لم تؤثر قصيدة من الاداب الاجنبية في العصر الحديث في الادباء العرب مثلها..وذلك لسببين يعودان للقصيدة ذاتها وللشاعر.. فالشاعر كان من رواد الحداثة في الادب الغربي ومن كبار أعلام النقد الادبي وكان من رواد الشعر الحر في الشعر الانجليزي.. لقد تأثر به وبمقولاته وأفكاره وقصائده عدد كبير من الادباء والشعراء والنقاد العرب منهم على سبيل المثال لا الحصر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة ولويس عوض وصلاح عبدالصبور وجبرا ابراهيم جبرا وأدونيس ويوسف الخال ومحمود درويش ويوسف اليوسف وغيرهم.
والقصيدة تعد من أكبر وأعقد القصائد الشعرية ثراء في تناولها لقضايا الانسان المعاصر واعطاء بعد حضاري متواصل من خلال ربط الاحداث والاسماء والشخصيات بتراث الحضارات الاوروبية المختلفة كاليونان والرومان وغيرها من تلك التي ظهرت في اوروبا. كما يوظف فيها الشاعر كل ابداعاته واطلاعاته الواسعة على اللغات الاوروبية فهناك علاوة على الانجليزية الفرنسية والالمانية والروسية والاسبانية واللاتينية وغيرها ويستمد من تراث الاساطير والملاحم والرموز العالمية الشيء الكثير مما يجعل القصيدة ليست في متناول القاريء العادي، بل تحتاج الى ثقافة واسعة من الاطلاع وحب البحث والتحري والتقصي للوقوف على مراميها وأبعاد مضامينها. كانت رحلتي مع القصيدة حينما أهداني كتابه الاستاذ الكبير الدكتور عبدالواحد لؤلؤة وهو الناقد الادبي المعروف وصاحب موسوعة المصطلح النقدي ، والمهتم بدراسة تاريخ ونقد الاداب الاوروبية المختلفة وخاصة المعاصرة منها في الشعر والرواية والمسرح علاوة على اهتمامه الكبير بدراسة الادب الشكسيبيري، اضافة الى ترجماته العديدة ودراسته للادب العربي المعاصر وأعمال شعراء مرحلة الريادة الشعرية والحداثة. وقد بذل المؤلف في هذا الكتاب جهدا بحثيا في الترجمة الشعرية ونقدها والادب المقارن من خلال تناول دراسة ترجمات هذه القصيدة الكبرى وهي أرض اليباب التي قام بها أربعة من الادباء العرب وتحليل ترجماتهم وبيان نقاط ضعفها او ابتعادها عن اصابة المعنى الحقيقي او قلة اطلاع المترجم على اصول الكلمات وجذورها في اللغات الاوروبية. وقد قدم المؤلف ترجمته للقصيدة حيث حاول ان يعوض عن نقص تلك الترجمات.
أما الشاعر فهو ت. س. إليوت واما القصيدة الكبرى فهي الارض اليباب The Waste Land by T. S. Eliot . كان شاعرا وكاتبا مسرحيا وناقدا ومن أشهر الشعراء والنقاد في القرن العشرين الذين ما تزال أعماله تؤثر في أجيال من الادباء. ولد الشاعر إليوت في عام 1888 وتوفي عام 1965 . وقد تخلى عن جنسيته الامريكية في عام 1927 واكتسب البريطانية ، كماتحول للمذهب الانجليكاني. الف العديد من الكتب في مجال النقد الادبي وبعض المسرحيات علاوة على دواوين الشعر. فمن قصائده المشهورة أغنية حب جي الفرد بروفروك، وأربعاء الرماد، والرجال الجُوَف، والرباعيات الاربع، والارض اليباب. وقد نال جائزة نوبل في الاداب عام 1948 .
وفي مجال المسرح فقد كتب مسرحية جريمة في الكاتدرائية، ومسرحية الاجتماع العائلي، ومسرحية حفلة شرب وغيرها علاوة على اسهاماته النقدية. ومن أهم الافكار التي طرحها اليوت في النقد الشعري كانت فكرة تواصل التراث. ففي مقالته" التراث والموهبة الفردية" اعتبر ان الشعر يجب أن يكون امتدادا للتراث الادبي والحضاري للامم السابقة وليس منقطعا عن سياقه التاريخي، فالفن ليس منقطعا من سياقه، ومن الضروري فهم التراث الادبي للامم السابقة حتى نتمكن من فهم وتفسير وملاحظة تأثيرها العميق في اعمالنا المعاصرة. ومن الافكار الاخرى الهامة التي اوردها هي المعادل الموضوعي والذي يعني ربط النص بالأحداث وحالات الذهن والتجارب، وأنه لا بد من وجود حكمٍ نقدي موضوعي غير ذاتي يتم الوصول اليه من خلال تعدد القراءات التي قد تكون مختلفة، لكنها تتكامل لتفسير العمل، وبالتالي يصبح هذا هو المعادل الموضوعي لتفسير العمل الادبي.
أما الارض اليباب، فانها قصيدة حداثية كبرى اشتغل عليها اليوت سنوات وأهداها بعد ان رأى انها اكتملت عناصرها المتعددة والمعقدة الى استاذه عزرا باوند. ولم يترك إليوت شيئا الا وذكره في القصيدة ما بين توظيف اللغات اللاتينية والاغريقية والالمانية والسنسكريتية الهندية والاساطير والقصص اليونانية والرومانية والاروبية الجرمانية والشرقية وهناك اشارات مسيحية ايضا. تعكس القصيدة ثقافة اليوت العالية التي عبر عنها في النقد. والقصيدة ملأت الدنيا وشغلت الناس. حتى امتد تأثيرها للعالم العربي. فهي قصيدة تتكون من خمسة فصول طويلة هي دفن الموتى، ولعبة الشطرنج، وموعظة النار، والموت بالماء، وما قاله الرعد. كتبها اليوت عام 1922 بعد نهاية الحرب العالمية الاولى وبعد طلاقه من زوجته الاولى. فكانت تمثل انهيار حلم ظن جيل كامل انه باق. القصيدة تعكس اجواء غياب اليقين والوهم والدمار والانحطاط الاخلاقي والانهيار النفسي الذي أصاب جيلا كاملا. فالحرب كانت نهاية مرحلة هامة من الفكر الاوروبي التي تحطمت قيمته في شوارع مدن اوروبا المدمرة، ومن هنا نشأت الكثير من المدارس الفكرية والفلسفية والادبية والفنية والشعرية التي كانت خروجا على تلك المرحلة. ونلمح في القصيدة توظيف السخرية والرؤيا والسحر، كما نلاحظ تغير صوت المتكلم لاعطاء حالة التنوع والتشظي التي اصابت فكر الانسان المعاصر. كما نلاحظ توظيف الرموز والاساطير واسماء شخصيات تاريخية وانتقال مكان الحدث فجأة وزمانه تأكيدا لمذهب اليوت النقدي في التراث والموهبة الفردية.
وقد أحببت أن اقتطف الجزء الاول من القصيدة بعنوان دفن الموتى من ترجمة الاستاذ الدكتور عبدالواحد لؤلؤة في كتابه المنشور بعنوان: "الارض اليباب: الشاعر والقصيدة".
الارض اليباب
بعينيّ أنا رأيت (سيبيلاّ) في كومي معلقة في قارورة، وعندما كان يصيح بها الاولاد:" سيبيلاّ ماذا تريدين؟"؛ كانت تجيبهم دوماً: " أتمنى أن أموت"
الى عزرا باوند الصانع الامهر
1 دفن الموتى
نيسان اقسى الشهور، يخرج
الليلكَ من الارضِ الموات، يمزج
الذكرى بالرغبة، يحرّك
خامل الجذور بغيث الربيع.
الشتاء دفّأنا يغطي
الارض بثلج نسّاء، يغذي
حياة ضئيلة بدرنات يابسة.
الصيف فاجأنا، ينزل على بحيرة (شتارنبركَر)
بزخة مطر؛ توقّفنا بذات العُمد،
ثم واصلنا المسير اذ طلعت الشمس، فبلغنا (الهوفكَارتن)
وشربنا قهوة،
ثم تحدّثنا لساعة.
ما أنا بالروسية، بل من ليتوانيا، ألمانية أصيلة
ويوم كنا اطفالا، نقيم عند الارشيدوق،
ابن عمي، اخذني على زلأّقة،
فاصابني الخوف. قال، ماري،
ماري، تمسكي باحكام، وانحدرنا نزولاً.
في الجبال يشعر المرء بالحرية
اقرأ معظم الليل وانزل الجنوب في الشتاء.
ما هذه الجذور المتشّبتة، اية غصون تنمو
من هذه النفايات المتّحجرة؟ يا ابن ادم،
انت لا تقدر ان تقول او تحزر، لأنك لا تعرف غير
كومة من مكسّر الاصنام، حيث الشمسُ تضرب،
والشجرة الميتة لا تعطي حمايةً، ولا الجندبُ راحةً،
ولا الحجرُ اليابسُ صوتَ ماء. ليس
غير الظل تحت هذه الصخرة الحمراء
(تعال الى ظل هذه الصخرة الحمراء)،
فأريك شيئا يختلف عن
ظلك في الصباح يخبّ وراءك
أو ظلك في المساء ينهض كي يلاقيك؛
لسوف أريك الخوف في حفنة من تراب.
نشيطة تهبّ الريح
تجاه الوطن
يا فتاتي الايرلندية
أين تنتظرين
" أعطيتني زنابق أول الامر منذ سنة؛
فصرت أدُعى فتاة الزنابق".
ولكن عندما رجعنا، متأخرين، من حديقة الزنبق،
ذراعاكِ ممتلئان وشعركِ مبلولٌ، ما استطعتُ
الكلام، وخانتني عيناي، لم أكن،
حيّاً ولا ميتاً، ولا عرفتُ شيئاً،
وأنا أنظر في قلب الضياء، الصمت.
موحشٍ وخالٍ هو البحر.
(مدام سوسوستريس، البصّارة الشهيرة،
أصابها زكام شديد، ومع ذلك
فهي معروفة كأحكمِ امرأةٍ في أوربا
لديها رِزمة ورق خبيثة. اليكَ، قالت،
هذه ورقتك، الملاح الفنيقي الغريق،
(لؤلؤتين كانتا عيناه. انظر!)
هذه بيلادونا سيدة الصخور
سيدة المواقف
هنا الرجل ذو العصيّ الثلاث، وهنا العجلة،
وهنا التاجر وحيد العين، وهذه الورقة،
وهي خالية، هي شيء يحمله على ظهره،
محجوبة عنّي رؤيته. أنا لا أجد
الرَّجل المصلوب. إخشَ الموت بالماء
أرى جموعاً من الناس، يدورون في حلقة.
شكراً. اذا رايت العزيزة (مسز إيكويتون)
قل لها إني سأجلب خريطة البروج بنفسي:
على المرء أن يكون حذرا هذه الأيام.
مدينة الوهم،
تحت الضباب الاسمر من فجر شتائي،
إنساب جمهور على جسر لندن، غفير،
ما كنت أحسب أن الموت قد طوى مثل هذا الجمع.
حسراتٍ، قصيرة متقطعة، كانوا ينفثون،
وكل امرىء قد ثبت ناظريه أمام قدميه.
انطلقوا صعدا ثم انحدروا في شارع الملك وليم
الى حيث كنيسة القديسة (ماري ولنوث) تعدّ الساعات
بصوت قتيلٍ على آخر الدقة التاسعة.
هناك رايت واحداً عرفته، فاستوقفتُه صائحاً: (ستِتْسن)!
" يا من كنتَ معي على السفائن في "مايلي!"
" تلك الجثة التي زرعتَها السنة الماضية في حديقتك،
" هل بدأت تورق؟ هل ستزهر هذه السنة؟
" أم أن الصقيع المباغت قد أقضّ مضجعها؟
" ابعدِ الكلبَ عنها، فهو صديق للبشر،
" وإلا فسيحفر بأظافره ويستخرجها ثانية!
" أنت، أيها القاريء المرائي! يا شبيهي، يا أخي!"
------------
بيت الكتاب - مدونة الكاتب
------------
بيت الكتاب - مدونة الكاتب