فالسوريون كانوا يعانون بشكل دائم من عدم الاتفاق على تعريف كثير من القضايا ضمن مصطلحات متفق على دلالاتها ومعانيها، وهذا بنتيجته أدى إلى غياب فكرة العقد الاجتماعي بمعناه الواسع، وأدى إلى قدرة مجموعات محددة على الاستيلاء على الدولة ومؤسساتها، ومن ثم إعادة صياغة أنظمة الحكم وفقاً لمصالحها، وفي نهاية المطاف وصلنا إلى الدولة الملحقة بشخص فرد واحد، ومن هنا كانت تسمية سوريا بسوريا الأسد. وهذا تطلّب لاحقاً البحث عن شكلٍ جديد لنظام الحكم فيها، لا يكون رئاسياً واسع السلطات.
إن نجاح نظام الحكم يرتبط بالسياق التاريخي الذي نشأ فيه هذا النظام في بلد معين، بما يتناسب مع خصوصيته السياسية والمجتمعية والثقافية، وبالتالي لابد من أخذ الخصوصية السورية بعين الاعتبار حتى نتمكن من البدء بشكل واضح وصحيح.
ففي سوريا استطاع النظام أن يجعل صنع القرار النهائي محصور فقط برئيس الجمهورية وبالمقابل حرم المجتمع السوري من ممارسة السياسة عبر الأحزاب فصار البرلمان مفرغاً من أي محتوى.
وكذلك تم تجميد منابع السياسة من خلال السيطرة على الصحافة ووسائل الإعلام والنقابات والتنظيمات المدنية والمجتمعية، وهذا الأمر له أثر كبير في إعاقة اللجوء إلى نظام حكم برلماني.
بكل الأحوال، لايوجد مقياس مطلق لتفضيل نظام على آخر، فالعبرة تكون بخصوصية هذا البلد، أي بواقعه وظروفه وإمكاناته ومعاناته وهواجسه وثقافته، وبمستوى الوعي السياسي لأبنائه، وبمستوى تطور أحزابه ومؤسساته، وبالأهداف التي ينشدها، ولذلك، فإن نظاماً ما قد ينجح هنا ويخفق هناك، وقد يخفق في زمن وينجح في آخر والعكس صحيح.
لذلك لابدّ قبل اختيار نظام الحكم لبلد ما من فهم معمق لخصوصية ذلك البلد وكل العوامل المؤثرة فيه، ثم إنشاء صياغات تلائمه، وهذا ما يجدر بنا فعله في سوريا.
ففي سوريا لابد لنا من استعراض واقعنا وظروفنا عشية توفر فرص الانتقال السياسي المأمول، وهذا الاستعراض لا يحتاج عناءً كبيراً، فالوضع الحالي في سوريا يقدم لنا فكرة عما ستكون عليه الحال بعد فترة قد تطول أو تقصر، فالبلد مدمر، ونصف السوريين بين لاجئ ونازح، والجميع منهك وبائس ومكلوم وفقير وعاطل عن العمل، والثقة شبه معدومة بين المكونات.
ولسوء الحظ لدينا نحن السوريين، فإن الآلية التي من شأنها التخفيف من حمولة هذه المعاناة، وأقصد العدالة الانتقالية تبدو بعيدة المنال، ولا وجود لحياة سياسية ولا لأحزاب سياسية معتبرة، فالمعارضة مشتتة وضعيفة ومتناحرة، ومعظمها مرتهن لهذه الدولة أو تلك، ولم تظهر شخصيات وطنية جامعة قادرة على إحداث التأثير المطلوب.
وإذا كان هذا حال المجتمع السوري، فمن الطبيعي أن تنعكس هذه الأمراض والتشوهات على البرلمان الذي سينبثق منه، فالناخب السوري الذي يعيش ظروفاً سيئة، ولم يذهب بحياته إلى انتخابات ديمقراطية، والممتلئ بكل أنواع الهواجس والمخاوف من السوري الآخر، سيتحرّك وفق عاطفته، وسينتخب ممثليه حسب دينهم، أو قوميتهم، أو عشيرتهم، وبالتأكيد ليس على أساس كفاءتهم وبرامجهم.
فالسنّي لن ينتخب إلا سنّياً، والعلوي لن ينتخب إلا علوياً، والكردي لن ينتخب إلا كردياً، وسيعجّ البرلمان بنواب غير مؤهلين.
هذه الحال الموصوفة لن تتغير بين ليلة وضحاها، وسيمرّ وقتٌ طويلٌ، وتتعاقب برلمانات، حتى يحدث النضج السياسي المطلوب، وتتأسس الثقة الكافية بين المكونات، وتتشكل أحزاب سياسية مناسبة، ويبدأ الناس بتغيير معاييرهم في اختيار الممثلين، وحتى ذلك الوقت، لا يمكن الركون إلى مثل هذه البرلمانات في قيادة البلاد كما يستوجب النظام البرلماني، لأنها غير قادرة على تشكيل حكومة ذات كفاءة، تستطيع إحداث فروق إيجابية في حياة الناس البائسة وتوصل البلاد الى الاستقرار.
السوريون الخارجون من هذه المأساة يتوقعون النهاية لآلامهم، يريدون عملاً ومواصلات واتصالات وكهرباء وخدمات مختلفة، يريدون الأمن باختصار، يريدون حكومة قادرة على معالجة هذا الكم الهائل من المشاكل، وهذا كله يحتاج إلى حكومة مستقرة ذات كفاءة وصلاحيات كافية، وهو مالا يمكن في ظل نظام برلماني ناشئ عديم الخبرة.
صحيح أن الاستبداد في نظام رئاسي هو أكثر بكثير من وجوده في نظام برلماني، إلا أنه ثمة ضمانات وإجراءات وخطوات احترازية عديدة، يمكن اتخاذها لقطع الطريق على احتمالات الاستبداد، وليس من الضروري اختيار أحد النظامين، فثمة نظام بديل مختلط أثبت جدارته في العديد من الدول، لما يتمتع به من مرونة وقدرة على التكيف مع أوضاع كل دولة.
وأحاول القول هنا، إن سوريا المستقبل غير مستعدة لخوض تجربة استبداد جديدة، تعيشها عبر نظام رئاسي يمنح الرئيس صلاحيات استثنائية، وهي أيضاً غير قادرة على تحمل أعباء نظام برلماني، لا يمكن أن يكون إلا فاشلاً في ظل الظروف التي تعيشها.
بالتالي فإن الحل الأنسب يكون في تطبيق نظام شبه رئاسي، يستفيد قدر الإمكان من مزايا النظامين الرئاسي والبرلماني، ويتجنب مساوئهما، ويراعي خصوصية وظروف البلاد، نظام يضمن عدم عودة الاستبداد عبر ما يوفره من آليات تمنع تركيز السلطة في يد واحدة، ويتجنب الفشل في العمل الحكومي في ظل نظام برلماني.
وفي النهاية، لا نريد أن نغفل أن النظام البرلماني هو أفضل من يمثل جميع المكونات، إلا أنه من الصعب تطبيقه في سوريا بعد كل ما جرى فيها، لأنه بحاجة إلى قاعدة من الوعي والنضج السياسي والأحزاب الوطنية المستقلة، وطالما أننا بعيدون عن ذلك، فإننا لا نرى إلا عيوب هذا النظام
---------
نينار برس
إن نجاح نظام الحكم يرتبط بالسياق التاريخي الذي نشأ فيه هذا النظام في بلد معين، بما يتناسب مع خصوصيته السياسية والمجتمعية والثقافية، وبالتالي لابد من أخذ الخصوصية السورية بعين الاعتبار حتى نتمكن من البدء بشكل واضح وصحيح.
ففي سوريا استطاع النظام أن يجعل صنع القرار النهائي محصور فقط برئيس الجمهورية وبالمقابل حرم المجتمع السوري من ممارسة السياسة عبر الأحزاب فصار البرلمان مفرغاً من أي محتوى.
وكذلك تم تجميد منابع السياسة من خلال السيطرة على الصحافة ووسائل الإعلام والنقابات والتنظيمات المدنية والمجتمعية، وهذا الأمر له أثر كبير في إعاقة اللجوء إلى نظام حكم برلماني.
بكل الأحوال، لايوجد مقياس مطلق لتفضيل نظام على آخر، فالعبرة تكون بخصوصية هذا البلد، أي بواقعه وظروفه وإمكاناته ومعاناته وهواجسه وثقافته، وبمستوى الوعي السياسي لأبنائه، وبمستوى تطور أحزابه ومؤسساته، وبالأهداف التي ينشدها، ولذلك، فإن نظاماً ما قد ينجح هنا ويخفق هناك، وقد يخفق في زمن وينجح في آخر والعكس صحيح.
لذلك لابدّ قبل اختيار نظام الحكم لبلد ما من فهم معمق لخصوصية ذلك البلد وكل العوامل المؤثرة فيه، ثم إنشاء صياغات تلائمه، وهذا ما يجدر بنا فعله في سوريا.
ففي سوريا لابد لنا من استعراض واقعنا وظروفنا عشية توفر فرص الانتقال السياسي المأمول، وهذا الاستعراض لا يحتاج عناءً كبيراً، فالوضع الحالي في سوريا يقدم لنا فكرة عما ستكون عليه الحال بعد فترة قد تطول أو تقصر، فالبلد مدمر، ونصف السوريين بين لاجئ ونازح، والجميع منهك وبائس ومكلوم وفقير وعاطل عن العمل، والثقة شبه معدومة بين المكونات.
ولسوء الحظ لدينا نحن السوريين، فإن الآلية التي من شأنها التخفيف من حمولة هذه المعاناة، وأقصد العدالة الانتقالية تبدو بعيدة المنال، ولا وجود لحياة سياسية ولا لأحزاب سياسية معتبرة، فالمعارضة مشتتة وضعيفة ومتناحرة، ومعظمها مرتهن لهذه الدولة أو تلك، ولم تظهر شخصيات وطنية جامعة قادرة على إحداث التأثير المطلوب.
وإذا كان هذا حال المجتمع السوري، فمن الطبيعي أن تنعكس هذه الأمراض والتشوهات على البرلمان الذي سينبثق منه، فالناخب السوري الذي يعيش ظروفاً سيئة، ولم يذهب بحياته إلى انتخابات ديمقراطية، والممتلئ بكل أنواع الهواجس والمخاوف من السوري الآخر، سيتحرّك وفق عاطفته، وسينتخب ممثليه حسب دينهم، أو قوميتهم، أو عشيرتهم، وبالتأكيد ليس على أساس كفاءتهم وبرامجهم.
فالسنّي لن ينتخب إلا سنّياً، والعلوي لن ينتخب إلا علوياً، والكردي لن ينتخب إلا كردياً، وسيعجّ البرلمان بنواب غير مؤهلين.
هذه الحال الموصوفة لن تتغير بين ليلة وضحاها، وسيمرّ وقتٌ طويلٌ، وتتعاقب برلمانات، حتى يحدث النضج السياسي المطلوب، وتتأسس الثقة الكافية بين المكونات، وتتشكل أحزاب سياسية مناسبة، ويبدأ الناس بتغيير معاييرهم في اختيار الممثلين، وحتى ذلك الوقت، لا يمكن الركون إلى مثل هذه البرلمانات في قيادة البلاد كما يستوجب النظام البرلماني، لأنها غير قادرة على تشكيل حكومة ذات كفاءة، تستطيع إحداث فروق إيجابية في حياة الناس البائسة وتوصل البلاد الى الاستقرار.
السوريون الخارجون من هذه المأساة يتوقعون النهاية لآلامهم، يريدون عملاً ومواصلات واتصالات وكهرباء وخدمات مختلفة، يريدون الأمن باختصار، يريدون حكومة قادرة على معالجة هذا الكم الهائل من المشاكل، وهذا كله يحتاج إلى حكومة مستقرة ذات كفاءة وصلاحيات كافية، وهو مالا يمكن في ظل نظام برلماني ناشئ عديم الخبرة.
صحيح أن الاستبداد في نظام رئاسي هو أكثر بكثير من وجوده في نظام برلماني، إلا أنه ثمة ضمانات وإجراءات وخطوات احترازية عديدة، يمكن اتخاذها لقطع الطريق على احتمالات الاستبداد، وليس من الضروري اختيار أحد النظامين، فثمة نظام بديل مختلط أثبت جدارته في العديد من الدول، لما يتمتع به من مرونة وقدرة على التكيف مع أوضاع كل دولة.
وأحاول القول هنا، إن سوريا المستقبل غير مستعدة لخوض تجربة استبداد جديدة، تعيشها عبر نظام رئاسي يمنح الرئيس صلاحيات استثنائية، وهي أيضاً غير قادرة على تحمل أعباء نظام برلماني، لا يمكن أن يكون إلا فاشلاً في ظل الظروف التي تعيشها.
بالتالي فإن الحل الأنسب يكون في تطبيق نظام شبه رئاسي، يستفيد قدر الإمكان من مزايا النظامين الرئاسي والبرلماني، ويتجنب مساوئهما، ويراعي خصوصية وظروف البلاد، نظام يضمن عدم عودة الاستبداد عبر ما يوفره من آليات تمنع تركيز السلطة في يد واحدة، ويتجنب الفشل في العمل الحكومي في ظل نظام برلماني.
وفي النهاية، لا نريد أن نغفل أن النظام البرلماني هو أفضل من يمثل جميع المكونات، إلا أنه من الصعب تطبيقه في سوريا بعد كل ما جرى فيها، لأنه بحاجة إلى قاعدة من الوعي والنضج السياسي والأحزاب الوطنية المستقلة، وطالما أننا بعيدون عن ذلك، فإننا لا نرى إلا عيوب هذا النظام
---------
نينار برس