ليس شعراً وحسب، ولا طرباً وكفى، بل جملة مغايرة عن السائد فكرياً وثقافياً ليومنا الحالي، مفارقة ذهنية مدهشة، تترسم من خلالها علاقة الكلي وأجزائه ومكوناته. فالكل المعروف فلسفياً بأنه مجرد، مهيمن، طاغٍ، متعالٍ، فيما في طواسين الحلاج لحظة تجلٍ وإبهار. ذات تبحث في شبهة الكلي، في مكنونه ومحتواه. فالأجزاء لا تمثل الكل، فيما الكل أكبر من مجموع الأجزاء. موقف ضد الفلسفة المادية المحضة، ضد التفكيكية السياسية للمجتمعات والدول لطوائف وإثنيات. ثمة ما هو فوق المادة، خارج الحس القاصر معرفياً، هو ليس ميتافيزيقاً، ولا لهواً ولا عبثاً. إنها الطاقة فيزيائياً التي حررها أينشتاين نظرياً من أسر المادة الصماء، قبل أن تحررها تجريبياً معامل مانهاتن في أمريكا منتصف القرن الماضي. هي روح أمة، هويتها، نكهتها الثقافية المتمايزة، إذا ما تحررت من أسر السلطات. والسلطات والحكم المعرّف بالشمول والكلية الطاغية وضعية مادية جاثمة. فلا حملت كلية الحلاج سلطات الشرق، ولا أرضه تمكنت من رعاية هذا الفكر المتقدم قبل أن تطلقه فيزياء العصر الحديث. وما قطع رأسه وسلخ لحمه سوى مجزرة حضارة كانت قيد التشكل فلا عجب مما نعيش اليوم.
ليست تراجيديا حياتية هذه المقدمة الطويلة، بل إحالة لموقف مختلف من الفكر الحديث والذي دشنته فيزياء القرن العشرين. تلك التي أقامت الوصلة المذهلة بين المادة المرئية المحسوسة المباشرية، وبين حالتها الطاقية والموجية غير المرئية. المادة/ موجة وطاقة، مثنوية مترافقة، لا فصل بين إحداهما سوى في مجازفات الفكر النظري وحسب. هما مترافقان ومتواكبان ومتراكبان حتى وإن قصرت حواسنا ومعارفنا السليمة المألوفة عن إدراك هذا، وهذا بحر من البحوث والتطبيقات التي نعيشها عصرياً اليوم.
القصة ليست فيزياء وحسب، ولا لكونها اختصاص، بل القصة قصة فكر وثقافة أجازت التجزئة والتفكيك أيديولوجياً وسياسياً ومجتمعياً. وهذا سائد فينا لليوم مادياً بحكم سلطات الأمر الواقع، وبحكم غطرسة القوة الروسية العسكرية وبحكم تغول العولمة الأمريكية قبلها. والملفت للنظر أن جميعها تصطف في جانب قطع رأس الحضارة، بدءاً من وأد الربيع العربي ومقتلة شبابه وأحلامه المتحررة من أسر عبودية السلطات مادية الطابع والهوى في الاستحواذ والمُلك، وصولاً لتهديد الحياة البشرية وسلامة الكوكب برمته، إذا ما استخدمت السلاح النووي.
أجل الفيزياء النووية، فكر الكلية أكبر من أجزائها، جمالية الكون في الخلق والتكوين كانت الأساس الذي استنتجت منه الأسلحة النووية، فهل كان علينا أن نكتفي بغنائها صوفياً أو بقائها معادلات نظرية؟ قال عن استحالة تطبيقها أينشتاين عملياً: “كمن يريد للخفافيش أن تخرج من العتمة للعيش في النور”، لكنها باتت واقعاً تجريبياً، حين باشرت معامل مانهاتن في أمريكا طرقها التقنية في تحرير طاقة المادة عملياً واستخدام تطبيقاتها، حرباً وصناعة. فهل نتنكر للفيزياء النووية؟
خروج الخفافيش للنور، وثقل بعضي لا تحمله أرضي! مقولتان ذات إدهاش، وكأنها تدرك القادم. هذه الطاقة الكبرى التي لم تنضبط لمصلحة الحياة كإنتاج الطاقة الكهربائية، والعلاج الحيوي والطبي، تعقيم البذور وتحسين جودة الزراعة وآلاف التطبيقات التقنية التي تفيد الإنسانية مجتمعاً وكوناً. هذه الطاقة العظمى التي تم تطبيقها تعليمياً في مناهج العلم الحديث في أحدث نظريات التعلم والتعليم الألمانية في المدرسة الجشتالطية Gestalt Psychology حين تعتبر أن طاقات وإمكانيات الفرد الذاتية أكبر من وجوده الجسماني واللحظي والمتعين، فتعمل على إطلاقها كاملة وتحريرها من رقبة التقييد والتقنين. تعطي لكل فرد طاقته الإبداعية الخلاقة مساحة واسعة لممارستها فكراً وإبداعاً وصناعةً، حيث الإنسان ككلية أكبر من مكونات أجزائه، ما نتج عنها تحرير الطاقة الكلية من مواهب وقدرات فردية في المجتمع تعليمياً. أما سلطات الاستبداد الشرقي فهي تقطع يدي الحلاج ورجليه قبل أن تحرقه وتعدمه بحيث لا تحتمل الأرض ثقل التحرر والموقف العقلي والروحي والعلمي هذا، وسياسات العصر الاستحواذي الطامح للسيطرة على الكون بالقوة، تهدد باستخدامها كسلاح يقتل الحياة والفكر والموهبة، ويهدم المادة والموجة والطاقة والحياة برمتها.
هي ليست نسبية نووية قاتلة، ولا صوفية طورانية متعالية، بل مساحة للتحرر وسعادة الإنسان وارتقائه معرفياً وحياتياً ومادياً. فيما ذاتها تصبح آلة تدمير وقتل، حين تستولي على استخدامها أيادي المادية المتمثلة بالسلطة وشهوة الحكم المطلق، سواء كانت علمية سياسية محضة، كما فعلت أمريكا من خلال قنبلتي هيروشيما وناكازاكي اليابانية في الحرب العالمية الثانية، أو الروسبوتينية الحديثة التي تهدد الحياة البشرية اليوم باستخدام السلاح النووي، أو سلطات الاستبداد السياسي والديني في عوالم الشرق تهدم عوالمنا وحيواتنا.
الكل المتضمن كل صفات الخاصات (جمع خاص) وليس إحداها، كلية الإنسان عند الحلاج أكبر من بعضه، من قدميه، من أحلامه، من فكره. إنه الإنسان في جماع إنتاجه ووجوده العام، لا فكرة الشخص بذاته وذاك الإمبراطور بعظمته وذلك القيصر بهيلمانه. هي نسبية إينشتاين في الطاقة والتحول المتبادل كمي- طاقي، ونظرية العلوم اليوم وقبل قرن من الآن؛ هي إنتاج لحظة اللقاء تلك بين نظرية المعرفة بعمقها الفلسفي والأخلاقي مع نظرية العلوم وتخصصاتها المتعددة. تلك العلاقة التي تشترط المعرفة العلمية بوجود حدين مشروطين معاً في شكل الوجود، كل منهما يلجم الآخر من الشطط، فلا تصبح الحياة مجرد مادة واستحواذ وموت فقط، ولا هي روح لاهوتية وحسب. بل ثمة تبادل معرفي، جدل وصيرورة؛ وأيضاً هذان الحدان ليسا متناقضين ومتفانين مثنوياً، بل مولدان معاً لجمل الحياة الأخرى في شروط الزمان والمكان.
لم تعد تكفي اتفاقيات عدم انتشار السلاح النووي وحدها، بل لا بد للفكر الإنساني أن يمتلك القدرة على إثبات أحقيته في لجم الأنفس الأمارة في الهدم والقتل وفناء البشر جماعات وشعوباً. سلام الكون وحق تقرير الشعوب مصائرها وحقوق الإنسان هي ما يجب أن تطفو على سطح الكوكب، لا فعلاً نظرياً وحسب، بل واقعاً تطبيقياً كما فعلها مانهاتن قبل عقود. وفعلها التطبيقي يبدو لي يبدأ من روح الأمم، من شعوبها في كل رقعة على الأرض، في روسيا، في أمريكا، في إيران، في قلب أوروبا، في سوريا ودول الشرق الأسير، رافضة للغة الموت المخيم على سطح الكوكب اليوم، وقد عملت على إزاحة سلطات المادة والسيطرة الغاشمة، حينها سنتابع إنشاد الحلاج معاً ومعزوفة الفيزياء النووية: بعضنا يحمل بعضاً، وكلنا في سلام وأمان.
-----------
سوريا الامل
ليست تراجيديا حياتية هذه المقدمة الطويلة، بل إحالة لموقف مختلف من الفكر الحديث والذي دشنته فيزياء القرن العشرين. تلك التي أقامت الوصلة المذهلة بين المادة المرئية المحسوسة المباشرية، وبين حالتها الطاقية والموجية غير المرئية. المادة/ موجة وطاقة، مثنوية مترافقة، لا فصل بين إحداهما سوى في مجازفات الفكر النظري وحسب. هما مترافقان ومتواكبان ومتراكبان حتى وإن قصرت حواسنا ومعارفنا السليمة المألوفة عن إدراك هذا، وهذا بحر من البحوث والتطبيقات التي نعيشها عصرياً اليوم.
القصة ليست فيزياء وحسب، ولا لكونها اختصاص، بل القصة قصة فكر وثقافة أجازت التجزئة والتفكيك أيديولوجياً وسياسياً ومجتمعياً. وهذا سائد فينا لليوم مادياً بحكم سلطات الأمر الواقع، وبحكم غطرسة القوة الروسية العسكرية وبحكم تغول العولمة الأمريكية قبلها. والملفت للنظر أن جميعها تصطف في جانب قطع رأس الحضارة، بدءاً من وأد الربيع العربي ومقتلة شبابه وأحلامه المتحررة من أسر عبودية السلطات مادية الطابع والهوى في الاستحواذ والمُلك، وصولاً لتهديد الحياة البشرية وسلامة الكوكب برمته، إذا ما استخدمت السلاح النووي.
أجل الفيزياء النووية، فكر الكلية أكبر من أجزائها، جمالية الكون في الخلق والتكوين كانت الأساس الذي استنتجت منه الأسلحة النووية، فهل كان علينا أن نكتفي بغنائها صوفياً أو بقائها معادلات نظرية؟ قال عن استحالة تطبيقها أينشتاين عملياً: “كمن يريد للخفافيش أن تخرج من العتمة للعيش في النور”، لكنها باتت واقعاً تجريبياً، حين باشرت معامل مانهاتن في أمريكا طرقها التقنية في تحرير طاقة المادة عملياً واستخدام تطبيقاتها، حرباً وصناعة. فهل نتنكر للفيزياء النووية؟
خروج الخفافيش للنور، وثقل بعضي لا تحمله أرضي! مقولتان ذات إدهاش، وكأنها تدرك القادم. هذه الطاقة الكبرى التي لم تنضبط لمصلحة الحياة كإنتاج الطاقة الكهربائية، والعلاج الحيوي والطبي، تعقيم البذور وتحسين جودة الزراعة وآلاف التطبيقات التقنية التي تفيد الإنسانية مجتمعاً وكوناً. هذه الطاقة العظمى التي تم تطبيقها تعليمياً في مناهج العلم الحديث في أحدث نظريات التعلم والتعليم الألمانية في المدرسة الجشتالطية Gestalt Psychology حين تعتبر أن طاقات وإمكانيات الفرد الذاتية أكبر من وجوده الجسماني واللحظي والمتعين، فتعمل على إطلاقها كاملة وتحريرها من رقبة التقييد والتقنين. تعطي لكل فرد طاقته الإبداعية الخلاقة مساحة واسعة لممارستها فكراً وإبداعاً وصناعةً، حيث الإنسان ككلية أكبر من مكونات أجزائه، ما نتج عنها تحرير الطاقة الكلية من مواهب وقدرات فردية في المجتمع تعليمياً. أما سلطات الاستبداد الشرقي فهي تقطع يدي الحلاج ورجليه قبل أن تحرقه وتعدمه بحيث لا تحتمل الأرض ثقل التحرر والموقف العقلي والروحي والعلمي هذا، وسياسات العصر الاستحواذي الطامح للسيطرة على الكون بالقوة، تهدد باستخدامها كسلاح يقتل الحياة والفكر والموهبة، ويهدم المادة والموجة والطاقة والحياة برمتها.
هي ليست نسبية نووية قاتلة، ولا صوفية طورانية متعالية، بل مساحة للتحرر وسعادة الإنسان وارتقائه معرفياً وحياتياً ومادياً. فيما ذاتها تصبح آلة تدمير وقتل، حين تستولي على استخدامها أيادي المادية المتمثلة بالسلطة وشهوة الحكم المطلق، سواء كانت علمية سياسية محضة، كما فعلت أمريكا من خلال قنبلتي هيروشيما وناكازاكي اليابانية في الحرب العالمية الثانية، أو الروسبوتينية الحديثة التي تهدد الحياة البشرية اليوم باستخدام السلاح النووي، أو سلطات الاستبداد السياسي والديني في عوالم الشرق تهدم عوالمنا وحيواتنا.
الكل المتضمن كل صفات الخاصات (جمع خاص) وليس إحداها، كلية الإنسان عند الحلاج أكبر من بعضه، من قدميه، من أحلامه، من فكره. إنه الإنسان في جماع إنتاجه ووجوده العام، لا فكرة الشخص بذاته وذاك الإمبراطور بعظمته وذلك القيصر بهيلمانه. هي نسبية إينشتاين في الطاقة والتحول المتبادل كمي- طاقي، ونظرية العلوم اليوم وقبل قرن من الآن؛ هي إنتاج لحظة اللقاء تلك بين نظرية المعرفة بعمقها الفلسفي والأخلاقي مع نظرية العلوم وتخصصاتها المتعددة. تلك العلاقة التي تشترط المعرفة العلمية بوجود حدين مشروطين معاً في شكل الوجود، كل منهما يلجم الآخر من الشطط، فلا تصبح الحياة مجرد مادة واستحواذ وموت فقط، ولا هي روح لاهوتية وحسب. بل ثمة تبادل معرفي، جدل وصيرورة؛ وأيضاً هذان الحدان ليسا متناقضين ومتفانين مثنوياً، بل مولدان معاً لجمل الحياة الأخرى في شروط الزمان والمكان.
لم تعد تكفي اتفاقيات عدم انتشار السلاح النووي وحدها، بل لا بد للفكر الإنساني أن يمتلك القدرة على إثبات أحقيته في لجم الأنفس الأمارة في الهدم والقتل وفناء البشر جماعات وشعوباً. سلام الكون وحق تقرير الشعوب مصائرها وحقوق الإنسان هي ما يجب أن تطفو على سطح الكوكب، لا فعلاً نظرياً وحسب، بل واقعاً تطبيقياً كما فعلها مانهاتن قبل عقود. وفعلها التطبيقي يبدو لي يبدأ من روح الأمم، من شعوبها في كل رقعة على الأرض، في روسيا، في أمريكا، في إيران، في قلب أوروبا، في سوريا ودول الشرق الأسير، رافضة للغة الموت المخيم على سطح الكوكب اليوم، وقد عملت على إزاحة سلطات المادة والسيطرة الغاشمة، حينها سنتابع إنشاد الحلاج معاً ومعزوفة الفيزياء النووية: بعضنا يحمل بعضاً، وكلنا في سلام وأمان.
-----------
سوريا الامل