لم تُشر الكاتبة إلى أن الأسرة يهودية إلا بعد 17 صفحة حاولت خلالها عمل نوع من " التطبيع " بين الأسرة اليهودية والقارئ المسلم، سيستمر هذا التطبيع المعنوي حتى نهاية الرواية، فهي أسرة أمريكية من الطبقة الراقية، تمتلك بيتاً فخماً وشقتين فاخرتين أخريين في بوسطن ورود آيلاند، هذا إلى جانب سيارة للأب وأخرى للأم ، إنها باختصار المكانة التي يطمح إليها 98% من سكان العالم العربي الذين يشكّلون الطبقة الوسطى والدنيا وما دونهما، والعلاقة بين الزوجين هي ذات العلاقة التي تسود معظم العلاقات الزوجية في هذا العالم ، وربما كانت أفضل قليلاً بسبب الوضع المادي الميسور. وبالتالي فإن صدمة أن تكون العائلة يهودية سيتقبلها القارئ شيئاً فشيئاً. لقد مررت الكاتبة "يهودية" الأسرة كما مررت عنوان الرواية الداخلية " الكفر الحلو".
أما على المستوى التراثي فالبطلان أعلى من مستوى الإنسان العادي( القارئ) فجلال الدين الرومي رجل ذو مكانة عالية في مجتمعه، هو رجل دين وعلم، ومن أسرة عريقة في العلم والجاه والثروة، والآخر هو شمس التبريزي، وهو أعلى من الرومي، وهو أعلى من الإنسان العادي( القارئ) بمراحل. وقد جاء هذا العلو من المعارف والعلوم الكثيرة التي حازها، والأهم منها المعرفة الباطنية والروحية التي أهلّته لأن يكون معلماً وقائداً روحياً للمعلم الكبير جلال الدين الرومي، وعليه فإن الكاتبة قد وضعت القدوة للقارئ في المستويين : المعاصر والتراثي، وقد جعلت كلاً من شمس أولاً والرومي ثانياً يحملان آراءها، وجعلت بعض المتعصبين والأشرار يحملون أراءً مخالفة لهما؛ لقد قسمت عملها الروائي إلى "فسطاطين " فسطاط الحق وفسطاط الباطل.
لابد من التذكير ثانية أن هذه الرواية موجهة إلى العالم الإسلامي، والفكرة الأهم التي نادى بها شمس والرومي بل والرواية هي تبني الحب والمؤاخاة والذوبان في حب الله وجميع مخلوقاته وترك الحقد والشر والحروب إلخ ..
والملاحظ أنه في كل مرة يُطلب من المسلم وربما العربي فقط أن يكون وادعاً ميالاً إلى الحب والتفاني بينما يقوم "الآخر" بأعمال الذبح والإبادة فينا؟؟؟
تريدنا الكاتبة أن نتخلى عن ديننا ووطننا من أجل هذا الحب الصوفي، وتنعتهما بأنهما أصنام ، تقول على لسان شمس: يجب تحطيم جميع الأصنام التي تقف حائلاً بين العبد والله، بما في ذلك الشهرة والثروة والمقام، بل حتى الدين. ص418 .
تتكرر هذه الفكرة عدة مرات، يقول الرومي: لست مسيحياً ولا يهودياً ولا مسلماً، لست بوذياً ولا هندوسيا ولا صوفيا ولا من أتباع زن، لا أتبع أي دين ولا أي نظام ثقافي، لست من الشرق ولا من الغرب. إن مكاني هو اللامكان، أثر اللاأثر..
ويعلق شمس : إن الرومي على حق، فهو ليس من الشرق ولا من الغرب إنه ينتمي إلى مملكة الحب، إنه ينتمي إلى المحبوب. ص270
( إني أخلع صاحبك كما أخلع خاتمي هذا، وأثبّت صاحبي كما أثبّت خاتمي هذا) بهذه الطريقة يخلعون ديننا ويثبتّون دينهم!
فالدين أو الشريعة ليست سوى وسيلة لمعرفة الله، فإن عرفته فلا حاجة لك بها: "ما الشريعة إلا مركب يبحر في محيط الحقيقة، وإن الباحث الحقيقي عن الله سيغادر المركب إن عاجلاً أم آجلا ويغوص في البحر".ص374.
وبناء عليه تقدم الرواية أبا يزيد البسطامي على النبي محمد :" ألم يقل النبي : يا رب اغفر لي عجزي عن معرفتك حق المعرفة، في حين قال البسطامي: طوبى لي، فأنا أحمل الله داخل عباءتي" ص232.
تضع الكاتبة مقولات الجهاد على لسان شخصية مكروهة حتى تنتقل الكراهية من الشخصية إلى المقولة( يقول عم بيبرس المتعصب عن المتصوفة: هم يدّعون أن النبي محمد قال بعد إحدى المعارك التي خاضها، بأننا عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، مجاهدة النفس، ويجادل الصوفيون أنه منذ ذلك الحين أصبحت النفس الخصم الوحيد الذي يحاربه المسلم، يبدو هذا الكلام لطيفا، لكني أتساءل كيف سيساعد ذلك في محاربة أعداء الإسلام ؟ص223.
وتأخذ الرحمةُ الكاتبة بحيث يصبح الجهاد إرهاباً يحطّم قلوب الآخرين، وتصبح العقيدة فاسدة" وإذا كنت تحطم قلوب الآخرين، فمهما كانت العقيدة التي تعتنقها، فهي ليست عقيدة جيدة"ص356.
يقودها الحديث عن العقيدة "الجديدة" إلى طريقة جديدة في الحديث عن الله لم يألفها الإسلام، ربما كانت منتشرة لدى الكتاب الغربيين لكنها لا تكاد توجد لدينا، تقول على لسان الشخصية " إن إلهي ليس بقالاً ولا محاسباً بل إنه إله عظيم ! إله حيّ، فلماذا أريد إلهاً ميتا؟ ص267.
لقد وضع المتكلمون الأوائل الحدود المانعة لمثل هذا القول عندما وضعوا قاعدة أهم من القواعد الأربعين تقول:" إن نفي العيب حيث يستحيل العيب: عيب"؛ فلا يجرؤ موظف أن يقول لرئيسه مثلاً "أنت لست حماراً" فما بالك بالحديث عن الخالق العظيم ؟ إن نفي الصفات التافهة عن الله سبحانه وتعالى نوع من إساءة الأدب مع الخالق.
تعود الكاتبة إلى احتقار الجهاد وإظهاره في صورة بشعة، يقول شمس التبريزي في الرواية:" وبدلاً من أن يفني المتدينون المتعصبون ذواتهم في حب الله ويجاهدون أنفسهم، فهم يحاربون أناساً آخرين، يولدون موجة إثر موجة من الخوف...وعندما يغضبون من أحد لسبب أو لآخر، فهم يتوقعون أن الله سبحانه وتعالى سيتدخل بالنيابة عنهم ويثأر من أجلهم ، وتغمر حياتهم حالة متواصلة من المرارة والعداوة، ويلاحقهم سخط كبير أينما ذهبوا، مثل غيمة سوداء، فيسودّ ماضيهم ومستقبلهم.ص268
فعندما تحب الله، وعندما تحب كل مخلوقاته من أجله، وبفضله تذوب جميع الانقسامات وتختفي، ومن هنا لا يعود هناك شيء يدعى "أنا".
إن هذه الدعوة إلى الحب والذوبان في الذات الإلهية ونبذ الحرب واعتبار أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس وأن نُحبَّ اليهود وكل مخلوقات الله، أقول إننا سنُلبي هذه الدعوة راضين مرضيين فقط بعد أن يخرج اليهود من بلادنا، ويخرج الاستعمار بأشكاله الجديدة من أراضينا، سنحبُّ اليهود ما داموا بعيدين عن فلسطين، لا نريدهم محتلين ولا زائرين ولا عابرين بين الكلمات العابرة .
قد يقول قائل إن الكاتبة قد اختارت شخصيات من التاريخ الإسلامي وقامت بنفض الغبار عنها وتلميعها من جديد! ولكن من قال إن عملية الاختيار في ذاتها بريئة؟!!
إن اختيار نموذج من الأبطال الفاتحين والمنتصرين يعني توقَنا وتوق الكاتب إلى الانتصار، أما اختيار نماذج سلبية منسحبة من الحياة لكي تتفرغ لحب الله وحب جميع مخلوقاته فإن هذا لا يناسبنا بالمرة، فنحن في حاجة ماسة إلى وطننا المسلوب حتى نجد مكاناً نستطيع أن نحب فيه. إننا لا نستطيع أن نحب أحداً ونحن هائمون على وجوهنا بدون وطن ..
ولكن هل من الصدفة أن تخرج هذه الرواية من تركيا للعالم الإسلامي في الوقت الذي تقدم فيه تركيا "الرسمية" نموذجا للإسلام المرضي عنه من أمريكا؛ أن تكون الدولة مسلمة وفي الوقت ذاته تكون في حلف "الناتو"، تكون على علاقات استراتيجية مع اسرائيل وبينهما تحالف عسكري واستخباراتي، وتقدم في الوقت ذاته المساعدة للفلسطينيين المحاصرين..
هل جاءت هذه الرواية لتكمل المشهد السياسي التركي الأردوغاني؟
-----------------
عميد كلية الآداب الأسبق- جامعة الأزهر- غزة