نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


أبو القعقاع… ذكريات… الطريق إلى داعش





لا يحتاج اسم ابي القعقاع الى سند من التاريخ ليقرع رعبه في سمع الجماهير الهائجة، فموسيقا القعقعة تكفي لحشد مشهد الطبول والسيوف والحراب وصهيل الخيل، ولا يطول بك البحث حتى تجد له ذكراً موصولاً إلى الفارس الانتحاري القديم القعقاع بن عمرو التميمي الفارس الذي تقدم في معركة اليرموك هائجاً معصوب الجبين يصرخ في الناس: من يبايع على الموت؟؟ من يبايع على الموت؟؟ حتى تقدم معه أربعون من الشباب الثائر يقتحمون معه صفوف الموت في قلب جيش الروم ولا يعود منهم أحد، ويتركون أكثر ذكريات الشجاعة والهول في غبار معارك الموت.
لا شك ان هذه المعاني كانت في ضمير الفتى الحلبي الكردي أبو القعقاع المولود عام 1973في قرية الفوز شمال مدينة حلب وينتمي الى عشيرة الديدان.


 

حين اختار هذا الاسم عنوانا لمشروعه القتالي الجهادي الذي انطلق به من جامع الصاخور في حي شعبي عنيد على الجانب الشرقي من مدينة حلب.

تعرفت إلى ابي القعقاع عقب محاضرة ألقيتها في مركز الدراسات الاسلامية بدمشق 2006 حيت طلب الكلام ليعقب على المحاضرة، وقدم نفسه باسم الدكتور محمود قول آغاسي، وصعد المنصة بخطى واثقة في مظهر أناقة لافت حيث بدا كمتحدث أكاديمي متوازن تميزه نظارتان لا تخطئ العين تناغم لونهما مع لون الكرافتة الأنيقة على صدره واللحية الرقية المهذبة في وجهه، وبدا بالفعل ممسكاً بناصية الخطابة في اقتدار واحتراف، وأذكر جيداً أن الخاطر الذي خامرني وأنا أستمع إليه هو قدرات عمرو بن العاص الخطابية، وذكرت كلمة عمر بن الخطاب الذي كان إذا رأى رجلاً عيياً يعثر في الخطاب يقول أشهد أن خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد!!!

 دعوته إلى مكتبي ودخل معه فتيان أما أحدهما فكان يرتدي بنطالا وأما الآخر فدشداشة جلبية، ورأيته لا يتحدث في شيء إلا أومأ لهما، وكانا بين يديه ككتبة الوحي، تزوغ أعينهما في كل ما حولك، فيفهمان كل شيء، ولكنهما يبدوان كأن على رؤوسهما الطير.

وجلسنا نتحدث طويلاً، وأدهشتني في الرجل الشخصية القيادية الكبيرة التي يمتلكها، كما أدهشتني معرفته بتفاصيل مشروعي في التجديد الديني ونشاط مركز الدراسات الإسلامية في ذلك، حيث كان المشروع آنذاك مثار جدل عنيف وكان المشايخ يوصون تلامذتهم بالحذر من مركز الدراسات الإسلامية الذي يتبنى التفكير الديمقراطي في الإسلام الذي سيقود في النهاية إلى ما كانوا يسمونه (تيار العقلانيين) الرافض لخيارات الفقهاء.

كنا حينئذ في وارد ترتيب حفل فني كبير في ساحة سعد الله الجابري في حلب بمناسبة إعلان حلب عاصمة للدولة الإسلامية، وكان الرجل يدهشني بفهمه تماما لطبيعة المشروع وآفاقه، واستجابته للمساهمة بل وتوجيه الأوامر المحددة لصاحبيه لإعدادات لوجستية غاية في الدقة.

حين خرج الرجل قلت لأصحابي إن الرجل بالفعل خطيب مفوه وقيادي واضح وبوسعنا أن نعتمد عليه تماما في مشروعنا في حلب، ومباشرة قال لي أحدهم: ولكن هل من مصلحة مشروعنا الكرنفالي الشعبي اللاعنفي أن يكون بترتيب أبو القعقاع؟

أدركت حيند أن الرجل الأنيق المتمكن في الخطابة والمعرفة انما هو أبو القعقاع الأسطوري نداء الجهاد الهادر الذي تفجر وسط مستنقع خمود كئيب يلف المؤسسة الدينية الوعظية التقليدية في سوريا…

لم يظهر في كلام الرجل أي اتجاه للعنف، لقد تحدث بعمق عن ثقافة السلام والحوار مع الغرب، وربما عزز من علاقتي به أنني كنت مؤمناً بوجود مساحة للعمل في ظل هذاالنظام القمعي، وكان يشاركني هذه القناعة، ونتبادل تقديم الأدلة على ذلك في عملية تكاذب غير معلن، بهدف تبرير نشاطنا الذي نقوم به في ظل النظام الصارم الرافض إيديولوجياً أي معنى للحراك السياسي من خلفية دينية.

كان أبو القعقاع لغزاً حقيقياً، فسوريا التي تعيش حالة فريدة من الضبط القمعي الصارم، استمر لأكثر من خمسة وأربعين عاماً والمفرطة في حساسيتها تجاه كل ما هو إسلام سياسي، وهو خطاب يتبناه النظام سرا وعلنا، وله فلاسفته حتى من رجال الدين وخطباء الجمعة، كيف يسوغ أن يظهر فيه فجأة رجل كأبي القعقاع، في حي عنيد من أحياء حلب الشعبية المكتظة، حيث كان الرجل يقوم في مسجده بالصاخور ليس بإلقاء الخطب الحماسبة في الجهاد فحسب بل يقوم بالتدريب اللوجستي على القتال داخل المسجد!! والتدريب على استخدام أنواع من السلاح، ويؤكد علناً أننا ذاهبون للقتال في فلسطين والعراق مع إخوتنا المجاهدين من القاعدة وذلك لمواجهة الاحتلال الامريكي الصليبي الكافر؟؟؟
كان اكثر المصدومين بالوضع في جامع الصاخور هم المؤسسات الحكومية والحزبية التي كانت تدرك ان خطبة واحدة من هذا اللون الجهادي تكفي ليمضي الخطيب بقية عمره في سجون النظام، وأن تتم موجة اعتقالات لأسرته وأصدقاءه ومساعديه والمتصلين به والمتصل بهم والمستمعين لخطبه والمدونين اسمه على دفاتر هواتفهم والناظرين إليه بإحسان.

ولكن شيئا من ذلك لم يحصل وكانت أوقاف حلب ترسل قرارات اقالته كزخ المطر ولكنه سرعان ما يصدر توجيه بعودته إلى مكانه، في ظروف غامضة مشحونة بالأسرار تقبل كل التكهنات.

وكانت خطبة الجمعة في الصاخور فرصة لمشاهدة حدث فريد حيث يشهد الألوف المحتشدون في المسجد وحواشيه خطبة بالغة الحماس يتلوها دعاء انفعالي صاخب على أمريكا والغرب الكافر، ثم يقوم الشيخ في جو هتافات صاخبات بعقد ألوية الجهاد والهتاف للمجاهدين الراحلين إلى أرض الرباط في فلسطين والعراق المحتل، وكان يؤكد في مجالسه الخاصة أنه قام بالفعل بالقتال في العراق مع عدي ابن صدام حسين في إحدى الغزوات ضد الامريكان!!

ولا شك أن الألوية التي عقدها لفلسطين قد تحركت وفق القاعدة العربية البائسة طريق القدس يبدأ من؟؟ وهذه المرة من العراق، حيث كانت السفارة العراقية التي ظلت موالية للبعث في نسخته السورية تخصص بالتعاون مع فرع أمني متخصص باصين اثنين كل أسبوع في معرض دمشق الدولي تحت عناوين زيارات عائلية ودينية وبزنس ولم تكن هذه الباصات إلا مركباً لنقل المقاتلين إلى العراق لمواجهة المشروع الأمريكي.

ألوف الشباب التحقوا بالقتال في العراق، ومع أن التنائج كانت صادمة لكل من توجه للقتال حيث تعرض مئات من الشباب السوري للقتل بدم بارد عبر مافيات متخصصة كانت تعمل في خدمة المشروع الأمريكي وكانت ترى في هؤلاء صحوة بعثية لمؤازرة صدام والعودة إلى العهد البائد.

ولكن المخابرات السورية كانت تمارس لعبة بلا قلب، وبدا بالفعل أن موضوع المقاتلين السوريين والجهاديين القادمين من  مختلف أنحاء العالم ليس إلا مشروع ترحيل للمقاتلين بصيغة ماركة غير مسجلة إلى طاحونة الموت، وكان الهدف الحقيقي هو إحداث فارق على الأرض بواسطة هؤلاء الجهاديين يؤدي إلى إزعاج الأمريكيين وإجبارهم على التفكير بالخروج من العراق، أو على الأقل إلغاء الفكرة الملعونة التي كان اليمين الأمريكي يتبناها دوماً عبر شعار لا معنى للنصر على نصف البعث، ولا بد من ضرب رأس الأفعى في دمشق.

الدور الذي قام به أبو القعقاع كان هاماً جداً بالنسبة للأمن القومي السوري، فقد تمكن الرجل من جمع أصحاب الميول الجهادية من الداخل والخارح، وفي حين كان برنامج المخابرات السورية الزج بهم في السجون، أصبح بالإمكان الآن تطبيق حل أكثر براجماتية وديماغوجية حيث تم الزج بهم في أتون النار، واستخدامهم كقوى عاملة تخدم الأمن القومي السوري عبر تحييد التحدي الأمريكي الحقيقي.

يمكن القول أن البرنامج المخابراتي السوري قد نجح تماماً، وتحولت الجنة التي وعد الأمريكيون بها حلفاءهم في العراق إلى نار من جحيم، ولكن ذلك كان بالطبع وفق لعبة السياسة القذرة في نظم الاستبداد عبر ركام من ضحايا الأبرياء الذين لا ذنب لهم إلا أنهم كانوا في المكان الخطأ حين اختار القاتلون تنفيذ أكثر العمليات دموية لإقناع الشعب الأمريكي أن قواتهم في العراق قد دخلت في حرب قبلية طائفية لا يد لها فيها ولا سلطان.

خلال لقاءاتنا اللاحقة كان أبو القعقاع يحدثني بزهو عن دوره في تغيير السياسة الأمريكية للاعتداء على سوريا، ولكنه لم يستطع أن يدافع أبداً عن السياسة اللئيمة التي مارسها الجهاز المخابراتي في دفع المحاربين للقتال حتى النهاية، بشرطه الوحيد وهو عدم العودة، حيث كانت مراسم الاحتفاء بالمحاربين العائدين من معارك البطولة ضد الوجود الأمريكي تتم في أقبية المخابرات العسكرية والجوية، وبالوسائل الدموية المعروفة.

ورغم كل المؤشرات ولكن كان من الصعب تصور أن البعث السوري يقود هذا اللون من المقاومة عبر تنظيم القاعدة في العراق الذي كان يعلن كل يوم كفر النظام السوري وإيران ومن والاهما، وكفر الطائفة العلوية التي ينتمي لها الرئيس السوري، حيث كل أدبيات القوم طافحة بإعلان ذلك بشكل لا يحتمل أدنى ىتأويل.

ولكن المقاتلين كانوا يصدمون بالواقع في العراق وبشكل خاص بحجم التأييد لدى قسم كبير من الشعب العراقي للمحتل الأمريكي وإحساسهم بأن القتال يتحول تدريجياً إلى قتال طائفي لا مكان فيه لروح الجهاد ضد الكافر المحتل، وان الأمر يرتبط بإيدولوجيا القاعدة في موقفها من الشيعة (الروافض وفق تسميتهم) الذين يشكلون نصف الشعب العراقي، أكثر مما هو صراع بين محتل كافر وشعب مقاوم، وبالفعل فقد كان كثير من هؤلاء يشعرون بأنهم تعرضوا لخديعة ما ولكنهم حين كانوا يؤوبون عائدين كانوا يفاجؤون مباشرة بأن أسماءهم جاهزة على قوائم الترقب والاعتقال وأصبح واضحاً أنهم مرسلون إلى العراق في رحلة ون وي وبدون تذكرة عودة، وأن عليهم أن يدركوا أن السجن من ورائهم والعدو من أمامهم ولا يوجد شيء آخر إلا القتال حتى الموت.

أصبح أبو القعقاع هدفاً مباشراً لهؤلاء الشباب الذين رأوا فيه محض أجير مخاراتي يورط الناس في السفر للقتال في حين أنه يتابع مهاراته الخطابية في جامع الصاخور لاستجرار شباب آخرين إلى رحلات الموت العابثة…

وظهرت في تلك الفترة دعوات وإعلانات كثيرة على النت للتحذير من عميل المخابرات المحترف أبو القعقاع، وتم تعزيز ذلك بإيراد قوائم طويله من الذين أرسلهم إلى العراق وعادوا مباشرة إلى سجون النظام، وتطور الأمر من حسابات مجهولة على النت إلى بيان واضح ومباشر من تنظيم الإخوان المسلمين بتوقيع البيانوني يؤكد أن الرجل متورط حتى النهاية في عملية مخابراتية سورية مكشوفة.

وفي صيف 2006 قام مجموعة من شباب عربين المراهقين باقتحام سور مبنى الهيئة العامة للاذاعة التلفزيون وتم تبادل إطلاق النار مع مفرزة الحراسة وتمكن الحراس من قتل المجموعة واعتقال عدد من أفرادها وفي المساء كان التلفزيون السوري يعرض ما وجده بحوزة المهاجمين وكان فيها أشرطة خطب لأبي القعقاع تدعو إلى حاكمية الشريعة وتدعو إلى القتال حتى إقامة شرع الله، وحين كنا كمحللين سياسيين نتناوب الحديث عن خطر هذا اللون من التفكير الجهادي العنيف على الوطن، وكان التلفزيون يحذر بشدة من تفكير ابو القعقاع كان أبو القعقاع يلقي خطبة الجمعة في جامع الايمان في حلب الجديدة!! ومع أن التلفزيون عرض بوضوح لهذه الأشرطة ولكن الرجل ظل يلقي خطبة الجمعة المعتادة، في موقف لم يستطع أحد تفسيره على الإطلاق.

وتحت ضغط دولي وعربي وشعبي أوقف النظام هذا اللون من التجييش الجهادي، وانتظم في دوريات مشتركة مع العراقيين لمراقبة الحدود، وخلال شهور قليلة تحول أبو القعقاع الثائر الغيفاري الصاخب، ووكيل الشيخ أسامة بن لادن في سوريا إلى الدكتور محمود قول آغاسي، المحاور الهادئ والمفكر العقلاني المتوازن، وفي يوم واحد رحلت لحيته الطويلة التي كانت أشبه لحية باحمد الِأسير الرهيبة، وحضرت مكانها لحية أنيقة مهذبة تخفي ملامح أكاديمي متخصص، يتحدث عن الإسلام الحضاري المتصالح مع العالم، ويستأنف خطابه الديني في جامع الإيمان بحلب بإدارته الجديدة!!

كان يحدثني آنذاك وملامج الخوف بادية على وجهه، انني مستهدف .. هناك من يزج باسمي في كل قضية تتصل بالارهاب، مع أنني أعلنت للناس نهاية الجهاد في العراق، وأخذت البيعة على أصحابي أن لا ننازع الأمر أهله، لقد كنا في غمار شعبة من جنون الشباب وحان الوقت لنتفهم رسالة الإسلام الحضارية بلغة أكثر تقبلاً لروح الجوار الحضاري.
شخصياً لم استغرب تناقض توجهات الرجل، المولود عام 1973 والذي أصبح رمو الجهاديين في سوريا والعراق قبل أن يبلغ الأربعين، فهو قدر مشى فيه كل شاب متحمس، ولعل نجاحك في تحقيق طموحاتك يؤخر عنك المراجعات التي تنكشف لك عن يقين، كما قال اقبال:

ليس يخفى على القلندر فكر    ساور النشأ ظاهراً أو خفيا

أنا عندي بكل حالك خبر          فبهذا الطريق سرت مليا

 لم يمهله القدر أكثر من ذلك، وبعد اسابيع قليلة 28/9/2007 تقدم منه شخص بكاتم صوت وقتله على مشهد من تلامذته على باب جامع الايمان بعد أدائه لخطبة الجمعة، وصرخ الفاتل إنني أثأر لإخوتي الذين سلَّمتهم للمخابرات، وتم القبض على القاتل وجرى تسليمه خلال أقل من ساعة لأجهزة المخابرات ولا يمكن الخوض بعد ذلك في مصيره إلا عبر تكهنات لا سند لها من الحقيقة.

بوفاته أسدل الستار على جانب هام من الدور السوري في العنف العراقي، وكانت الأمور قد تطورت تماما في أمريكا باتجاه وقف الأحلام التي دفع إليها اليمين الأمريكي لاقتحام سوريا والقضاء على نظامها البعثي، ولم يقم النظام بعد ذلك بإطلاق أبي قعقاع جديد.

ربما تكون هذه المطالعة كافية لرسم ملامح التخادم المؤكد الذي تتناوبه أنظمة الاستبداد والقمع مع التشدد الإسلامي، على الرغم من التناقض التام في الخطابين صيغة وأسلوباً وهدفاً وشعارات.

-----------------

    كلنا شركاء

 


د. محمد حبش
الخميس 9 أكتوبر 2014