خيوط الشمس المشرقة تداعب الأشجارالمكسوة بالثلج. بياض الثلج لامع يمتد على تلك البيوتِ الخشبية المطليةِ بلون عسلي غامق، و نوافدها الكبيرةِ الزجاجية الشفافة تُظهر جمالَ وأناقة َالبيوت النرويجية ، وعشقَ سكانها للورود الدائمة الخضرة ِ حتى في فصل العواصفِ والثلوجِ. رائحة الدخان تتصاعد من المدافئ توحي إليك أن الحياة نابضة بتلك
الضيعة الصغيرة غرب النرويج. دق جرسُ الكنيسة، كانت عائلة (أندرسن) تتوسط بيتَ الله في احتشام ووقار وسيدة رائعة البهاء واقفة بقرب زوجها ببدلته الأنيقة السوداء، يتحدثان مع المدعووين وبعد لحظات جلس كل شخص في مكانه.وقفت أنالينا أمام القسيس بقامتها الهيفاء وشعرها الأشقرِ الطويلِ، تحدّق في جدران الكنيسة ، تحاول قراءة ما هو مكتوب على الجدران من أزمنة قديمة بخطوط مزخرفة من الصعب قراءتها وهي حول رسومات كنسية غامضة ، تحتاج إلى خبير لفك طلاسمها .
ترتدي فستانا أبيض طويلا، كانت يوما ما أم جدتها تلبسه يوم تمّ تعميدها . بدت لي أنالينا للحظة كآلهة الجمال والحب بوقفتها الملوكية وشموخ رأسها أمام القسيس. وبينما أسترق النظرَ إليها، رأيتها أبهى عذوبة ً من النهار الطالعِ على قريتها في فصل الربيع، حيث يسعى الفلاحون مع مواشيهم على أديم الأرض المرصعة بالحقول والخضرة والماء والطيور، وأغنيات الصباح الصداحة، وحكايات العشقِ والمحبين. بدأ القسيس طقوسه ليعمدها. كانت تبدو مرهقة والوسن يطرزعينيها بالذبولِ. تشعرُ وكأنها على تخوم الفراغ أو قريبة من حافة هاويةٍ لا قرار لها. سأحدثه وأسأله بوضوح وبساطة ومن دون خجل. لن أدعه يصطادني .
سئمت من السباحة في بحر غامض فوقه سماء ضيقة، لم أعد أبصرُها كاملة ومزركشة بالنجوم. لن أتعمد مادمتَ لا تريد أن تشرحَ لي هذا المثلث الغامض.شهق كل من في الكنيسة وبدأت همهمات وهمسات تتداخل فيها الخرافة بالحقيقة والوهم بالواقع، تسبح في فضاء التخمين لحل ألغاز كنسية ، اعتاد المؤمنون منهم على أخذها على محمل اليقين دون مناقشتها ودون أن يفهموها._ ابنتي هذا سر لا يناقَش ولا يشرح، علينا الإيمان به لأنه عقيدتُنا._ إنني أبحث عن الحق و لن أؤمن به إلا بعد قناعتي الكاملة .
لا أريد الغرق في الفراغ الذي تمارسونه كلكم. أنا أبحث عن الحقيقة التي توصلني وكل من حولي للعيش بسلام ، أما هذا الفراغ اللامرئي لن يوصلني إلا للضياع. غادرت أنالينا بكل هدوء القسيس الذي ظلّ واقفا مندهشا من هذه الصدمة التي لم يصادفها طوال عمله الكنسي ، حيث عمّد ألاف من الشباب والصبايا ، وكلهم يستمعون له إيمانا أو تأدبا أو خجلا ، إلا هذه المتمردة أنالينا التي هزت قناعاته الكنسية، دون أن يتمكن من غرس هذه القناعات في عقلها ، فإذا هو في مأزق أمام الحضور، متخوفا أن ينتقل تمرد أنالينا إلى غيرها . وعندئذ لا فائدة للماء الذي بسلطانيته الفضية ، ولا لكؤوس النبيذ المعتق التي يتجرعها المصلون ،
معتقدين أنها تجلب لهم الراحة والطمأنينة ، اعتمادا على ما قرأوه منذ الصغر ( قليل من النبيذ ينعش القلب ) . أصوات تمتد من هنا وهناك في الكنيسة، تمتزج ببعضها، تتلاحم، تنصهر وبخارها يصعد إلى السقف مشكلا همهمات و همسات وشوشات ، حول ما فعلته المتمردة أنالينا ، وعائلتها تغرق في بحر من الخجل والحرج أمام القسيس والأصدقاء الذين جاءوا خصيصا لحضور مراسم التعميد التي تنتظرها العائلات المؤمنة ، فهي تأتي مرة واحدة في العمر. من باب الكنيسة خرجت أنالينا بهدوء، خطاها تخترق ثرثرة الكائنات، تجرها بعيدا عن منفى الفلسفات. رحلتها لم تكن سهلة وحقيبتها مجنونة تتشابك فيها أسئلة تهدهدها الظنون.
عذابها نار يجلد روحها، ودربها طويل يبحث عن الجواب ..."هل سأحرث هذا الكون البور بنفسي؟" . تسير ومازالت في طريقها تخطو على أشواك البحث عن الحقيقة وتتعثر فوق صخور ضياع لا حدود له. فهل يطلع بعد العتمة نورالفجر؟! ذهبت أنالينا عند شهود (يهوه) تبحث عن الحقيقة، تتحرى الكون وترسمه حسب منطقها. لم تكن تراه إلا رماديا. مكثت إثنتا عشرة سنة تشتغل معهم وتبشر مثلهم. سافرت من بلد لآخر ولم تجد في ذلك الدين ما يشفي غليلها. فتنة في الظنون ودعوة للجنون، تتأرجح بين ثنايا الضلال، تغدو تائهة ضائعة، لا تعرف إلى أين ومن ستقصد. سافرت إلى الهند والصين حيث تعرفت على البوذيين والهندوسيين، تأثرت بطقوسهم الروحية التي ترقى بالإنسان إلى عالم المثل. عندما يحل الليل، تفيق لتجاهربأسئلتها اللامتناهية .
في عينيها أهازيج البحر وثورتَه. عيونُ ُ غامضة ُ ُ كالبحر، تستعذب خلوتهَا، تمدّ ُ الكونَ شراعاً وترحل بأفكارها في ملكوت الأشياء وتفسرها كيفما تشاء . تمادت في زهدها تتأمل ما بين السماوات وما فوقهما، ذلك الفضاء المليء بالأسرار، تعدّ ُ خطاها حين تعود من غيبتها متشحة بالشوق وتبحث بعينيها الغارقتين عن الحب. تساقطت الأعوام عليها كأشباح الموت. كل شيء تركته وراءَها ، أهلها وعشيرتها. وضعت الدنيا بما فيها في كفيها وغربلتها فتسربت من بين أصابعها رمادا وهي هناك تصلي. تمنت لو تستطيع قراءة ما في الغيب من أسرار الحب والموت. كل الجهات مطوقة ُ ُ بالغموض ، ورغم ذلك ظلت تبحث عن زاوية للصمت تلوذ بها، وعن جهة هادئةٍ تركن إليها. ما عاد قلبها يحتملُ غربتها البعيدة عن الأهل. لم يعد الغيمُ يظللُ قلبها ليقيهِ الإصطلاء بنار الحياة ولا زرقةُ السماءِ تصفي روحها. قررت أن تشد الرحال أو تحترق كالفراشة في نار عابسة.
قررت أنالينا أن ترجع إلى النرويج، وفي طريقها إلى وطنها تعرفت على شاب علماني، كان يجلس قربَها في الطائرة. أحبته، تزوجت به، تأثرت بفكره وفلسفته في الحياة . أنجبت منه طفلتين ثم سافرت لأول مرة عند أهلها غرب البلاد. كان يغمر فؤادها الشوق للقاء والديها بعد هذه السنين الطويلة. غادرتهم فتاة يانعة، متمردة وهاهي الآن صارت امّا وفي طريقها إلى أهلها تسترجع الماضي، تتذكر حالها وهي صغيرة تلعب بين المروج وتشكل صورا وأشكالا ثلجية. تتذكر عندما كانت ترشق اباها بكرات الثلج وتلك الضحكات التي كانت تخرج بصدق. ذرفت عينيها الدموع، ارتعش قلبها، كم ستكون الفرحة مسكونة بالحزن والفرح بعد غيبتها الطويلة. حتما امي ستنفجر بكاء للقائي. كانت الطريق طويلة وكأن ليس لها نهاية وأخيرا وصلت عائلة (أنالينا) الصغيرة إلى منزل الوالدين.
لم يتغير شيئ، مازالت الضيعة كماهي ومازال سكونها رفيقا لها كما ان باب بيتنا مازال على شكله. كل شيء مازال على حاله. رنت الجرس، تتطلع لزوجها، ترتبك، تشد على اصابعه، تحدث طرطقات، تتطلع لإبنتيها وتبتسم. فُتح الباب. لم يكن اللقاء حارا كما كانت تنتظر . دخلت (أنالينا) إلى المنزل غير منتظرة الإستئذان، تبعها أطفالها أما زوجها فكان واقفا أمام الباب الذي ظل مفتوحا والأم تنظر بعينين حزينتين ساخطتين إلى ابنتها وتارة تسرق النظر إلى ذلك الزوج الأسمر مشمئزة._ كنا نترقب منك كل شيء إلا اعتناقك الإسلام والزواج بأجنبي من هناك.أضاف الأب: _إننا في غاية الحزن والغضب._ لكن يا أمي أنا سعيدة ،سعيدة جدا في حياتي الزوجية._ انهم ارهابيون يا ابنتي. يضربون النساء ويفرضون عليهن الحجاب في لبسهن وعقلهن ويختنون البنات. يتزوجون أكثر من امرأة ويدفنون جثثهن بالأرض تاركين الرأس عاريا.
انفجرت الأم تبكي. _ كفى يا أمي! كل ما تقولينه عبارة عن هراء وافتراء. انظري إلي ماذا يعيب لباسي؟ هل ابنتي مختونتين؟ حرام عليك. جئتكم لأعرفكم على أرحامكم. اقتربت الأم من ابنتها محدقة في عينيها، مزمجرة وشرر من الغضب يتطاير._ لقد وضعت حدا بيننا، وضعت حدودا لا يستطيع أحدنا اختراقها. لم تعودي منا ولن نكون مثلك. انفجرت باكية . ضمّها زوجها إلى صدره وفي نفس الوقت ينظر إلى ابنتيه بحزن صامت . أما انالينا فقد اصابها الذعر من موقف اغتيل فيه الأمل للسلام. التفتت إلى زوجها الذي كان يختنق في شحوبه المقطب بالخجل، يخلع حزنه وصمته محبطا لا يستطيع الدفاع عن النفس في تلك اللحظة الحرجة الصادمة له ولزوجته. قال الأب:_ كفى ما حدث قد حدث. ابنتنا رجعت إلينا بعد طول الغياب. علينا أن نفرح بها ونحتفل.ابتعدت الأم من زوجها نافرة، تتكلم وتثرثر وسط هيجان عاصف ، تتأرجح بين الإستسلام والكبرياء
._ لا ابنتنا لم ترجع إلينا. لقد أصبحت من أتباع المتعصبين المتخلفين. لقد صارت منهم يا (أرلنغ)، أصبحت واحدة من حريمهم. ضاعت ابنتي ... ضاعت أنالينا. كانت أنالينا تشد بكلتي يديها على كتفي بنتيها اللتين كانتا تبكيان لبكاء أمهما. وقالت بحزن وحسرة:أنتم ترونهم إرهابيين، متطرفين وهم يرونكم أيضا مشركين وضالين. الكل يظن نفسه هو الأصح والموعود بالجنة. لقد أسأتم فهم العقيدة ورفعتم راية الصهيل الملتهب ضد بعضكم، يحيل خلفه جهنما من اللهب المتأجج والكره المستديم. كلّ يحرّف حسب رغباته ونزواته
وكل يريد احتكار الله الواحد له. أنتم الضائعون يا أمي ولست أنا. لا أريد أن أتيه معكم في جهلكم وتعصبكم، إلا أنني اخترت بعقلي كيف أتواصل مع خالقي وأتعامل مع غيري رغم اختلاف الدين أواللون. بالحب الحقيقي الذي في إنسانيتي اطمئن قلبي. أمسكت يدي ابنتيها، التفتت إلى زوجها الذي كان متجمدا في مكانه مشدوها من تلك الحفاوة والترحاب. رحلت أنالينا عن عائلتها، وأغلق والداها الباب.
الضيعة الصغيرة غرب النرويج. دق جرسُ الكنيسة، كانت عائلة (أندرسن) تتوسط بيتَ الله في احتشام ووقار وسيدة رائعة البهاء واقفة بقرب زوجها ببدلته الأنيقة السوداء، يتحدثان مع المدعووين وبعد لحظات جلس كل شخص في مكانه.وقفت أنالينا أمام القسيس بقامتها الهيفاء وشعرها الأشقرِ الطويلِ، تحدّق في جدران الكنيسة ، تحاول قراءة ما هو مكتوب على الجدران من أزمنة قديمة بخطوط مزخرفة من الصعب قراءتها وهي حول رسومات كنسية غامضة ، تحتاج إلى خبير لفك طلاسمها .
ترتدي فستانا أبيض طويلا، كانت يوما ما أم جدتها تلبسه يوم تمّ تعميدها . بدت لي أنالينا للحظة كآلهة الجمال والحب بوقفتها الملوكية وشموخ رأسها أمام القسيس. وبينما أسترق النظرَ إليها، رأيتها أبهى عذوبة ً من النهار الطالعِ على قريتها في فصل الربيع، حيث يسعى الفلاحون مع مواشيهم على أديم الأرض المرصعة بالحقول والخضرة والماء والطيور، وأغنيات الصباح الصداحة، وحكايات العشقِ والمحبين. بدأ القسيس طقوسه ليعمدها. كانت تبدو مرهقة والوسن يطرزعينيها بالذبولِ. تشعرُ وكأنها على تخوم الفراغ أو قريبة من حافة هاويةٍ لا قرار لها. سأحدثه وأسأله بوضوح وبساطة ومن دون خجل. لن أدعه يصطادني .
سئمت من السباحة في بحر غامض فوقه سماء ضيقة، لم أعد أبصرُها كاملة ومزركشة بالنجوم. لن أتعمد مادمتَ لا تريد أن تشرحَ لي هذا المثلث الغامض.شهق كل من في الكنيسة وبدأت همهمات وهمسات تتداخل فيها الخرافة بالحقيقة والوهم بالواقع، تسبح في فضاء التخمين لحل ألغاز كنسية ، اعتاد المؤمنون منهم على أخذها على محمل اليقين دون مناقشتها ودون أن يفهموها._ ابنتي هذا سر لا يناقَش ولا يشرح، علينا الإيمان به لأنه عقيدتُنا._ إنني أبحث عن الحق و لن أؤمن به إلا بعد قناعتي الكاملة .
لا أريد الغرق في الفراغ الذي تمارسونه كلكم. أنا أبحث عن الحقيقة التي توصلني وكل من حولي للعيش بسلام ، أما هذا الفراغ اللامرئي لن يوصلني إلا للضياع. غادرت أنالينا بكل هدوء القسيس الذي ظلّ واقفا مندهشا من هذه الصدمة التي لم يصادفها طوال عمله الكنسي ، حيث عمّد ألاف من الشباب والصبايا ، وكلهم يستمعون له إيمانا أو تأدبا أو خجلا ، إلا هذه المتمردة أنالينا التي هزت قناعاته الكنسية، دون أن يتمكن من غرس هذه القناعات في عقلها ، فإذا هو في مأزق أمام الحضور، متخوفا أن ينتقل تمرد أنالينا إلى غيرها . وعندئذ لا فائدة للماء الذي بسلطانيته الفضية ، ولا لكؤوس النبيذ المعتق التي يتجرعها المصلون ،
معتقدين أنها تجلب لهم الراحة والطمأنينة ، اعتمادا على ما قرأوه منذ الصغر ( قليل من النبيذ ينعش القلب ) . أصوات تمتد من هنا وهناك في الكنيسة، تمتزج ببعضها، تتلاحم، تنصهر وبخارها يصعد إلى السقف مشكلا همهمات و همسات وشوشات ، حول ما فعلته المتمردة أنالينا ، وعائلتها تغرق في بحر من الخجل والحرج أمام القسيس والأصدقاء الذين جاءوا خصيصا لحضور مراسم التعميد التي تنتظرها العائلات المؤمنة ، فهي تأتي مرة واحدة في العمر. من باب الكنيسة خرجت أنالينا بهدوء، خطاها تخترق ثرثرة الكائنات، تجرها بعيدا عن منفى الفلسفات. رحلتها لم تكن سهلة وحقيبتها مجنونة تتشابك فيها أسئلة تهدهدها الظنون.
عذابها نار يجلد روحها، ودربها طويل يبحث عن الجواب ..."هل سأحرث هذا الكون البور بنفسي؟" . تسير ومازالت في طريقها تخطو على أشواك البحث عن الحقيقة وتتعثر فوق صخور ضياع لا حدود له. فهل يطلع بعد العتمة نورالفجر؟! ذهبت أنالينا عند شهود (يهوه) تبحث عن الحقيقة، تتحرى الكون وترسمه حسب منطقها. لم تكن تراه إلا رماديا. مكثت إثنتا عشرة سنة تشتغل معهم وتبشر مثلهم. سافرت من بلد لآخر ولم تجد في ذلك الدين ما يشفي غليلها. فتنة في الظنون ودعوة للجنون، تتأرجح بين ثنايا الضلال، تغدو تائهة ضائعة، لا تعرف إلى أين ومن ستقصد. سافرت إلى الهند والصين حيث تعرفت على البوذيين والهندوسيين، تأثرت بطقوسهم الروحية التي ترقى بالإنسان إلى عالم المثل. عندما يحل الليل، تفيق لتجاهربأسئلتها اللامتناهية .
في عينيها أهازيج البحر وثورتَه. عيونُ ُ غامضة ُ ُ كالبحر، تستعذب خلوتهَا، تمدّ ُ الكونَ شراعاً وترحل بأفكارها في ملكوت الأشياء وتفسرها كيفما تشاء . تمادت في زهدها تتأمل ما بين السماوات وما فوقهما، ذلك الفضاء المليء بالأسرار، تعدّ ُ خطاها حين تعود من غيبتها متشحة بالشوق وتبحث بعينيها الغارقتين عن الحب. تساقطت الأعوام عليها كأشباح الموت. كل شيء تركته وراءَها ، أهلها وعشيرتها. وضعت الدنيا بما فيها في كفيها وغربلتها فتسربت من بين أصابعها رمادا وهي هناك تصلي. تمنت لو تستطيع قراءة ما في الغيب من أسرار الحب والموت. كل الجهات مطوقة ُ ُ بالغموض ، ورغم ذلك ظلت تبحث عن زاوية للصمت تلوذ بها، وعن جهة هادئةٍ تركن إليها. ما عاد قلبها يحتملُ غربتها البعيدة عن الأهل. لم يعد الغيمُ يظللُ قلبها ليقيهِ الإصطلاء بنار الحياة ولا زرقةُ السماءِ تصفي روحها. قررت أن تشد الرحال أو تحترق كالفراشة في نار عابسة.
قررت أنالينا أن ترجع إلى النرويج، وفي طريقها إلى وطنها تعرفت على شاب علماني، كان يجلس قربَها في الطائرة. أحبته، تزوجت به، تأثرت بفكره وفلسفته في الحياة . أنجبت منه طفلتين ثم سافرت لأول مرة عند أهلها غرب البلاد. كان يغمر فؤادها الشوق للقاء والديها بعد هذه السنين الطويلة. غادرتهم فتاة يانعة، متمردة وهاهي الآن صارت امّا وفي طريقها إلى أهلها تسترجع الماضي، تتذكر حالها وهي صغيرة تلعب بين المروج وتشكل صورا وأشكالا ثلجية. تتذكر عندما كانت ترشق اباها بكرات الثلج وتلك الضحكات التي كانت تخرج بصدق. ذرفت عينيها الدموع، ارتعش قلبها، كم ستكون الفرحة مسكونة بالحزن والفرح بعد غيبتها الطويلة. حتما امي ستنفجر بكاء للقائي. كانت الطريق طويلة وكأن ليس لها نهاية وأخيرا وصلت عائلة (أنالينا) الصغيرة إلى منزل الوالدين.
لم يتغير شيئ، مازالت الضيعة كماهي ومازال سكونها رفيقا لها كما ان باب بيتنا مازال على شكله. كل شيء مازال على حاله. رنت الجرس، تتطلع لزوجها، ترتبك، تشد على اصابعه، تحدث طرطقات، تتطلع لإبنتيها وتبتسم. فُتح الباب. لم يكن اللقاء حارا كما كانت تنتظر . دخلت (أنالينا) إلى المنزل غير منتظرة الإستئذان، تبعها أطفالها أما زوجها فكان واقفا أمام الباب الذي ظل مفتوحا والأم تنظر بعينين حزينتين ساخطتين إلى ابنتها وتارة تسرق النظر إلى ذلك الزوج الأسمر مشمئزة._ كنا نترقب منك كل شيء إلا اعتناقك الإسلام والزواج بأجنبي من هناك.أضاف الأب: _إننا في غاية الحزن والغضب._ لكن يا أمي أنا سعيدة ،سعيدة جدا في حياتي الزوجية._ انهم ارهابيون يا ابنتي. يضربون النساء ويفرضون عليهن الحجاب في لبسهن وعقلهن ويختنون البنات. يتزوجون أكثر من امرأة ويدفنون جثثهن بالأرض تاركين الرأس عاريا.
انفجرت الأم تبكي. _ كفى يا أمي! كل ما تقولينه عبارة عن هراء وافتراء. انظري إلي ماذا يعيب لباسي؟ هل ابنتي مختونتين؟ حرام عليك. جئتكم لأعرفكم على أرحامكم. اقتربت الأم من ابنتها محدقة في عينيها، مزمجرة وشرر من الغضب يتطاير._ لقد وضعت حدا بيننا، وضعت حدودا لا يستطيع أحدنا اختراقها. لم تعودي منا ولن نكون مثلك. انفجرت باكية . ضمّها زوجها إلى صدره وفي نفس الوقت ينظر إلى ابنتيه بحزن صامت . أما انالينا فقد اصابها الذعر من موقف اغتيل فيه الأمل للسلام. التفتت إلى زوجها الذي كان يختنق في شحوبه المقطب بالخجل، يخلع حزنه وصمته محبطا لا يستطيع الدفاع عن النفس في تلك اللحظة الحرجة الصادمة له ولزوجته. قال الأب:_ كفى ما حدث قد حدث. ابنتنا رجعت إلينا بعد طول الغياب. علينا أن نفرح بها ونحتفل.ابتعدت الأم من زوجها نافرة، تتكلم وتثرثر وسط هيجان عاصف ، تتأرجح بين الإستسلام والكبرياء
._ لا ابنتنا لم ترجع إلينا. لقد أصبحت من أتباع المتعصبين المتخلفين. لقد صارت منهم يا (أرلنغ)، أصبحت واحدة من حريمهم. ضاعت ابنتي ... ضاعت أنالينا. كانت أنالينا تشد بكلتي يديها على كتفي بنتيها اللتين كانتا تبكيان لبكاء أمهما. وقالت بحزن وحسرة:أنتم ترونهم إرهابيين، متطرفين وهم يرونكم أيضا مشركين وضالين. الكل يظن نفسه هو الأصح والموعود بالجنة. لقد أسأتم فهم العقيدة ورفعتم راية الصهيل الملتهب ضد بعضكم، يحيل خلفه جهنما من اللهب المتأجج والكره المستديم. كلّ يحرّف حسب رغباته ونزواته
وكل يريد احتكار الله الواحد له. أنتم الضائعون يا أمي ولست أنا. لا أريد أن أتيه معكم في جهلكم وتعصبكم، إلا أنني اخترت بعقلي كيف أتواصل مع خالقي وأتعامل مع غيري رغم اختلاف الدين أواللون. بالحب الحقيقي الذي في إنسانيتي اطمئن قلبي. أمسكت يدي ابنتيها، التفتت إلى زوجها الذي كان متجمدا في مكانه مشدوها من تلك الحفاوة والترحاب. رحلت أنالينا عن عائلتها، وأغلق والداها الباب.