سأحدثكم عنه اليوم بعد مرور عام.. عام من الاغتراب والبرد والخوف..
عام؟!!
هل فعلا مضى عام على الغياب، ام انه كان بالامس؟
ساحدثكم عن ذلك الرقيق المغلف برداء القوة..
عن عاشق الطبيعة، وعن عاشق الطيور والحيوانات..
عن المسحور بالتاريخ والفن والادب.
عن ذلك الرجل الذي كانت تلمع دهشة الاطفال في عينيه كلما رأى جديدا.
عن ذلك الفنان الذي كان يرى الجمال في ادق التفاصيل.
صاحب العين الخاصة التي لا تشبه عينا، وصاحب الرأي المختلف عن كل الاراء..
عن المشاكس الموهوب المتحدي.. صاحب الصوت العالي.. العالي حتى الغيوم.
من كان يحزن لحزن الغريب قبل القريب ، ويفرح لفرح الجميع.. من كان قلبه يخفق حماسة وتفاعلا مع كل
خبر وكل حدث وكل قصة.
لقب بعاشق دمشق .. ومن احق منه بهذا اللقب..
اما هو.. ذلك الاب والصديق، فآلاف القصص والحكايا تفعم قلبي له وعنه وتملؤني بكل ما يعينني على تحمل فراقه..
احدى تلك الذكريات التي ترسم الابتسامة على وجهي في كل مرة تحضرني، ذلك المشوار الذي كررناه سوية عشرات المرات.. مشوار الاب والطفلة، ثم الاب والشابة، الى مدينتنا التي نعشق... الى السوق الطويل والقباقبية والحميدية والبزورية... وغيرها وغيرها من تلك الاماكن المسحورة بالجمال..
لم تكن متعتي آنذاك تكمن في كاسة البوظة التي يشتريها لي من عند بكداش .. ولا كيس السكاكر من البزورية.. ولا غداء الصفيحة من عند ابو العز.. كانت متعتي لاتوصف وانا اراقبه وهو يروي لي حكاياه عن المدينة، كانت متعتي لاتوصف وانا انظر الى عينيه وارى في كل مرة تلك النظرة العاشقة وهو يتأمل مدينته بكل ذلك الحب واللهفة والانتماء.. كنت انتظر ذلك المشوار ليس من اجل تلك المتع الصغيرة، بل من اجل تلك النظرة في عينيه ..
كنت دائما أسأله ونحن نتوه في الحارات الضيقة .. بابا كيف حافظ كل هالاماكن شبر شبر ؟ وكيف بتعرف كل هالقصص عنها؟.. كان يضحك ويقول ؛ كيف لكان ؟ هون ربيت وهون كبرت .. هون ذاكرتي وتاريخي… وعمري..
ذاكرته وعمره اللذان انتقلا عضويا ونفسيا الى ذاكرتي وعمري .. فقد كانت لديه رغبة جامحة في أن ينقل حبه للشام ومعرفته بها الي..
أذكر مشاويرنا الأسبوعية المسائية إلى الجسر الابيض والعفيف وانا ابنة الاثني عشر عاما، حيث كان يصحبني الى المعهد العربي للموسيقى من اجل دروس الغيتار، عندما كان يجلس في غرفة الاهالي، ينتظرني لإنهاء حصة الغيتار ومعه كتاب يقرأ فيه ريثما أنتهي من درسي.. كان يبدأ ساعة الانتظار وهو يقرأ، وينهيها وقد كون صداقات مع عدد من الأهالي بعد أن أبهرهم بثقافته وشخصيته وفهمه.
أذكر إصراره على اصطحابي منذ كنت طفلة الى السينما والمسرح وحفلات الموسيقى، اصراره على ان اكون مثله قارئة: بابا.. شايفة هالمكتبة الكبيرة ؟ (مشيرا الى مكتبة غرفته) كلها تحت امرك.. هذه عوالم ستفتح امامك ابواب الدنيا.. اقرأي.. اقرأي دائما.. اقرأي كل شيء..
كبرت.. وأبعدتني الدنيا عن اهلي ومدينتي .. وكنت كلما زرت دمشق، اتلهف للجلوس معه والاستماع الى احاديثه وقصصه التي لاتنتهي.. كان يتحدث بحماسة لافتة مهما كان الموضوع.. حديثه ينساب كالنهر بلا توقف.. وكان فخري يلامس السماء عندما نكون مجتمعين مع الاصدقاء وهو يتحدث والكل يتابعه بشغف.. نعم انا ابنة هذا الرجل.. كان لسان حالي يقول...
عندما أنجبت ابني الاول، حمله بين ذراعيه، وعشق الدنيا ينضح من عينيه، نظر الي وقال لي: عملتيها وساويتيني جدو.. ثم ضحك ضحكته الساحرة التي مازالت ترن في اذني..
صورته تكاد لا تغادر راسي.. هو مستلق على اريكته وفي يده كتاب يقرأ فيه..
ثم تقفز الى مخيلتي الصورة اللاحقة.. هو نائم على نفس الاريكة .. والكتاب نائم على صدره.. فالكتاب كان جزءا من ملامح شخصيته..
صورة اخرى له في ذاكرتي .. ها هو على الشرفة يعتني بنباتاته الكثيرة والمتنوعة والتي يعرف انواعها واسماءها وطرق العناية بها ولا اجدع مهندس زراعي..
صورة ثالثة له.. الرجل البارع في اصلاح اي عطل في المنزل.. كنا نلقبه عندما كنا صغارا: بابا الصلاح (بتشديد اللام)…
خيري الذهبي.. ابو فارس.. كم كان يحب هذا اللقب..
المثقف الموسوعي.. الطيب.. الحنون... صاحب الضمير الحي جدا جدا.. صاحب الاخلاق العالية والقيم السامية.. الحالم بعالم خال من الفساد، عالم خال من الظلم .. عالم منسوج من المحبة والألفة..
لم يتحقق حلمه.. فقد رحل حزينا على عالم تعصف به الضغائن والشرور..
بابا اليوم بعيد .. بجسده بعيد.. لكن روحه كانت وما زالت وستبقى ساكنة روحي .
رآه القراء والنقاد روائي دمشق.. ومؤرخ الشام.. وأنا أراه بوابة دمشق الثامنة.. البوابة التي أغلقت في الرابع من تموز ٢٠٢٢.. تاركة وراءها الكثير الكثير
*المصدر الصفحة الشخصية على (فيسبوك)*