ما إن يذكر اسم الروائي السوداني الطيب صالح حتى يقفز ذهن القارئ إلى رواية موسم الهجرة إلى الشمال التي صنفت في قائمة الأعمال الروائية العالمية ،ولن نخوض في الجدل الدائر والدائم حول أفضل رواية وأجمل رواية على عادة الأجداد ونعود بالنقد إلى بدايته وبدائيته ،فالعمل الروائي والأدبي كالطفل له مميزاته وجماليته وخصوصيته وما أراه الأجمل قد لا يكون كذلك من وجهة نظرك ،صحيح أن للمسألة قواعد وتعاليل لكن لا نستطيع أن نلغي دور القارئ وتفاعله مع العمل الموجه أساساً له ،حيث يجعل بعض النقاد من أنفسهم أوصياء على القارئ والكاتب معاً أو يخوضون بهم في متاهات ومجاهل النقد الغربي الحديث فيحدث الانفصال والقطيعة .
أجدني ملزماً بعد هذه المقدمة الاستطرادية بالتعريف بالطيب صالح المولود عام 1929في مركز مروى في شمال السودان تلقى تعليمه في وادي سيدنا ثم في كلية العلوم في الخرطوم وعمل في التدريس قبل أن ينتقل للعمل في الإذاعة البريطانية في لندن حيث نال شهادة في الشؤون الدولية وعيّن ممثلاً لليونسكو في دول الخليج ومقره قطر، بدأت شهرته مع روايته الثانية موسم الهجرة إلى الشمال الصادرة عام 1971،والتي تتحدث عن صراع الحضارات وصراع الثقافات في إطار أسطوري فردي وجو عام يحملك إلى حكايات ألف ليلة وليلة مع تباين الزمان والمكان ،لعل تتابع الإثارة والزخم من أول كلمة حتى نهاية الرواية هو ما منحها هذه المكانة بالإضافة إلى تراكم القصص والتصوير البارع للشخصيات والأماكن والانفعالات إضافة إلى الفكرة التي بنيت عليها الأحداث فالبطل الغازي مصطفى سعيد قادم من الجنوب من السودان وأرض المعركة بريطانيا التي استعمرت السودان والسلاح فردي في شقة لندنية شهريارية بامتياز يجلب إليها البطل المحظيات الغربيات الشقراوات اللواتي يلقين مصيراً مفجعاً ،كأنه ينتقم من الاستعمار مجسداً بهن ،وتلاحظ أنه يتكلم بأسلوب الغرب الاستعماري الملتوي فتجده يقف أحياناً خطيباً من أجل اقتصاد أكثر إنسانية أو ليندد بالاستعمار ويقول عن نفسه :{ولكنْ إلى أن يرث المستضعفون الأرض، وتُسَرّح الجيوش، ويرعى الحَمَل آمناً بجوار الذئب، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر، إلى أن يأتي زمن السعادة هذا، سأظلّ أعبّر عن نفسي بهذه الطرق الملتوية}
تبدأ المواجهة الحقيقية للبطل حين يلتقي بجين مورس لتقول له في أول لقاء { أنت بشع، لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت}
ويتزوجها مصطفى سعيد لكنهما يبدوان كخطين متوازيين ،كانت جين مورس قطّة متوحشة تبحث عن العراك في كل مكان ،تغازل العابرين دون أن تكترث به ،كانت تخونه وكان يعلم بخيانتها فهو يقول عنها :{ كنتُ أعلم أنها تخونني. كان البيت كلّه يفوح بريح الخيانة. وجدتُ مرّة منديل رجل، لم يكنْ منديلي. سألتها فقالت: إنّه منديلك. قلتُ لها هذا المنديل ليس منديلي. قالت:هبْ أنه ليس منديلك. ماذا أنت فاعل }
تنتهي قصتهما بمأساة حيث يغرس مصطفى سعيد خنجره في صدرها في مشهد درامي تشعر بأنه يجري في معبد فرعوني في ماض سحيق ،ولا تدري خلال قراءتك لهذا المشهد هل ما يجري حقيقة أم أكذوبة مثل أكاذيبه الكثيرة وشخصيته المستعصية على التحليل المنطقي إنه يقول محدثاً نفسه خلال المحاكمة:{ هذا المصطفى سعيد لا وجود له. إنّه وهم، أكذوبة. وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة... وخطر لي أن أقف وأقول لهم "هذا زور وتلفيق. قتلتهما أنا. أنا صحراء الظمأ...لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة } في حين يقول في موضع آخر من الرواية :{ أنا لست عطيلاً عطيل كان أكذوبة }
وبمثل هذه الثنائيات حتى لا نقول المتناقضات نسير مع الرواية لنتعرف على شخصياتها التي تتكامل باطراد
وتبنى ملامحها خطوة خطوة مما يزيد من حب الاستطلاع عند القارئ ،إضافة إلى بقاء الاحتمالات مفتوحة فأنت لا تستطيع أن تحدد بالضبط مصير مصطفى سعيد بعد سجنه ثم إقامته في قرية سودانية صغيرة حيث تزوج وأنجب طفلين ثم اختفى في إحدى فيضانات النيل .
في القرية يتعايش مع عالم وشخوص مختلفة ولعل أهم مايميز عالم الطيب صالح الروائي هو غنى تلك الشخصيات وإثراؤها للفكرة وتشعر بأن هذا هو العالم الحقيقي للبطل والراوي رغم متناقضاته الكثيرة إنه الجنوب مقابل الشمال في تصوير حقيقي للريف السوداني والعربي عموماً في تلك المرحلة ومعاناته وعاداته ،فبعد اختفاء مصطفى سعيد تجبر أرملته على الزواج من أحد كهول القرية لكنها تقتله وتقطع عضوه ثم تنتحر .
ويجد قارئ الرواية نفسه أمام شبكة من الرموز التي تتقارب وتتباعد مع الأساطير مما يعطي للعمل مميزاته ويدفعك لإعادة القراءة لتكتشف شيئاً جديداً مع كل قراءة فهو يتحدث عن نهر النيل بعد الإيقاع بإيزابيلا سيمور :{الطائر يا مصطفى سعيد قد وقع في الشرك ،النيل ذلك الإله الأفعى قد فاز بضحية جديدة }
وللشرق الساحر الخيالي نصيب وافر في الرواية فحيناً يستخدمه مصطفى سعيد للإيقاع بالغربيات وحيناً تلحظ حنيناً إلى هذا العالم الساحر الغامض وكأن الراوي يجد فيه القوة والمعادل أمام حضارة الغرب الحديثة .
-----------------------------------
صدرت عن الطيب صالح دراسات كثيرة وكتاب لمجموعة من الباحثين في
بيروت عام 1976 كما تمنح باسمه جائزة لأفضل الأعمال الروائية السودانية ،ومن أعماله
عرس الزين 1962
موسم الهجرة إلى الشمال 1971
مريود
دومة ود حامد
نخلة على الجدول
أجدني ملزماً بعد هذه المقدمة الاستطرادية بالتعريف بالطيب صالح المولود عام 1929في مركز مروى في شمال السودان تلقى تعليمه في وادي سيدنا ثم في كلية العلوم في الخرطوم وعمل في التدريس قبل أن ينتقل للعمل في الإذاعة البريطانية في لندن حيث نال شهادة في الشؤون الدولية وعيّن ممثلاً لليونسكو في دول الخليج ومقره قطر، بدأت شهرته مع روايته الثانية موسم الهجرة إلى الشمال الصادرة عام 1971،والتي تتحدث عن صراع الحضارات وصراع الثقافات في إطار أسطوري فردي وجو عام يحملك إلى حكايات ألف ليلة وليلة مع تباين الزمان والمكان ،لعل تتابع الإثارة والزخم من أول كلمة حتى نهاية الرواية هو ما منحها هذه المكانة بالإضافة إلى تراكم القصص والتصوير البارع للشخصيات والأماكن والانفعالات إضافة إلى الفكرة التي بنيت عليها الأحداث فالبطل الغازي مصطفى سعيد قادم من الجنوب من السودان وأرض المعركة بريطانيا التي استعمرت السودان والسلاح فردي في شقة لندنية شهريارية بامتياز يجلب إليها البطل المحظيات الغربيات الشقراوات اللواتي يلقين مصيراً مفجعاً ،كأنه ينتقم من الاستعمار مجسداً بهن ،وتلاحظ أنه يتكلم بأسلوب الغرب الاستعماري الملتوي فتجده يقف أحياناً خطيباً من أجل اقتصاد أكثر إنسانية أو ليندد بالاستعمار ويقول عن نفسه :{ولكنْ إلى أن يرث المستضعفون الأرض، وتُسَرّح الجيوش، ويرعى الحَمَل آمناً بجوار الذئب، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر، إلى أن يأتي زمن السعادة هذا، سأظلّ أعبّر عن نفسي بهذه الطرق الملتوية}
تبدأ المواجهة الحقيقية للبطل حين يلتقي بجين مورس لتقول له في أول لقاء { أنت بشع، لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت}
ويتزوجها مصطفى سعيد لكنهما يبدوان كخطين متوازيين ،كانت جين مورس قطّة متوحشة تبحث عن العراك في كل مكان ،تغازل العابرين دون أن تكترث به ،كانت تخونه وكان يعلم بخيانتها فهو يقول عنها :{ كنتُ أعلم أنها تخونني. كان البيت كلّه يفوح بريح الخيانة. وجدتُ مرّة منديل رجل، لم يكنْ منديلي. سألتها فقالت: إنّه منديلك. قلتُ لها هذا المنديل ليس منديلي. قالت:هبْ أنه ليس منديلك. ماذا أنت فاعل }
تنتهي قصتهما بمأساة حيث يغرس مصطفى سعيد خنجره في صدرها في مشهد درامي تشعر بأنه يجري في معبد فرعوني في ماض سحيق ،ولا تدري خلال قراءتك لهذا المشهد هل ما يجري حقيقة أم أكذوبة مثل أكاذيبه الكثيرة وشخصيته المستعصية على التحليل المنطقي إنه يقول محدثاً نفسه خلال المحاكمة:{ هذا المصطفى سعيد لا وجود له. إنّه وهم، أكذوبة. وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة... وخطر لي أن أقف وأقول لهم "هذا زور وتلفيق. قتلتهما أنا. أنا صحراء الظمأ...لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة } في حين يقول في موضع آخر من الرواية :{ أنا لست عطيلاً عطيل كان أكذوبة }
وبمثل هذه الثنائيات حتى لا نقول المتناقضات نسير مع الرواية لنتعرف على شخصياتها التي تتكامل باطراد
وتبنى ملامحها خطوة خطوة مما يزيد من حب الاستطلاع عند القارئ ،إضافة إلى بقاء الاحتمالات مفتوحة فأنت لا تستطيع أن تحدد بالضبط مصير مصطفى سعيد بعد سجنه ثم إقامته في قرية سودانية صغيرة حيث تزوج وأنجب طفلين ثم اختفى في إحدى فيضانات النيل .
في القرية يتعايش مع عالم وشخوص مختلفة ولعل أهم مايميز عالم الطيب صالح الروائي هو غنى تلك الشخصيات وإثراؤها للفكرة وتشعر بأن هذا هو العالم الحقيقي للبطل والراوي رغم متناقضاته الكثيرة إنه الجنوب مقابل الشمال في تصوير حقيقي للريف السوداني والعربي عموماً في تلك المرحلة ومعاناته وعاداته ،فبعد اختفاء مصطفى سعيد تجبر أرملته على الزواج من أحد كهول القرية لكنها تقتله وتقطع عضوه ثم تنتحر .
ويجد قارئ الرواية نفسه أمام شبكة من الرموز التي تتقارب وتتباعد مع الأساطير مما يعطي للعمل مميزاته ويدفعك لإعادة القراءة لتكتشف شيئاً جديداً مع كل قراءة فهو يتحدث عن نهر النيل بعد الإيقاع بإيزابيلا سيمور :{الطائر يا مصطفى سعيد قد وقع في الشرك ،النيل ذلك الإله الأفعى قد فاز بضحية جديدة }
وللشرق الساحر الخيالي نصيب وافر في الرواية فحيناً يستخدمه مصطفى سعيد للإيقاع بالغربيات وحيناً تلحظ حنيناً إلى هذا العالم الساحر الغامض وكأن الراوي يجد فيه القوة والمعادل أمام حضارة الغرب الحديثة .
-----------------------------------
صدرت عن الطيب صالح دراسات كثيرة وكتاب لمجموعة من الباحثين في
بيروت عام 1976 كما تمنح باسمه جائزة لأفضل الأعمال الروائية السودانية ،ومن أعماله
عرس الزين 1962
موسم الهجرة إلى الشمال 1971
مريود
دومة ود حامد
نخلة على الجدول