فهناك رجال أعمال سوريون، حققوا نجاحات كبيرة في الداخل السوري قبل هيمنة النظام الأمني الذي عرقل تلك النجاحات، بل أوقفها بشعارات ثوروية كانت للتغطية على سياسة التحكّم بمقدرات العباد والبلاد، والأمثلة في هذا المجال أكثر من الكثيرة. كما هناك العديد من السوريين ممن حققوا إنجازات اقتصادية في الخارج، وتمكنوا من انتزاع الاعتراف بدور وأهمية نجاحاتهم في أوساط تنافسية تراعي المقاييس العالمية. ولكن تلك النجاحات ظلت في الإطار الفردي، ولم تتحول إلى ظاهرة اجتماعية عامة، كان من شأنها تفعيل المجتمع السوري، والنهوض به، ليكون في مستوى الإمكانيات والتطلعات، وقادراً على مواجهة التحديات.
والأمر ذاته في الميادين الفكرية والثقافية، فقد اعتمد نظام حافظ الأسد منذ بدايات سيطرته على الحكم بالقوة في بداية السبعينات سياسة تسطيح العقول عبر تحويل الجامعات والمؤسسات العلمية والثقافية إلى واجهات إعلامية لنظامه، مهمتها التطبيل لإنجازاته، وتسويق ثقافة القطيع الموجه، ومحاربة الفكر النقدي بكل اختصاصاته وأشكاله.
هذا رغم وجود طاقات فكرية وثقافية استطاعت بصورة فردية تقديم نتاج معرفي متميز، سواء في الداخل أم في الخارج، غير أن هذا النتاج لم يتحول هو الآخر بكل أسف إلى ظاهرة عامة، كان من شأنها منح السوريين قسطاً كافياً من المناعة في مواجهة مشاريع التسميم والتضليل الأيديولوجية في صيغها الدينية والعلمانية والقومية.
أما في المجال السياسي، فإن امكانية العمل الجماعي الفاعل تبدو أصعب، إن لم نقل شبه مستحيلة، وذلك بسبب النهج الذي اعتمده حافظ الأسد على صعيد تفتيت القوى السياسية المعارضة، وملاحقتها، وزرع عناصر استخباراته ضمن صفوفها، واستخدام القمع المفرط في محاربة القوى والأحزاب التي تمرّدت على التدجين، وهو التدجين الذي فرضه على الأحزاب التي جمعها ضمن إطار «الجبهة الوطنية التقدمية» التي شكلها عام 1972 لتكون واجهة تغطي قرارات ومشاريع أجهزته الأمنية؛ تماماً مثلما فعل مع حزب البعث الذي جعله بموجب الدستور الذي ألزم السوريين به عام 1973 قائداً للدولة والمجتمع. هذا في حين أن الحزب المذكور لم يتمكن في جميع الأحوال من تجاوز تعليمات وقرارات الأجهزة الأمنية التي تحكّمت بكل مفاصله، بما في ذلك تعيين أعضاء مؤتمراته، وقياداته على جميع المستويات، ولم يقتصر التحكم الأمني بحزب البعث على ذلك فحسب، بل تضمن أيضاً اتخاذ الإجراءات الرادعة بحق المشتبه بولائهم من دون مواجهة أي اعتراض من جانب الحزب المعني.
ونتيجة هذا الواقع، لجأ الكثير من السوريين إلى أسلوب المعارضة الفردية عبر الابتعاد عن حزب السلطة وأجهزتها الأمنية القمعية، وحتى عن الأحزاب الأخرى التي كان يعتقدون، وما زالوا، بأنها مخترقة، واكتفوا بانتقاد السلطة والأوضاع في المجالس الخاصة، وحتى في المجال العام أحياناً، الأمر الذي أودى بالكثيرين منهم إلى السجون ولفترات طويلة.
وفي بداية الثورة السورية العارمة، التي انفجرت رفضاً لعقود من القمع والفساد والإفساد السلطوي، كان التحدي الكبير الذي تمثل في كيفية تشكيل قيادة تجمع بين ممثلي مختلف القوى السياسية والمجتمعية السورية الثائرة على السلطة، لتكون بمثابة القيادة الوطنية الجامعة للثورة.
ولم يكن الوصول إلى هذا الهدف بالأمر السهل بطبيعة الحال؛ بل استغرق الكثير من الوقت والجهد، وكانت هناك محاولات عدة، قبل التوافق على تشكيل المجلس الوطني السوري، والإعلان عنه في صيغته النهائية بصورة رسمية في الثاني من تشرين الأول/اكتوبر 2011.
وقد جاءت هذه الخطوة لتكون مقدمة لتشكيل فريق سياسي سوري وطني قادر على إدارة خلافاته البينية ومعالجتها. تتجسد مهمته الأساسية في قيادة الثورة إلى حين إسقاط النظام، لتبدأ مرحلة جديدة بعد انعقاد مؤتمر سوري عام، يفتح الطريق أمام انتخابات حرة، تسفر عن برلمان منتخب، يصادق على تشكيل حكومة تخضع لمساءلته ومحاسبته…
ولكن الذي حصل هو أن النزعة الفردية طغت ثانية خاصة من خارج المجلس، فكانت حملات التشكيك والاتهامات من دون أي سند، إلى جانب التضليل والتشويش؛ وقد تناغمت تلك الحملات في الكثير من الأحيان مع ادعاءات السلطة، وحسابات الدول التي كانت تدعم ثورة السوريين بالأقوال، في حين أنها على الصعيد الواقعي لم تقدم المطلوب لتتمكن تلك الثورة من بلوغ أهدافها سواء بالوسائل السياسية التي أرادها السوريون أم العسكرية التي فرضت عليهم.
وكانت الاتصالات مع خارجيات الدول، بل وأجهزتها أيضاً، في سبيل تجاوز المجلس، وهو الأمر الذي حذّرنا منه في الاجتماعات الخاصة والعامة، وذلك لمعرفتنا بأنه سيلحق الأذى الكارثي بقضية السوريين الثائرين على السلطة، ولمعرفتنا، من موقع الخبرة والتجربة، بحجم وطبيعة الصعوبات الكبرى التي ستواجهنا في سعينا لتشكيل فريق سياسي وطني منسجم جديد، يلتزم بالأولويات السورية في الظروف التي كنا فيها. ولكن مع ذلك، ورغم كل الدعوات المطالبة بضرورة اختيار القيادة التي ستقود الثورة من قبل السوريين أنفسهم، لم تسفر التحذيرات والمناشدات عن نتيجة. وكان ظهور الائتلاف الذي شكّلته الدول، وجاءت أسماء في واجهة المشهد لم نكن قد سمعنا بها سابقاً في المعارضة، ومع ذلك وجدنا ضرورة الاستمرار في العمل وفاء لتضحيات السوريين وتطلعاتهم. وكانت الأخطاء التي تفاقمت حتى وصلنا إلى يومنا هذا الذي باتت فيه هيئات «المعارضة الرسمية» عبئا على الثورة، بينما كان الأمل والمطلوب هو أن تكون أن تكون عوناً وموجها لها.
وقد جرت محاولات عديدة لتجاوز هذه الوضعية من قبل السوريين في العديد من الأماكن، ولكنها لم تثمر حتى الآن بكل أسف، ويبدو أن السبب الرئيس الذي يعرقل العمل الجماعي يتشخّص في النزعة النرجسية والحسابات الشخصية والانتهازية، وعدم القدرة على التكيّف مع مستلزمات العمل ضمن فريق يتم توزيع العمل بين افراده.
ونحن في هذا السياق لا نقدّم المجلس الوطني بوصفه الإنجاز المثالي الذي تم التآمر عليه، فقد كانت للمجلس هو الآخر أخطاؤه وعثراته كما أسلفنا. ويُشار هنا بصورة أساسية إلى القراءة الخاطئة التي اعتمدت في التعامل مع المعادلات الإقليمية والدولية، وانعكاساتها على الثورة السورية. فقد كان الاعتقاد هو أن التغيير سيكون سريعاً، وأن الدول ستلتزم بوعودها القطعية، وهو الأمر الذي لم يحصل.
كما أن المجلس لم يتمكن من طمأنه سائر السوريين بمشروع وطني متكامل، يحترم خصوصيات وحقوق جميع المكونات السورية بصرف النظر عن انتماءاتها القومية والدينية والمذهبية. وفي الوقت ذاته أخفق المجلس في التعامل مع السوريين في المخيمات والمهاجر كما كان ينبغي، وربما كان ذلك تحت وطأة القراءة الخاطئة المشار إليها، وهذا ما أشرنا إليه وتناولناه في أكثر من مناسبة.
ولكن ما نود قوله، والتأكيد عليه هنا، هو أن التركيز على ضرورة تجاوز المجلس قد أدى إلى المزيد من الانهيارات والتداعيات في العمل السوري المناهض لسلطة الاستبداد والفساد والإفساد، والآن وبعد مرور أكثر من 12 سنة على انطلاقة الثورة، ما زلنا نردد على السوريين الثائرين على سلطة آل الأسد ما العمل؟
ما ينبغي أن نركز عليه اليوم أكثر من أي شيء آخر، هو أن نبحث معاً في كيفية تشكيل فريق عمل سوري يلتزم بأولويات سورية، أولويات تستمد مشروعيتها من التضحيات غير المسبوقة التي قدمها السوريون من أجل الحرية والكرامة والعدالة؛ وترتقي إلى مستوى تطلع السوريين نحو نظام وطني يحترم مواطنيه، ويضمن مستقبلاً حراً كريماً واعداً لأجيالهم المقبلة.
ومن الأهمية بمكان في هذا السياق هو أن تتم الاستفادة من الأخطاء التي كانت؛ وأن يكون التركيز على القوى الثورية الحقيقة، وليست الشعاراتية المتسلقة، في الداخل. وذلك بعد أن أخفقت المحاولات والتجارب الكثيرة في الخارج في هذا المجال.
ولكن في جميع الأحوال يبقى التواصل والتفاعل وتبادل الخبرات بين الداخل والخارج من بين الضرورات التي لا بد أن تراعى وتؤخذ بعين الاعتبار، وإنما بشروط الداخل لأنه هو الذي يعاني، وهو الذي يمتلك القدرة على تقديم رؤية واقعية لطبيعة وحجم التحديات، وماهية الحلول الممكنة.
------------
القدس