وبعيداً عن الأسماء الكبيرة في الشعر العربي؛ الموهوبون بالفطرة والمتميزون بالقدرة الفائقة على ابتكار الصور والإبداع الأصيل بالفكرة والأسلوب الذين لم يسبقهم إليه أحد… والذين تبدو أشعارهم كقطع الحلوى كلما أكلت منها طلبت المزيد وتتمناها أن لا تنفد…
أشعارهم كعليقة موسى تتوهج باستمرار دون أن تترمد. إنهم عمالقة الشعر العربي محمد الماغوط ونزار قباني، اثنان من الملوك المتربعين على عرش مملكة الأدب العربي ورؤساء جمهوريات الشعر والإبداع. بعيداً عن هؤلاء وفي منقلب آخر… يوجد من يصف أنواع الشعراء بقوله: «الشعراء أربعة: شاعر يجري ولا يُجرى معه، وشاعر يخوض وسط المعمعة، وشاعر لا تود أن تسمعه، وشاعر لا تستحي أن تصفعه».
وهو النموذج من الشعر المنتشر والمحبب للشعراء أنفسهم ولدى جمهور ذلك الشاعر المتصنع البعيد عن الشعر الراغب بالشهرة السريعة، أو الترويج والكسب المادي، أو غايات لا نعرفها، كلها في النتيجة تحد من استمراره في مجال الشعر ولكنها تعطي انطباعات مؤقتة أولية جيدة لرواد مواقع التواصل الاجتماعي والمهرجانات، ولكنها وهمية غير حقيقية، لا تلبث أن تتلاشى وتختفي عندما تقترب منها وتظهر فراغها المعرفي والإبداعي.
يبدو واضحاً أن معظم الشعراء السوريين الذي ترجمت أعمالهم إلى اللغات الأجنبية وخاصة الإسكندنافية والجيرمانية والصينية واليابانية والتايوانية قد تمت على أساس العلاقات العامة وليس على أساس الاستحقاق الإبداعي.
وهو الأمر الذي جعل حضور الأدب السوري في اللغات الأجنبية يملك شهوة الحضور ليس إلا، لا لكاتب قدم خدمة كبيرة لوطنه أو للإنسانية من خلال عمل أدبي وأظهر إبداعاً قل نظيره. خلال الأسابيع القليلة الماضية خلال تجوالي في إحدى المكتبات الجامعية الكبيرة في ألمانيا اطلعت على عدد من ترجمات الأدب العربي، شعر ورواية وأدهشني ندرتها الشديدة… لأعمال أدباء عرب معاصرين والذين شكلوا علامة فارقة في الأدب العربي الحديث عددهم لا يتجاوز ثلاثة أو أربعة ترجمت أعمالهم إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية.
بالمقابل وفي ظل الانفتاح الكبير في العالم السيبراني وبعد ثورات الربيع العربي، وانتشار ثقافة العلاقات العامة السطحية في مواقع التواصل الاجتماعي والغروبات الشعرية على الفيسبوك والواتس آب، التي أنتجت شللاً، متكاتفة ومتلاحمة بعضها مع بعض، والتي غيرت من مفاهيم الثقافة وحب الذات والاقتباسات العالمية بعيدة عن مصادرها الأساسية وبمعزل عن ورودها في سياقها السردي الذي قدمه وأبدعه الكاتب.
ثمة عدد من الشعراء المصابين بمتلازمة عدوى الموافقات الأدبية والأمنية من اتحادات الكتاب ووزارات الثقافة والإعلام السورية مما شكل لديهم عقد نقص وردود أفعال مرضية بشهوة الحضور الدائم، وترجمت أعمالهم إلى لغات أجنبية شرق آسيوية إسكندنافية وجيرمانية ظناً منهم أنها ستوصلهم للعالمية… فيما هم غير معروفين إلا على الفيس بوك وفي احتفاليات مختلفة، بينما أبناء الشعر الأوائل، الرائعين اختفت أسماؤهم من التداول في المناسبات الدولية لصالح هذه المجتمعات الاستهلاكية… من شعراء الإعلانات والجوائز.
وأود هنا أن أمر على أهم خمسة شعراء من شعرائنا: الأول الشافعي والثاني المتنبي، والثالث أبي علاء المعري والرابع والخامس أختارهما من العصر الحديث نزار قباني ومحمد الماغوط… المدهش أننا لا نجد لهم ترجمة لأعمالهم حتى إلى أهم ثلاث لغات في العالم الإنكليزية والفرنسية والألمانية.
منذ فترة قريبة استمعت إلى لقاء مع بروفيسور فرنسي متخصص بالأدب العربي في جامعة السوربون قال:
لو عرف المجتمع الغربي وقرأ أبا العلاء المعري، لكانت أغلبية رسائل الدكتوراه في الفلسفة والأدب لن تمنح لطلاب الدكتوراه…لأنها لم تشكل إضافة معرفية لمجتمع الثقافة العربية أو العالمية.
يقول الشاعر الفرنسي العظيم شارل بودلير يصف هؤلاء الشعراء: “الشعراء الصغار الذين يفوزون دائماً بجوائز لم يسمع بها أحد ودواوين لم يقرأها أحد، الذين يتشدقون دائماً بكلمات من قبيل «الوطن»، «والأخلاق»، «والشرف» وغيرها من عبارات العلو والرفعة… يذكرونني بـ «لويز فليديو» وهي عاهرة بخمسة فرنكات، رافقتني ذات يوم في زيارة إلى متحف اللوفر، وكانت تلك أول مرة تزور فيها هذا المتحف، فاحمر وجهها وراحت تغطيه بكفها وتجذبني من كم السترة، متسائلة أمام اللوحات الخالدة: كيف أمكن عرض كل هذه العورات على الناس؟”
طبعاً يشمل هذا الطرح أيضاً مشكلة غياب المثقف المنتج للثقافة بكافة أشكالها المتنوعة، لصالح وجوه بائسة تتصدر المشهد وتقود النقاش العام، وهي خالية الوفاض من أي مضمون معرفي أو أخلاقي ….
ويبقى السؤال مفتوحاً.. من المسؤول عن هذا التقصير والخلل والتزوير؟
هل هي اتحادات الكتاب العرب ووزارات الثقافة… أم أولادهم المشوهون في شلليات الفيسبوك والواتس واحتفاليات زمن السوشال ميديا الخلبية