نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


2023 على مشارف التحوّل الكبير




يشكل 2023 عام تبلور أوضح للتحول العاصف في العلاقات الدولية والانعطاف الكبير في اقتصاد العولمة. أناقش بعض ملامح هذا التحول، في سلسلة مقالات متتابعة. حسبنا أن نتلمس انهيار الراهن، أما استشراف النظام المقبل فلعله لا يعدو قراءة ظلال على الجدران في خضم فوضى التحول وتداعي القديم ومخاض جديد لا نعرف جنسه.
انها لحظة درامية بامتياز.


 
انهيار وحدة العالم (1)
كحلم ليلة صيف، تتقطع حبال العولمة الواحدة تلو الأخرى، وتنفك عقدة بعد عقدة من وشائج العلاقات الدولية التي عرفناها لأجيال. نعم، قد يكون عام 2019 آخر عام للغبطة العظيمة للنظام العالمي! كانت سنون العولمة الخمسة والسبعون استثناءً شاذاً في التاريخ العالمي، قد لا يستمر طويلاً.
 
توطد النظام العولمي الراهن على عمودين أساسيين. الأول: نظام برايتون وودز 1945، حيث خرجت 19 دولة من الحرب متداعية تماماً الا واحدة هي أميركا.
 
وفي سياق بناء عولمتها، لم تذهب أميركا إلى النمط الإمبراطوري الأوروبي، بل قدمت رشوة تاريخية جماعية لـ45 دولة، توافقت على بناء عولمة ليبرالية ديموقراطية، تقوم على النمو الذي يقوده الاستهلاك. وبذلك عرضت أميركا ضمان التجارة والسوق العالمية بأساطيلها، وفتح أسواقها الكبيرة ومؤسساتها المالية الدولية، لشركائها. كل ذلك مقابل شرطين: الأول، الوقوف بجانبها لإسقاط الشيوعية، والثاني، اعتماد الدولار عملة عالمية. ومقابل برايتون وودز، أسس الاتحاد السوفياتي نظام الكوميكون، وحلف وارسو، لكنها لم تكن مزاحاً تاريخياً سوفياتياً.
 
وُضع العمود الثاني في واحدة من أرقى الاعمال الدبلوماسية السلمية العالمية، في اتفاقات يالطا! حيث قُسم العالم بين المعسكرين، وحددت الساحات المغلقة والمفتوحة للصراع في إطار الثنائية القطبية.
 
ومع اختطاف الصين من معسكر السوفيات، استمرت العولمة تنمو من دون قيود، ليصبح كل شيء أسرع وأفضل وأرخص وأكثر تنوعاً. ونشأت قواعد واسعة لصناعات معقدة ومبتكرة عابرة للقارات لإرضاء المستهلكين. وبعد أن كانت تويوتا لا تنتج في ثلاث أو أربع موديلات من السيارات في وقت واحد، صارت تنتج موديلات وفق تفضيلات كل مستهلك.
لكن التاريخ لا يحب الركود! منذ أكثر من ثلاثة عقود، بدأت التشققات تغزو العولمة لتصير برسم التداعي.
 
بانهيار الاتحاد السوفياتي سقطت اتفاقات يالطا، وحلت محلها اتفاقات هشة وموقتة في جنيف وبودابست، الخ... وأٌطلقت رصاصة الرحمة على نظام القطبين. ثم رفعت الولايات المتحدة غطاءها عن الأنظمة الموالية لها في "العالم الثالث"، في أكثر من خمسين دولة، ليبدأ كل منها ربيعه على طريقته.
 
لعقدين من الزمن، استحكم وهم العولمة في إمكان عولمة متعددة الأقطاب، فصعدت الصين وارتدت روسيا إلى وهمها الإمبراطوري، وصارتا، مع دول أخرى تسحبان البساط من تحت منظومة الدولار، وتفكيك التحالفات الغربية، وعملتا على فرض هيمنتهما على بعض مسارات التجارة العالمية. استمرت العولمة بقوة العطالة، لكنها سرعان ما صارت من التاريخ!
 
لقد تلقت الولايات المتحدة سلسلة من الصفعات من نظامها العولمي ذاته، لتدرك أميركا فشل شراكتها مع روسيا في وسط آسيا وفي سيبيريا ثم تركيا وسوريا وأوروبا، وتكتشف محاولات روسيا والصين لدق إسفين في تحالفاتها في شرق آسيا وفي أوروبا والشرق الأوسط. ثم لتكتشف انها لن تستطيع الاستمرار في التفوق، طالما استمر الاختراق لمؤسساتها العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية، بل يهدد الاقتصاد وتفوقها الاستراتيجي.
 
 
في الولاية الثانية لباراك أوباما أصبح السؤال في واشنطن: ما هو الأفضل؟ عولمة واحدة متعددة الاقطاب تحميها أميركا، ويسحب البساط من تحتها؟ ام عالم مقسم لعوالم متنافسة؟
 
سرعان ما "انكسر مزراب العين". وتفاقم شعور هذه الأوساط بالاختراق السياسي الروسي والصيني للمنظومة السياسية في الدول الديموقراطية. فمن بريكست إلى دونالد ترامب فصعود اليمين في أوروبا، جاء البرهان واضحاً على الصدام الخلاسي بين الديموقراطية الليبرالية، وبين نظام الدولة الرأسمالية الشمولية. واقتربنا من حتمية الطلاق.
 
تلت ذلك أزمة كوفيد، وانكسار سلاسل الإنتاج وعودة السياسات الحمائية، من الصين إلى التناقضات الاوروبية، فرنسا تجاه إيطاليا وألمانيا تجاه هنغاريا، وسعت كل دولة لتنفذ بجلدها. بل فشلت الولايات المتحدة في الحصول على أبسط متطلبات الوقاية الطبية من الاقنعة إلى أجهزة التنفس، بسبب إيقاف الصين واوروبا تصديرها، ليصير البطر الأميركي في أحضان العولمة خطراً عليها، ولتقترب نهاية شهر العسل مع برايتون وودز.
 
تُوجت النهاية بمغامرة فلاديمير بوتين الهوجاء، التي وجهت ضربة قاصمة للاستقرار الأوروبي، ولتطلق رصاصة الرحمة على العولمة متعددة الأقطاب، وعلى الالتزام بقواعد القانون الدولي، ولتنهار اتفاقات جنيف حول السلم الأوروبي بعد الحرب الباردة.
 
ما الذي يجري حالياً؟
تسحب الولايات المتحدة القاعدة الصناعية التي بنتها في أنحاء العالم وتعيدها الى أراضيها أو إلى فضائها الاستراتيجي في المكسيك وكندا، لتبلور فقاعتها العولمية الخاصة. ومع بدء تفكك منظومة الضمان البحري، التي تسببت منذ أيام بأزمة النقل في البوسفور، وتداعى أمان خطوط التجارة العالمية. فبالعودة إلى قرن ونصف القرن للوراء، تسببت السياسات الحمائية بأن يصبح نقل البضائع من لندن إلى ماساتشوستس أرخص من نقلها من ماساتشوستس إلى نيويورك، ليصبح النقل والضمان البحري الدولي بأسره أقل انخراطاً بالعولمة.
 
بل وأبعد من ذلك، وفي سياق رد فعلها على الابتزاز الروسي وكسر حاجتها للطاقة الاحفورية، ستوزع الحكومة الأميركية مئات المليارات على الشركات والمستهلكين الأميركيين، لتسريع الانتقال إلى الطاقات المستدامة، الأمر الذي يثير فزع أوروبا والتي تستعد بدورها للرد بالمثل، ما قد يسرع الانزلاق العام نحو الحمائية ويخاطر بتقويض التجارة العالمية.
 
في المقابل، بفضل حرب بوتين الحمقاء، ستبدأ أوروبا التي تسيطر على نظام الضمان البحري العالمي، بحظر الضمان البحري ليس فقط عن السفن الروسية، بل وعن كل سفينة تحمل بضاعة روسية. وبالتوازي تتداعى سلاسل الانتاج الزراعي والطاقة، وشرائح السليكون، لتصبح حلقات الانتاج والاستهلاك شأناً محلياً وإقليمياً أكثر منها شأناً كونياً. وكلما زاد انقسام التكتلات الاقتصادية، كلما تصاعد التنافس بينها لغير صالح العولمة.
 
ككل مخلوق جديد ترتسم أمامنا لوحة قبيحة مضطربة. فهذه العوارض ليست عابرة ولا موقتة. لكنها لو تركت على عواهنها، فستستتب وتصبح سائدة بالضرورة. ومع استمرار حماقة البشر، وصعود عصبية السياسيين، فما لم تنشأ إرادة دولية واعية لتلافيها، سيكون ذلك بداية لعالم ما بعد عولمة يالطا وبرايتون وودز.
 
تثير محاولتنا رسم خريطة للانهيار المحتمل للنظام الراهن، الكثير من الأسئلة الصعبة. وفي سلسلة مقالاتي المقبلة، لن أحاول الاجابة، بل سأحاول مجرد تشخيص التناقض، وطرح الأسئلة.
---------
النهار العربي

سمير التقي
الخميس 22 ديسمبر 2022