.
ينطلق الفيلم من مشهد في حضانة منها، حيث شرع الأطفال في مسرحة نص لكنفاني (الفيلم يحمل عنوانه)، وهذا لكي يتصل بغيره، أي بمشهد تظهر فيه هوفر. وبين المشهدين، هناك ذكرى لميس، ابنة اخت كنفاني، التي كانت ترافقه في حين اغتيل، والتي لقيت حتفها أيضاً في أثر هذا الاغتيال. يصح الاعتقاد هنا أن لميس هي أيقونة الفيلم، التي يحيل إليها الأطفال وتمثيلهم وظروفهم التي تسعى هوفر، ومن خلال نشاطها، الى التخفيف من وطأتها عليهم.
لقد أتت هوفر إلى نشاطها هذا من نضال بعيد. إذ كانت مناضلة طالبية حين سافرت من بلدها الدنمارك إلى يوغوسلافيا للمشاركة في مؤتمر يساري. هناك تعرفت على وفد من فلسطين المحتلة، وراحت تتحدّث مع اعضائه. بفعل ذلك، تبنّت القضية الفلسطينية، مقررة السفر إلى دمشق ثمّ، ومن أجل أن تكون على مقربة من الفلسطينيين، انتقلت إلى بيروت، حيث التقت غسان كنفاني، وسرعان ما وقعا في الحبّ. صحيح أن هذه القصة قد تبدو محور الفيلم، غير أنها، فعلياً، ليست كذلك، بحيث أن هوفر روَتها مع ربطها بما هي عليه حالياً. فيوم التقت كنفاني، كانت معلّمة، والآن هي تسهر على فتح حضانات تعنى بالأطفال في المخيمات. وسهرها هذا، بيّنه الفيلم كما لو أنه لا يتعلّق بحفاظها على إرث كنفاني فحسب، إنما، وبعد ذلك، هو حفاظ على صِلتها هي بفلسطين، وبتاريخ هذه الصلة أيضاً. فهوفر لم تكتف بنشر عمل كنفاني الأدبي والسياسي، بمعنى طباعته وتوزيعه على المكتبات، بل إنها، وبالإضافة إلى ذلك، عمدتْ إلى نشره عبر تلك الحضانات من خلال مسرحته، أو الإحالة إليه. إذ أن هوفر تدرج هذا العمل في يوميات الحضانات إياها، وبهذا، هي تجعله مألوفاً للأطفال الذين يصيرون على دراية بتواريخ فلسطين.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أن المخرج ريتزي، عرف كيف يصور الحضانات تلك بشكل معين، مفاده: بداية، أنها ومركز كنفاني، محمولة بقصة آني هوفر، وبقصة علاقتها بزوجها. مثلما أن هذه الحضانات لا تدور حول شخص هوفر نفسها كما لو أنها "الريسة"، فهي أماكن مأهولة بمعلمات من قلب المخيمات ومن خارجه، وهن، وبقسم منهن، كنّ من أطفالها أيضاً. وفضلاً عن ذلك، هذه الحضانات لا تنقطع عن محلاتها وناسها، ليس لأنها تستقبل أطفالهم فقط، بل لأنها أيضاً جزء منها. فهي تقع في أحياء المخيمات، وهي تتقاسم معها مشكلاتها، وبهذا، هي ليست مُسقطة عليها، إنما تبدو كواحات فيها. فعلياً، هي واحات لها آثارها في المخيمات، بالطبع لا تشقلبها رأساً على عقب، إنما، وعلى الأقل، تفتحها قليلاً، أو تحاول فك حصار الدولة اللبنانية لها، سواء كان مُعلَناً أو غير مُعلن. بعبارة واحدة، هي تزينها بالقناديل.
وهذا التزيين هو، بالتحديد، ما تعقد هوفر النية عليه بصحبة رفيقاتها ورفاقها، من دون أي توَقع لكون شغلهم مع الأطفال قد يكون الطريق الوحيد لجعل المخيمات فضاءات حياتية. فهوفر، وفي أثناء شرحها لما تقدم عليه، تفعل ذلك بلا أن تبديه أنه على عَظَمة ما، انما هو كان ولا يزال بمثابة مسعى تعرقله عقبات كثيرة. لكن، على الرغم من هذا، هو يستمر لأنه، مثل مُطلِقَته وفريقه، ليس مصمماً على تعاسة، بل على نوع من السرور، الذي يشبه قهقهة الأطفال في حين إعدادهم لمسرحيتهم الكنفانية. إذ يشير إلى انشراح يفاجئ كل هذه الجدران الكامدة حول المخيمات وفيها.
--------
المدن
ينطلق الفيلم من مشهد في حضانة منها، حيث شرع الأطفال في مسرحة نص لكنفاني (الفيلم يحمل عنوانه)، وهذا لكي يتصل بغيره، أي بمشهد تظهر فيه هوفر. وبين المشهدين، هناك ذكرى لميس، ابنة اخت كنفاني، التي كانت ترافقه في حين اغتيل، والتي لقيت حتفها أيضاً في أثر هذا الاغتيال. يصح الاعتقاد هنا أن لميس هي أيقونة الفيلم، التي يحيل إليها الأطفال وتمثيلهم وظروفهم التي تسعى هوفر، ومن خلال نشاطها، الى التخفيف من وطأتها عليهم.
لقد أتت هوفر إلى نشاطها هذا من نضال بعيد. إذ كانت مناضلة طالبية حين سافرت من بلدها الدنمارك إلى يوغوسلافيا للمشاركة في مؤتمر يساري. هناك تعرفت على وفد من فلسطين المحتلة، وراحت تتحدّث مع اعضائه. بفعل ذلك، تبنّت القضية الفلسطينية، مقررة السفر إلى دمشق ثمّ، ومن أجل أن تكون على مقربة من الفلسطينيين، انتقلت إلى بيروت، حيث التقت غسان كنفاني، وسرعان ما وقعا في الحبّ. صحيح أن هذه القصة قد تبدو محور الفيلم، غير أنها، فعلياً، ليست كذلك، بحيث أن هوفر روَتها مع ربطها بما هي عليه حالياً. فيوم التقت كنفاني، كانت معلّمة، والآن هي تسهر على فتح حضانات تعنى بالأطفال في المخيمات. وسهرها هذا، بيّنه الفيلم كما لو أنه لا يتعلّق بحفاظها على إرث كنفاني فحسب، إنما، وبعد ذلك، هو حفاظ على صِلتها هي بفلسطين، وبتاريخ هذه الصلة أيضاً. فهوفر لم تكتف بنشر عمل كنفاني الأدبي والسياسي، بمعنى طباعته وتوزيعه على المكتبات، بل إنها، وبالإضافة إلى ذلك، عمدتْ إلى نشره عبر تلك الحضانات من خلال مسرحته، أو الإحالة إليه. إذ أن هوفر تدرج هذا العمل في يوميات الحضانات إياها، وبهذا، هي تجعله مألوفاً للأطفال الذين يصيرون على دراية بتواريخ فلسطين.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أن المخرج ريتزي، عرف كيف يصور الحضانات تلك بشكل معين، مفاده: بداية، أنها ومركز كنفاني، محمولة بقصة آني هوفر، وبقصة علاقتها بزوجها. مثلما أن هذه الحضانات لا تدور حول شخص هوفر نفسها كما لو أنها "الريسة"، فهي أماكن مأهولة بمعلمات من قلب المخيمات ومن خارجه، وهن، وبقسم منهن، كنّ من أطفالها أيضاً. وفضلاً عن ذلك، هذه الحضانات لا تنقطع عن محلاتها وناسها، ليس لأنها تستقبل أطفالهم فقط، بل لأنها أيضاً جزء منها. فهي تقع في أحياء المخيمات، وهي تتقاسم معها مشكلاتها، وبهذا، هي ليست مُسقطة عليها، إنما تبدو كواحات فيها. فعلياً، هي واحات لها آثارها في المخيمات، بالطبع لا تشقلبها رأساً على عقب، إنما، وعلى الأقل، تفتحها قليلاً، أو تحاول فك حصار الدولة اللبنانية لها، سواء كان مُعلَناً أو غير مُعلن. بعبارة واحدة، هي تزينها بالقناديل.
وهذا التزيين هو، بالتحديد، ما تعقد هوفر النية عليه بصحبة رفيقاتها ورفاقها، من دون أي توَقع لكون شغلهم مع الأطفال قد يكون الطريق الوحيد لجعل المخيمات فضاءات حياتية. فهوفر، وفي أثناء شرحها لما تقدم عليه، تفعل ذلك بلا أن تبديه أنه على عَظَمة ما، انما هو كان ولا يزال بمثابة مسعى تعرقله عقبات كثيرة. لكن، على الرغم من هذا، هو يستمر لأنه، مثل مُطلِقَته وفريقه، ليس مصمماً على تعاسة، بل على نوع من السرور، الذي يشبه قهقهة الأطفال في حين إعدادهم لمسرحيتهم الكنفانية. إذ يشير إلى انشراح يفاجئ كل هذه الجدران الكامدة حول المخيمات وفيها.
--------
المدن