وكان المتنبي آنئذٍ يمشي في شوارع القاهرة، وئيد الخطى، متنقلاً من شارعٍ إلى شارع، وكل شارع يبدو لعينيه عالمًا جديدًا سحريا قادرًا على أن يهب بهجة تحول الرمل عشبًا أخضر.
وبلغت بهجة المتنبي الذروة عندما رأى نهر النيل، فتوقف عن المسير، ونظر إلى ماء النهر كأنه طفل يشاهد بحرًا أول مرة في حياته.
قال النيل للمتنبي: (اهرب. الهرب مما ينتظرك جرأة وشجاعة وبطولة).
فلم يسمع المتنبي ما قاله النهر، إنما تدفقت إلى مخيلته كلمات كثيرة تتنافس على وصف نهر وامرأة وملك عادل.
قال النيل للمتنبي: (اهرب، اهرب، اهرب!).
ولكن المتنبي كان يجهل لغة الأنهار، واستمرت كلماته في التنافس على وصف نهر عظيم وامرأة جميلة وملك رحيم متسامح. ثم تبددت فجأة حين انقض على المتنبي عدد من الرجال الأقوياء، القساة الوجوه والأيدي، واقتادوه إلى قصر كافور الإخشيدي غير مبالين بتساؤلاته وصياحه النزق المحتج.
كافور الإخشيدي: (المعلومات المتوافرة لدي تقول إنك لست مصريا). المتنبي: (إذا كنت مولودًا بالكوفة وجئت مصر زائرًا، فهل هذا مسوِّغ لاعتقالي ومعاملتي أسوأ معاملة). المتنبي (بهزء): (أمرك مطاع). كافور: (اخرس. ألم آمرك بألا تتكلم). المتنبي: (لن أتكلم). كافور: (ليس من حقك أن تتكلم أو تسكت إلا وفق أوامري. قل لي: ما اسمك). المتنبي: (المتنبي.. أبو الطيب المتنبي). كافور: (ماذا تشتغل). المتنبي: (لا مهنة لي سوى الكتابة. أنا شاعر).
كافور: (لا تتحذلق. الشعر أيضًا مهنة لا تختلف عن مهنة الحداد والنجار والدهان وحفار القبور. اسمع. ما دمت تزعم أنك شاعر، فهل نلت إذنًا من السلطات المختصة).
المتنبي: (وهل تطلب السحابة إذنًا إذا أرادت أن تمطر).
كافور: (إني أكلمك عن قوانين وأنظمة، فلا تجاوبني بكلام منمق سخيف يصلح لأن يوجه إلى مراهقات. أنت الآن لست في الصحراء. أنت في بلاد يسودها التنظيم، وكل عمل لابد لصاحبه من أن ينال إذنًا رسميا قبل أن يمارسه، وأنت خالفت القوانين عندما نظمت شعرًا من غير إذن).
المتنبي: (لقد جئت إلى مصر قبل ثلاثة أيام فقط، ولم أنظم بعد أي قصيدة، ولم أخالف أي قانون من قوانين البلاد).
كافور: (أنت تدعي أنك شاعر، فما الدليل على أنك شاعر حقًا?).
المتنبي: (أشعاري مشهورة في البلاد العربية كلها، ولا أحد يجهلها).
كافور: (يا لك من وقح! أتجرؤ على اتهامنا بالجهل?).
المتنبي: (كل ما أردت قوله هو أني شاعر ذائع الصيت. ونظمت كثيرًا من الأشعار).
كافور: (هل غنّى أشعارك مشاهير المغنين والمغنيات? أم كلثوم.. لبلبلة.. وردة الجزائرية.. أحمد عدوية.. محرم فؤاد.. شادية.. عبد الحليم حافظ? ما لك صامت? لماذا لا تجيب? أرى أن وجهك قد احمرّ.. احمرّ خجلاً من افتضاح كذبك. سأُتيح لك الفرصة لتثبت أنك شاعر. هيا أسمعني بعض أشعارك).
المتنبي:
يا أعـدل الناس إلاّ فـي معاملتي فيك الخصام وأنت الخصـم والحكم
أعيـذهـا نظـرات منـك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
ومـا انتفاع أخـي الدنيا بناظـره إذا استوت عنـده الأنوار والظلـم
أنا الذي نظـر الأعمـى إلى أدبي وأسمعـتْ كلماتي مـن بـه صمم
كافور: (ما سمعته ليس سيِّئًا. أتجيد نظم قصائد المدح?).
المتنبي: (سبق لي أن مدحت الكثير من الملوك والأمراء.
كافور: (ما دمت تتقن المدح، فينبغي لك أن تنظم قصيدة في مدحي. أنت الآن في مصر، وأنا حاكم مصر. وإذا كنت لست عميلاً لأعداء مصر وتحب مصر، فمن واجبك مدح حاكمها).
المتنبي: (أنا لم أمدح في حياتي سوى رجال عرفتهم، وعرفت ما لهم وما عليهم).
كافور: (أتلمح إلي أنك لا تعرفني? ها أنا ذا قاعد قبالتك وقد صرت تعرفني).
المتنبي: (لم أعرفك بعد المعرفة التي تتيح لي نظم قصيدة في مدحك).
فابتسم كافور الإخشيدي، وأشار بيده إلى أعوانه، فهجموا على المتنبي، وطرحوه أرضًا، ووضعوا رجليه في فلقة، وانهال بعضهم بالعصا ضربًا على باطن قدميه، بينما راح بعضهم الآخر يركل رأسه وجسمه ركلاً شديدًا.
تألم المتنبي، ورغب في أن يصرخ متوجعًا، ولكنه قاوم، وكظم رغبته، وما لبث الألم أن دفعه إلى الصراخ شاتمًا، مستغيثًا. فضحك كافور، وقال: (ما هذا الصوت الجميل? أنت لست شاعرًا. أنت تصلح لأن تكون مغنيا. الله! ما أجمل هذا الصوت! تابع.. أطربنا).
وحين تحول صراخ المتنبي إلى بكاء ذليل، أمر كافور بالكف عن ضربه.
ووقف المتنبي أمام كافور الإخشيدي محني الرأس بذل، مبتل الوجه بالدموع والدماء.
كافور: (ستنظم قصيدة مطوّلة تمتدحني).
المتنبي: سأفعل ما تأمر به.
كافور: (سأعطيك مهلة مدتها سبعة أيام لنظم القصيدة، وستنجو من القتل إذا أعجبتني).
وهمّ المتنبي بالخروج، فقال له كافور: (قف واسمع يا متنبي. إياك وأن تظن أني كغيري من الحكام. إذا أعجبتني قصيدتك، فلا تحلم بنيل درهم واحد من أموالي).
وعاد المتنبي إلى كافور الإخشيدي بعد أربعة أيام، وأسمعه ما نظم من شعر في مدحه، فطرب كافور، وانتشى، وقال: (أنت شاعر حقّا).
وفكر كافور الإخشيدي لحظات، ثم قال للمتنبي: (سأعرض عليك عرضًا لا مثيل له. اختر إما الضرب حتى الموت وإما الحصول على ألف دينار).
المتنبي: (لا أحد يفضل الضرب على ألف دينار).
كافور: (ستنال ألف دينار إذا نظمت قصيدة تهجوني فيها أقذع هجاء).
حاول المتنبي أن يتكلم، ولكن كافورا قال له: (اسكت ولا تنطق بكلمة واحدة. إذا لم تنظمها ضربت، وإذا هجوتني نلت ألف دنيار).
فوعد المتنبي بأنه سيهجوه، وبرّ بوعده، ونظم قصيدة في هجاء كافور الإخشيدي، ونال ألف دينار.
وما إن خرج المتنبي حتى تصايح أعوان كافور الإخشيدي مستغربين مستنكرين، فقال لهم كافور بصوت صارم: (ستظلون أغبياء تجهلون التعامل مع البشر والحياة. سأشرح لكم ما فعلت وأسبابه. المتنبي شاعر متكبر، متعجرف، معتد بنفسه، ويجب أن يعاقب ولا سيما أنه سيكون في المستقبل من الشعراء الخالدين. وقد عاقبته شر عقاب. لقد أرغمته على مدحي ثم أرغمته على هجائي، وهذا التناقض سيصبح في المستقبل تهمة شائنة تدين المتنبي، وتبرهن على أنه مجرد مرتزق صغير غير جدير بالاحترام).
وفيما بعد، اغتيل المتنبي، ومات كافور الإخشيدي، ولكن ما تنبأ به كافور تحقق وعوقب المتنبي شرّ عقاب حيّا وميتًا
وبلغت بهجة المتنبي الذروة عندما رأى نهر النيل، فتوقف عن المسير، ونظر إلى ماء النهر كأنه طفل يشاهد بحرًا أول مرة في حياته.
قال النيل للمتنبي: (اهرب. الهرب مما ينتظرك جرأة وشجاعة وبطولة).
فلم يسمع المتنبي ما قاله النهر، إنما تدفقت إلى مخيلته كلمات كثيرة تتنافس على وصف نهر وامرأة وملك عادل.
قال النيل للمتنبي: (اهرب، اهرب، اهرب!).
ولكن المتنبي كان يجهل لغة الأنهار، واستمرت كلماته في التنافس على وصف نهر عظيم وامرأة جميلة وملك رحيم متسامح. ثم تبددت فجأة حين انقض على المتنبي عدد من الرجال الأقوياء، القساة الوجوه والأيدي، واقتادوه إلى قصر كافور الإخشيدي غير مبالين بتساؤلاته وصياحه النزق المحتج.
كافور الإخشيدي: (المعلومات المتوافرة لدي تقول إنك لست مصريا). المتنبي: (إذا كنت مولودًا بالكوفة وجئت مصر زائرًا، فهل هذا مسوِّغ لاعتقالي ومعاملتي أسوأ معاملة). المتنبي (بهزء): (أمرك مطاع). كافور: (اخرس. ألم آمرك بألا تتكلم). المتنبي: (لن أتكلم). كافور: (ليس من حقك أن تتكلم أو تسكت إلا وفق أوامري. قل لي: ما اسمك). المتنبي: (المتنبي.. أبو الطيب المتنبي). كافور: (ماذا تشتغل). المتنبي: (لا مهنة لي سوى الكتابة. أنا شاعر).
كافور: (لا تتحذلق. الشعر أيضًا مهنة لا تختلف عن مهنة الحداد والنجار والدهان وحفار القبور. اسمع. ما دمت تزعم أنك شاعر، فهل نلت إذنًا من السلطات المختصة).
المتنبي: (وهل تطلب السحابة إذنًا إذا أرادت أن تمطر).
كافور: (إني أكلمك عن قوانين وأنظمة، فلا تجاوبني بكلام منمق سخيف يصلح لأن يوجه إلى مراهقات. أنت الآن لست في الصحراء. أنت في بلاد يسودها التنظيم، وكل عمل لابد لصاحبه من أن ينال إذنًا رسميا قبل أن يمارسه، وأنت خالفت القوانين عندما نظمت شعرًا من غير إذن).
المتنبي: (لقد جئت إلى مصر قبل ثلاثة أيام فقط، ولم أنظم بعد أي قصيدة، ولم أخالف أي قانون من قوانين البلاد).
كافور: (أنت تدعي أنك شاعر، فما الدليل على أنك شاعر حقًا?).
المتنبي: (أشعاري مشهورة في البلاد العربية كلها، ولا أحد يجهلها).
كافور: (يا لك من وقح! أتجرؤ على اتهامنا بالجهل?).
المتنبي: (كل ما أردت قوله هو أني شاعر ذائع الصيت. ونظمت كثيرًا من الأشعار).
كافور: (هل غنّى أشعارك مشاهير المغنين والمغنيات? أم كلثوم.. لبلبلة.. وردة الجزائرية.. أحمد عدوية.. محرم فؤاد.. شادية.. عبد الحليم حافظ? ما لك صامت? لماذا لا تجيب? أرى أن وجهك قد احمرّ.. احمرّ خجلاً من افتضاح كذبك. سأُتيح لك الفرصة لتثبت أنك شاعر. هيا أسمعني بعض أشعارك).
المتنبي:
يا أعـدل الناس إلاّ فـي معاملتي فيك الخصام وأنت الخصـم والحكم
أعيـذهـا نظـرات منـك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
ومـا انتفاع أخـي الدنيا بناظـره إذا استوت عنـده الأنوار والظلـم
أنا الذي نظـر الأعمـى إلى أدبي وأسمعـتْ كلماتي مـن بـه صمم
كافور: (ما سمعته ليس سيِّئًا. أتجيد نظم قصائد المدح?).
المتنبي: (سبق لي أن مدحت الكثير من الملوك والأمراء.
كافور: (ما دمت تتقن المدح، فينبغي لك أن تنظم قصيدة في مدحي. أنت الآن في مصر، وأنا حاكم مصر. وإذا كنت لست عميلاً لأعداء مصر وتحب مصر، فمن واجبك مدح حاكمها).
المتنبي: (أنا لم أمدح في حياتي سوى رجال عرفتهم، وعرفت ما لهم وما عليهم).
كافور: (أتلمح إلي أنك لا تعرفني? ها أنا ذا قاعد قبالتك وقد صرت تعرفني).
المتنبي: (لم أعرفك بعد المعرفة التي تتيح لي نظم قصيدة في مدحك).
فابتسم كافور الإخشيدي، وأشار بيده إلى أعوانه، فهجموا على المتنبي، وطرحوه أرضًا، ووضعوا رجليه في فلقة، وانهال بعضهم بالعصا ضربًا على باطن قدميه، بينما راح بعضهم الآخر يركل رأسه وجسمه ركلاً شديدًا.
تألم المتنبي، ورغب في أن يصرخ متوجعًا، ولكنه قاوم، وكظم رغبته، وما لبث الألم أن دفعه إلى الصراخ شاتمًا، مستغيثًا. فضحك كافور، وقال: (ما هذا الصوت الجميل? أنت لست شاعرًا. أنت تصلح لأن تكون مغنيا. الله! ما أجمل هذا الصوت! تابع.. أطربنا).
وحين تحول صراخ المتنبي إلى بكاء ذليل، أمر كافور بالكف عن ضربه.
ووقف المتنبي أمام كافور الإخشيدي محني الرأس بذل، مبتل الوجه بالدموع والدماء.
كافور: (ستنظم قصيدة مطوّلة تمتدحني).
المتنبي: سأفعل ما تأمر به.
كافور: (سأعطيك مهلة مدتها سبعة أيام لنظم القصيدة، وستنجو من القتل إذا أعجبتني).
وهمّ المتنبي بالخروج، فقال له كافور: (قف واسمع يا متنبي. إياك وأن تظن أني كغيري من الحكام. إذا أعجبتني قصيدتك، فلا تحلم بنيل درهم واحد من أموالي).
وعاد المتنبي إلى كافور الإخشيدي بعد أربعة أيام، وأسمعه ما نظم من شعر في مدحه، فطرب كافور، وانتشى، وقال: (أنت شاعر حقّا).
وفكر كافور الإخشيدي لحظات، ثم قال للمتنبي: (سأعرض عليك عرضًا لا مثيل له. اختر إما الضرب حتى الموت وإما الحصول على ألف دينار).
المتنبي: (لا أحد يفضل الضرب على ألف دينار).
كافور: (ستنال ألف دينار إذا نظمت قصيدة تهجوني فيها أقذع هجاء).
حاول المتنبي أن يتكلم، ولكن كافورا قال له: (اسكت ولا تنطق بكلمة واحدة. إذا لم تنظمها ضربت، وإذا هجوتني نلت ألف دنيار).
فوعد المتنبي بأنه سيهجوه، وبرّ بوعده، ونظم قصيدة في هجاء كافور الإخشيدي، ونال ألف دينار.
وما إن خرج المتنبي حتى تصايح أعوان كافور الإخشيدي مستغربين مستنكرين، فقال لهم كافور بصوت صارم: (ستظلون أغبياء تجهلون التعامل مع البشر والحياة. سأشرح لكم ما فعلت وأسبابه. المتنبي شاعر متكبر، متعجرف، معتد بنفسه، ويجب أن يعاقب ولا سيما أنه سيكون في المستقبل من الشعراء الخالدين. وقد عاقبته شر عقاب. لقد أرغمته على مدحي ثم أرغمته على هجائي، وهذا التناقض سيصبح في المستقبل تهمة شائنة تدين المتنبي، وتبرهن على أنه مجرد مرتزق صغير غير جدير بالاحترام).
وفيما بعد، اغتيل المتنبي، ومات كافور الإخشيدي، ولكن ما تنبأ به كافور تحقق وعوقب المتنبي شرّ عقاب حيّا وميتًا