الخال أبو رياح
يغيب اللحام (أبو رياح) خال (فطوم حيص بيص) تاركاً طربوشه وميتانه، ولباسه الشعبي الذي صنع حضور هذا الكاركتر النمطي الشعبي، الذي تقلب في المسلسل المذكور، بين مواقف الجد والهزل، وبين الكرم والحرص، وبين المسؤولية العائلية باعتباره ولي أمر (فطوم حيص بيص) الوحيد، وبين المسؤولية الاجتماعية باعتباره أحد رجال حارة (كل مين إيدو إلو) أو الحارة الدمشقية في صيغتها النقدية التي أبدعها الفنان نهاد قلعي كاتباً، موجها سهام انتقاداته لبعض عاداتها وتقاليدها، ولما تقيمه من وزن لغوار الطوشة المشكلجي، في حين تستهين بغوار المستقيم المسالم كما ظهر في الجزء الثاني من (صح النوم) وفي تمثيلية (ملح وسكر) آخر عمل ضم هذه الباقة من الكاركترات الشعبية المحببة التي أبدعها ببراعة وذكاء الفنان نهاد قلعي، والتي عاشت في وجدان السوريين طويلا، وطبعت صور نجومها على حلوى الأطفال في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
ينتمي محمد الشماط المولود في حي العمارة الدمشقي عام 1936 إلى أسرة دمشقية عريقة، بدأ مسيرته الفنية في الفرق والنوادي المسرحية المنتشرة في دمشق منذ ثلاثينيات القرن العشرين، ومع تأسيس المسرحي القومي عام 1960 انتسب إليه كمعظم الفنانين الذين كانوا يعملون في فرق الهواة، أملا في الحصول على صفة احترافية في هذه الفرقة التي أسستها وزارة الثقافة آنذاك، لتكون نواة حركة مسرحية أكثر تنظيما، وإن صارت أكثر نخبوية، بعد أن أهملت صيغ المسرح الشعبي، وسعت لتقديم روائع المسرح العالمي.
من حارة القصر إلى حارة كل مين إيدو إلو
في التلفزيون شارك محمد الشماط في العديد من الأعمال في دراما الأبيض والأسود، كان أبرزها المسلسل الذائع الصيت (حكاية حارة القصر) للكاتب عادل أبو شنب والمخرج علاء الدين كوكش، الذي أنتجه التلفزيون السوري عام 1970. وربما من واقع حضوره في هذه الدراما الشعبية التي تدور أحداثها في إطار الحارة الدمشقية، لفت الأنظار إليه حين اختاره المخرج خلدون المالح لأداء دور (أبي رياح) في مسلسل (صح النوم) الذي شكل تحولا في مسيرته الفنية نحو الكوميديا. حيث شارك في العديد من الأفلام السينمائية الكوميدية مع الثنائي دريد ونهاد مثل (عندما تغيب الزوجات) إخراج مروان عكاوي عام 1975، و(امرأة تسكن وحدها) إخراج نجدت حافظ و(غوار جيمس بوند) إخراج نبيل المالح عام 1974 لكن محمد الشماط لم يكن جزءا من مجموعة دريد لحام التي بقيت معه بعد مرض نهاد قلعي، وكانت آخر مشاركة له في مسلسل (وادي المسك) الذي كتبه محمد الماغوط وأخرجه خلدون المالح وأنتج عام 1983، وإن بقي جزءا من حضور مسلسل (صح النوم) في الذاكرة الفنية السورية، ولهذا شارك بشخصية (أبو رياح) في مسلسل (ياسين تورز) الذي كتبه وأخرجه عماد سيف الدين وأنتج عام 1996 وسعى لاستثمار شخصية (ياسينو) التي ظهرت في (صح النوم) أيضا.
الخوالي.. ولادة فنية جيدة
عانى محمد الشماط خلال فترتي الثمانينات والتسعينيات من قلة الفرص الفنية عموماً، وعدا عن مشاركاته في بعض الأعمال السينمائية المتواضعة في سينما القطاع العام كـ (صيد الرجال) و(بنات الكاراتيه) شارك في بعض الأعمال المسرحية في فرقة الفنان محمود جبر كـ (مدير بالوكالة) و(صايعين وضايعين) وسواهما.. لكن عودته إلى ساحة الحضور الفني الحقيقي كانت على يد المخرج بسام الملا، الذي سعى لاستثمار نجوم صح النوم في العديد من مسلسلاته الفنية، فأوكل لمحمد الشماط دور (أبو جمعة) في مسلسل (الخوالي) الذي أنتج عام 2000، ثم في (ليالي الصالحية) عام 2004 كما ضمه إلى مجموعة الشخصيات الأساسية لنجوم مسلسل (باب الحارة) الذي صور الجزأين الأول والثاني منه معا عام (2006) فأعطاه دور الخضري (أبو مرزوق) الذي استمر لسبعة أجزاء قبل أن يعود في الجزء الحادي عشر الذي أنتج عام 2019 بعد أن تمكن المنتج الأمي محمد قبنض من انتزاع حقوق إنتاج العمل من المخرج بسام الملا.مات غريبا عن وطنه
كان لمحمد الشماط حضورا في بعض مسلسلات الفنان طلحت حمدي التي كان يكتبها ويخرجها في تسعينيات القرن العشرين كمسلسل (طرابيش) الذي أنتج عام 1992 ومع المخرج علاء الدين كوكش الذي قدمه في الجزء الأول من مسلسله الناجح (أهل الراية) عام 2008..
عاش محمد الشماط محنة مرضية طويلة حين أصيب عام 1995 بمحنة مرضية أفقدته النطق، وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج فقضى أربعة أعوام، قبل أن يعود ويعالج نفسه بقرآة القرآن الكريم الذي حمل إليه الشفاء كما قال في أكثر من مقابلة.
جسد محمد الشماط في مجمل مسيرته الفنية، حضور الممثل الذي التصق بالكاركتر الشعبي الشامي، كان المثير في مسيرته الفنية أنه لم يكن في الغالب يمثل الشخصيات الإيجابية الخيرة، بل الشخصيات الشريرة، ولعل دور المخبر (أبي جمعة) في مسلسل (الخوالي) كان خير تعبير عن قدرة هذا الفنان على تقمص أدوار الشر دون أن يحسب على الأشرار، كما يحدث مع ممثلين آخرين يكرههم الجمهور لأنه يربط بين أدوارهم وشخصهم. كان محمد الشماط ابن بيئة شعبية فيها الخير والشر، وقد جسد هذا بتلقائية وعفوية حتى في إطار الشخصية الواحدة في أحيانا كثيرة.
رحم الله محمد الشماط الذي رحل في الولايات المتحدة غريبا عن وطنه كما آلاف السوريين، ليجسد غربة الدمشقي عن مدينته التي استباحها الغرباء والطغاة. وليغدو منزله في حي ركن الدين الدمشقي ذكرى من فن مضى.. وزمن انهارت قيمه وتبدلت وجوه أعلامه وفنانيه.