يلفت النظر في مسرحية "المهاجران" جانبان أساسيان، الأول هو الجرأة والمباشرة في الخطاب المسرحي، الأمر المفتَقد عادة في المسرح السوري، حيث نأى منذ زمن ليس قليلاً عن الموضوعات الأكثر حساسيةً على المستوى السياسي الداخلي أو ما يمكن تسميته بموضوعات الشأن العام، ولكي لا نعمم يمكن القول إنه وفي أحسن الحالات لامسها بعمومية وبشكل سطحي وموارب، ودون أن تكون المحور، أما الجانب الثاني فهو مكان العرض: ملجأ في حي القزازين بدمشق، مع كامل سينوغرافيا العرض.
مهاجران، الأول مثقف سياسي أُكرِه على الهجرة وبات منفياً، الثاني إنسان شعبي بسيط للغاية اضطره الفقر والحاجة المادية إلى السفر والعمل في بلد الهجرة أعمالاً صعبة ومؤذية للغاية لا يعملها مواطنو هذا البلد، بل يعطونها لعمال أجانب ويجعلون منهم عبيداً.
هنا في قلب هذا الملجأ كنا كأننا في قلب سورية مع حضور كل أسباب الهجرة وموضوعاتها: الفقر والبطالة، الاستبداد والقمع والتعذيب، نوع الحكم، مدى تركيز وتأثير القمع والرُّهابات حتى في المهجر أو المنفى، مع إثارة الشكوك والشبهات حتى في أكثر العلاقات حميميةً رغم الظروف المتعبة والقاهرة، مثقف مهاجر دون إمكانية العودة،.... إنها قضايا الوطن الأساسية، قُدمت بصورة كاريكاتيرية ساخرة، لكنها مؤلمة في الوقت نفسه، تذكّرنا محلياً بمسرح الماغوط.
يقدم العرض صورةً عن المثقف والمثقف السياسي اليساري تحديداً، حيث هرب من القمع وبطش الديكتاتورية في بلاده، يقدمه بكل الصور النمطية والاستثنائية التي نعرفها عن المثقف بدءاً من الشكل والملابس، إلى الفكر المعارض أو المقاوم للسلطة، تركيبة شخصيته بين المترفع والمغرور، المتهكم من الإنسان الشعبي البسيط، يقدم الخطابات والنصائح التربوية والتوجيهية له، يحمل عدداً كبيراً من العقد منها ما أحضره من الوطن ومنها ما خُلق في المنفى / الغرب الرأسمالي المستغِل، لكن هذا المثقف في الوقت نفسه نبيل وأخلاقي، دمّره قمع السلطات السياسية، يحاول هنا في بلد المنفى أن يؤلف كتابه بحرية بعيداً عن الرقيب الأمني.
هي شخصية أقل تحديداً من الثانية تدمج بين أشكال عديدة للمثقف وتكثّف ما هو معروف وشائع عن صفات وصور المثقفين.
أما الشخصية الثانية فهي نموذج الإنسان الشعبي البسيط الذي يدفعه الفقر إلى الهجرة في محاولة لجمع بعض الأموال من أجل تحسين شرطه المعيشي والعائلي، ترك زوجته وأولاده في الوطن ويحلم بالعودة إليه محملاً بالهدايا.
مهاجران يقطنان في قبو أو ملجأ في إحدى مدن الغرب الرأسمالي، يعيشان ضمن ظروف مادية واجتماعية لا تطاق، وحيدان منعزلان، لا علاقات اجتماعية واحتكاك حقيقي مع العالم الخارجي، وفي سهرة واحدة هي ليلة رأس السنة، نبشا كل هموم الوطن عبر همومهما، أثارا الكثير من المشاكل، وقاما بكشف تناقضاتهما الهائلة، حتى كادا يدمران بعضهما، الإنسان الشعبي كشفَ المثقف كشفاً نفسياً عميقاً مظهراً كل عقده، وخصيه وعجزه، ونظرياته التي ليست سوى ورقاً ولا تصلح للتطبيق، بل كشفَ ادّعاءه في تأليف الكتاب وعجزه عن فعل ذلك، وعن فعل أي شيء حتى العمل، باستثناء التمدد في الفراش والتظاهر بالقراءة، وملاحقة ومحاصرة الإنسان الشعبي في كل التفاصيل وفضحه، وإظهار تخلفه ولا وعيه، والسعي لجعله مادةً لنظرياته وتجاربه وطموحاته وأحلامه. أما المثقف فقد قام بكشف شهوات الإنسان الشعبي البسيط وخصيه هو الآخر وعدم فهمه لما يدور حوله، بل أوهامه عن وضعه في هذا البلد، كشفَ بهيميته وصفاته التي اكتسبها في هذا المنفى وعلى رأسها البخل الشديد، والقذارة والرائحة البشعة التي تنبعث منه. في حوارهما قدما لنا أشكالاً من علاقات المثقف بالشعب، منها العلاقة المشوهة في بلدان يسودها القمع والاستبداد، وصوراً للرهابات التي تخلقها الأنظمة القمعية لدى العامة، حيث تلحق بالناس، قدما صوراً من أشكال الدمار الحاصل في الأوطان حيث يطال الناس البسطاء والمثقفين والسياسيين بأشكال مختلفة، وصوراً لمصير هؤلاء المهجَّرين المنفيين في بلدان الهجرة، يقرّ العرض بأن العالم هو عالم واحد رأسمالي والعنف في كل مكان: في الداخل مظهره السيطرة والقمع، وفي الخارج اصطفاف البشر في الهرم الرأسمالي واستغلالهم ، سيطرة "حضارية ناعمة".
بين يأس المثقف، وحنينه للوطن رغم المآسي فيه، كما حنين الإنسان الشعبي، يدور الصراع في العرض، والنتيجة هي مصالحة وانتصار العلاقة مع الوطن والحنين والعودة إليه من خلال مصير العامل البسيط.
يمكن القول إن العرض غروتيسكي مع خلطة بريختية على المستوى الإخراجي من خلال تقديم حوارات مباشرة تخاطب العقل مباشرة، تكشف الحقائق بشكل صادم، تضغط بصورة هائلة على الممثلَين وعلى المتفرجين، إلى جانب التغريب الحاصل منذ لحظة دخول الملجأ وطريقة الجلوس حيث تلتقي عيون المتفرجين القلائل مع بعضها، يحيط بهم ضيق المكان وبرودته ورطوبته وعتمته وفقره بل حقارته وبؤسه الصادمان.
لمَ هذا المكان بالذات؟ بسبب النص أم بسبب قلة المسارح، أم لأهداف فنية وفكرية أساسها النص؟ ربما كل ذلك، لكن وبشكل مقصود أو غير ذلك يبدو هذا المكان منسجماً مع موضوعات العرض وحساسيتها، وكم يوحي بأنه مكان حميمي بعيد عن العيون وعن الرقابة وعن الرسميات، والاستعراض، يشكل وقياساً إلى عدد المتفرجين في كل يوم (لا يتجاوز العدد 50 متفرجاً)، يشكل مكاناً آمناً للتحرر الداخلي، والبوح بكل تلك الهموم. إضافةً إلى انسجام هذا المكان وسينوغرافيا العرض بأكمله مع الموضوعات ليشكل لنا ضغطاً إضافياً يدفع إلى الضيق، والتعاطف، الغضب،... وأشكال أخرى من التفاعل مع العرض، رغم التنكيت الشديد فيه.
كما أن زمن العرض المطابق لزمن الحدث : سهرة استمرت حوالي ساعتين ونصف، جعلت العرض أكثر حميمية وصدقاً وتأثيراً.
ولعل هذه المسرحية تدفعنا إلى القول إن الجمهور يذهب إلى أي مكان حين يكون العرض مناسباً، وخير دليل على ذلك هو امتلاء المكان بالمتفرجين يومياً على مدى أكثر من شهر ونصف، رغم مكان العرض: ملجأ في دمشق، قديم وفقير غير مرتب، بل مهتّك، تم ترتيبه وإعداده من أجل المسرحية، إضافة إلى مدة العرض: ساعتان ونصف؛ مع ذلك حضر الجمهور وامتلأت الصالة تماماً بل في كل مرة كان هنالك مَن لم يتمكن من الدخول بسبب الازدحام...
بعد مشاهدة مسرحية "المهاجران"، ما يخطر في البال هو: كم يوجد في سورية أماكن تصلح لتكون "مسارح"، من ملاجئ ومقاه وحدائق... هذا العرض الذي يفتح الأذهان ويحرّض الأمنيات والأحلام في ظل أزمة المسرح في سورية: أماكن مسرحية كثيرة ومتنوعة، في كل حي وبلدة، وعروض حرة وجريئة، وجمهور في كل مكان
مهاجران، الأول مثقف سياسي أُكرِه على الهجرة وبات منفياً، الثاني إنسان شعبي بسيط للغاية اضطره الفقر والحاجة المادية إلى السفر والعمل في بلد الهجرة أعمالاً صعبة ومؤذية للغاية لا يعملها مواطنو هذا البلد، بل يعطونها لعمال أجانب ويجعلون منهم عبيداً.
هنا في قلب هذا الملجأ كنا كأننا في قلب سورية مع حضور كل أسباب الهجرة وموضوعاتها: الفقر والبطالة، الاستبداد والقمع والتعذيب، نوع الحكم، مدى تركيز وتأثير القمع والرُّهابات حتى في المهجر أو المنفى، مع إثارة الشكوك والشبهات حتى في أكثر العلاقات حميميةً رغم الظروف المتعبة والقاهرة، مثقف مهاجر دون إمكانية العودة،.... إنها قضايا الوطن الأساسية، قُدمت بصورة كاريكاتيرية ساخرة، لكنها مؤلمة في الوقت نفسه، تذكّرنا محلياً بمسرح الماغوط.
يقدم العرض صورةً عن المثقف والمثقف السياسي اليساري تحديداً، حيث هرب من القمع وبطش الديكتاتورية في بلاده، يقدمه بكل الصور النمطية والاستثنائية التي نعرفها عن المثقف بدءاً من الشكل والملابس، إلى الفكر المعارض أو المقاوم للسلطة، تركيبة شخصيته بين المترفع والمغرور، المتهكم من الإنسان الشعبي البسيط، يقدم الخطابات والنصائح التربوية والتوجيهية له، يحمل عدداً كبيراً من العقد منها ما أحضره من الوطن ومنها ما خُلق في المنفى / الغرب الرأسمالي المستغِل، لكن هذا المثقف في الوقت نفسه نبيل وأخلاقي، دمّره قمع السلطات السياسية، يحاول هنا في بلد المنفى أن يؤلف كتابه بحرية بعيداً عن الرقيب الأمني.
هي شخصية أقل تحديداً من الثانية تدمج بين أشكال عديدة للمثقف وتكثّف ما هو معروف وشائع عن صفات وصور المثقفين.
أما الشخصية الثانية فهي نموذج الإنسان الشعبي البسيط الذي يدفعه الفقر إلى الهجرة في محاولة لجمع بعض الأموال من أجل تحسين شرطه المعيشي والعائلي، ترك زوجته وأولاده في الوطن ويحلم بالعودة إليه محملاً بالهدايا.
مهاجران يقطنان في قبو أو ملجأ في إحدى مدن الغرب الرأسمالي، يعيشان ضمن ظروف مادية واجتماعية لا تطاق، وحيدان منعزلان، لا علاقات اجتماعية واحتكاك حقيقي مع العالم الخارجي، وفي سهرة واحدة هي ليلة رأس السنة، نبشا كل هموم الوطن عبر همومهما، أثارا الكثير من المشاكل، وقاما بكشف تناقضاتهما الهائلة، حتى كادا يدمران بعضهما، الإنسان الشعبي كشفَ المثقف كشفاً نفسياً عميقاً مظهراً كل عقده، وخصيه وعجزه، ونظرياته التي ليست سوى ورقاً ولا تصلح للتطبيق، بل كشفَ ادّعاءه في تأليف الكتاب وعجزه عن فعل ذلك، وعن فعل أي شيء حتى العمل، باستثناء التمدد في الفراش والتظاهر بالقراءة، وملاحقة ومحاصرة الإنسان الشعبي في كل التفاصيل وفضحه، وإظهار تخلفه ولا وعيه، والسعي لجعله مادةً لنظرياته وتجاربه وطموحاته وأحلامه. أما المثقف فقد قام بكشف شهوات الإنسان الشعبي البسيط وخصيه هو الآخر وعدم فهمه لما يدور حوله، بل أوهامه عن وضعه في هذا البلد، كشفَ بهيميته وصفاته التي اكتسبها في هذا المنفى وعلى رأسها البخل الشديد، والقذارة والرائحة البشعة التي تنبعث منه. في حوارهما قدما لنا أشكالاً من علاقات المثقف بالشعب، منها العلاقة المشوهة في بلدان يسودها القمع والاستبداد، وصوراً للرهابات التي تخلقها الأنظمة القمعية لدى العامة، حيث تلحق بالناس، قدما صوراً من أشكال الدمار الحاصل في الأوطان حيث يطال الناس البسطاء والمثقفين والسياسيين بأشكال مختلفة، وصوراً لمصير هؤلاء المهجَّرين المنفيين في بلدان الهجرة، يقرّ العرض بأن العالم هو عالم واحد رأسمالي والعنف في كل مكان: في الداخل مظهره السيطرة والقمع، وفي الخارج اصطفاف البشر في الهرم الرأسمالي واستغلالهم ، سيطرة "حضارية ناعمة".
بين يأس المثقف، وحنينه للوطن رغم المآسي فيه، كما حنين الإنسان الشعبي، يدور الصراع في العرض، والنتيجة هي مصالحة وانتصار العلاقة مع الوطن والحنين والعودة إليه من خلال مصير العامل البسيط.
يمكن القول إن العرض غروتيسكي مع خلطة بريختية على المستوى الإخراجي من خلال تقديم حوارات مباشرة تخاطب العقل مباشرة، تكشف الحقائق بشكل صادم، تضغط بصورة هائلة على الممثلَين وعلى المتفرجين، إلى جانب التغريب الحاصل منذ لحظة دخول الملجأ وطريقة الجلوس حيث تلتقي عيون المتفرجين القلائل مع بعضها، يحيط بهم ضيق المكان وبرودته ورطوبته وعتمته وفقره بل حقارته وبؤسه الصادمان.
لمَ هذا المكان بالذات؟ بسبب النص أم بسبب قلة المسارح، أم لأهداف فنية وفكرية أساسها النص؟ ربما كل ذلك، لكن وبشكل مقصود أو غير ذلك يبدو هذا المكان منسجماً مع موضوعات العرض وحساسيتها، وكم يوحي بأنه مكان حميمي بعيد عن العيون وعن الرقابة وعن الرسميات، والاستعراض، يشكل وقياساً إلى عدد المتفرجين في كل يوم (لا يتجاوز العدد 50 متفرجاً)، يشكل مكاناً آمناً للتحرر الداخلي، والبوح بكل تلك الهموم. إضافةً إلى انسجام هذا المكان وسينوغرافيا العرض بأكمله مع الموضوعات ليشكل لنا ضغطاً إضافياً يدفع إلى الضيق، والتعاطف، الغضب،... وأشكال أخرى من التفاعل مع العرض، رغم التنكيت الشديد فيه.
كما أن زمن العرض المطابق لزمن الحدث : سهرة استمرت حوالي ساعتين ونصف، جعلت العرض أكثر حميمية وصدقاً وتأثيراً.
ولعل هذه المسرحية تدفعنا إلى القول إن الجمهور يذهب إلى أي مكان حين يكون العرض مناسباً، وخير دليل على ذلك هو امتلاء المكان بالمتفرجين يومياً على مدى أكثر من شهر ونصف، رغم مكان العرض: ملجأ في دمشق، قديم وفقير غير مرتب، بل مهتّك، تم ترتيبه وإعداده من أجل المسرحية، إضافة إلى مدة العرض: ساعتان ونصف؛ مع ذلك حضر الجمهور وامتلأت الصالة تماماً بل في كل مرة كان هنالك مَن لم يتمكن من الدخول بسبب الازدحام...
بعد مشاهدة مسرحية "المهاجران"، ما يخطر في البال هو: كم يوجد في سورية أماكن تصلح لتكون "مسارح"، من ملاجئ ومقاه وحدائق... هذا العرض الذي يفتح الأذهان ويحرّض الأمنيات والأحلام في ظل أزمة المسرح في سورية: أماكن مسرحية كثيرة ومتنوعة، في كل حي وبلدة، وعروض حرة وجريئة، وجمهور في كل مكان