنضم للهجوم". لكن التصريحات الأمريكية والروسية التي بدت شديدة التحفّظ على توسيع دائرة الهجمات التركية لتشمل ما هو أبعد من القصف الجوي، رغم تأكيدها على أحقيّة أنقرة بالعمل على التصدي للتهديدات التي تطالها من الطرف الآخر من الحدود، يبدو أنها أوحت بعدم وجود ضوء أخضر من الطرفين بذلك.
ورغم أن أردوغان قال رداً على ذلك إنه لم يُجر محادثاتٍ مع الرئيسين الأمريكي والروسي بخصوص عملية "المخلب - السيف"، وإن بلاده "تُقرر وتتخذ خطواتها بنفسها ولا تنتظر الإذن من أحد، وعلى الولايات أن تعرفنا جيداً بعد الآن"، إلا أنه أكد في الوقت نفسه يوم الاثنين أن "تركيا ردت على الهجوم الدنيء الذي أودى بحياة ستة أبرياء في قرقميش، بتدمير أهداف إرهابية في شمال العراق وسوريا". تصريح فُهم منه أن أنقرة اقتنعت بالأهداف التسعين التي كانت قد طالتها طائراتها حتى ذلك الوقت، قبل أن يعود ويتحدث يوم الثلاثاء عن أن الدبابات التركية ستدخل إلى سوريا "لاقتلاع الإرهابيين".
وأضاف: أينما يوجد الإرهاب سنذهب.. في شمال سوريا والعراق أنجزنا الأمر في بعض المناطق، وهناك بعض المناطق التي يجب أن نطبق فيها ذلك، ولن يكون هناك من يستطيع منعنا أو الاعتراض على ما سنفعله”.
الدبابات تقترب
إلا أن التصريح الأبرز على الإطلاق بهذا الخصوص كان قول أردوغان: "في أقرب وقت ممكن، سندخل بدباباتنا مع أصدقائنا لتدمير مقرات الإرهابيين، وسنقتلع جذور الإرهابيين".إشارة الرئيس التركي إلى "الأصدقاء" فُهم منه بشكل كبير التعاون مع فصائل الجيش الوطني السوري في العملية البرية التي باتت من وجهة نظر الكثيرين أقرب وأكثر ترجيحاً بعد هذه التصريحات، خاصة مع ورود معلومات عن دخول هذه الفصائل حالة الاستنفار الشامل مساء الثلاثاء. لكن المحلل العسكري والاستراتيجي عبد الجبار العكيدي ورغم أنه يقرّ بأن استبعاد خيار العمل العسكري الشامل، واشتراك القوات البرية في عملية "مخلب السيف" الجارية ليس أمراً صائباً، إلا أنه مع ذلك يرى أن المؤشرات لا تكفي للقول بأن هذا الهجوم وشيك.
العكيدي الذي سبق ورأى خلال مداخلة له في حلقة يوم الاثنين من برنامج "تفاصيل" الذي يُبثّ على شاشة أورينت عدم تطور "المخلب-السيف" إلى ما هو أبعد من القصف الجوي الذي توقّع أن يكون أكثر شمولية وتركيزاً هذه المرة، اعتبر أن تصريحات الرئيس أردوغان تجعل من إعادة تقييم الموقف أمراً ضرورياً.
لكنه مع ذلك يرجّح أن الرئيس التركي كان يريد ترك الباب مفتوحاً على هذا الاحتمال، والاستمرار في ممارسة سياسة الضغط الأقصى على الشركاء والخصوم، وليس بالضرورة القول إن العملية وشيكة أو يجب أن ينطلق الهجوم البري غداً. ويضع العكيدي عدة نقاط يقول إنه يجب أخذها بعين الاعتبار قبل الجزم بتنفيذ هذا الهجوم خلال الساعات أو الأيام القليلة القادمة، وفي مقدمة هذه النقاط عدم وجود منطقة محددة يمكن القول إن القوات يمكن أن تقتحم على قسد منها، خاصة مع استمرار انتشار القوات الأجنبية في جميع المناطق التي تسيطر عليها هذه الميليشيات، سواء في شرق الفرات أو غربه، إلا أن ذلك لن يشكل عائقاً كما يقول في حال اُتخذ قرار بذلك، حيث سبق وانسحبت القوات الأمريكية من تل أبيض قبيل 24 ساعة فقط من انطلاق عملية "غصن الزيتون" عام 2019.
الوجهة المحتملة
أربع مناطق يُرجّح المحللون أن تكون هدفاً للجيش التركي وفصائل الجيش الوطني السوري في حال تقرّر تنفيذ عملية برية شمال وشمال شرق سوريا، هي عين العرب ومنبج وتل رفعت بريف حلب، وعين عيسى بريف الرقة.وبينما ينتشر جنود روس في محيط تل رفعت وعين عيسى، تنتشر قوات أمريكية وبريطانية وفرنسية في عين العرب، أما بمحيط منبج فتوجد نقاط ومواقع للروس ودول التحالف. بالنسبة لتركيا تعتبر عين العرب الهدف الأكثر أهمية، باعتبارها المدينة الوحيدة الحدودية المتبقية بيد ميليشيا قسد في ريف هذه المنطقة بعد طردها من تل أبيض ورأس العين وعفرين.
أما بالنسبة للجيش الوطني السوري، فإن آمال الكثير من قادته ومقاتليه معلقة على استعادة مدينة تل رفعت والقرى المحيطة بها في ريف حلب الشمالي، بالنظر إلى المكانة الرمزية لهذه البلدة لدى الكثير من الثوار، إضافة إلى تهجير الآلاف من عوائلها منذ سيطرة ميليشيا قسد عليها عام 2016 بدعم من الروس.
لكن من حيث المبدأ، سيكون الدخول إلى أي مدينة من هذه المطروحة كخيارات أمراً جيداً بالنسبة لأنقرة التي ستعتبر ذلك مكسباً مهماً في وقت حساس جداً، خاصة مع اقتراب الانتخابات العامة في تركيا وحاجة التحالف الحاكم الذي يقوده حزب العدالة والتنمية إلى مكاسب.
يبدو أن مسألة العملية العسكرية البرية للجيش التركي ستبقى موضع جدلٍ لا يمكن حسمه بسهولة، نظراً لعدم توضّح الموقف الأمريكي والروسي من هذه العملية، على الرغم من تأييد البلدين للهجمات الجوية التي تستهدف قادة حزب العمال الكردستاني الإرهابي في سوريا والعراق، واشتراك أنقرة مع موسكو وواشنطن بملفات ومصالح تفرض التعاطي مع الملف السوري كقضية علاقات مشتركة يؤثّر فيها قرار أي هؤلاء الشركاء على مصالح ومواقف الآخرين.
-------------
أورينت نت