تزيل دراما “ولاد بديعة”، مثلاً، كل ما عرف عن الدمشقيين (الشوام)، على مر التاريخ، من سمات وخصائص أثنوغرافية إنسانية وصفات وميزات اجتماعية حضارية، جعلت منهم شعباً محترماً، ليس بين السوريين والعرب فحسب وإنما بين شعوب الأرض قاطبة. وتقدمهم عبر “الدباغين” كمجموعة من المجرمين وشذاذ الآفاق، الذين لا يعرفون الرحمة ولا الشرف ولا المبادئ ولا الأخلاق.
لقد تحولت إلى حلقات من الاستمتاع السادي الأبدي بمعاناة الأب والأم، الأخ والأخت، الصديق والصديقة، الحبيب والحبيبة، الجار والجارة… كل شيء مسموح من أجل الحصول على المال والمكاسب.. كل شيء معروض للبيع وبأرخص الأثمان، لاسيما الإنسان. و”عندما يكون الإنسان للبيعِ، كيف نثق أنّه سيكون غداً هو نفسه الذي نعرفهُ اليوم؟ كيفَ أعرف من هو؟ أو لِمن سأمنّحُ ثقتي؟ كيف أثِقُ أنّه لن يقتلني أو يسلبني؟” – كما يقول عالم النفس والفيلسوف إريك فروم!
ليس من قبيل الصدفة أن تكون المفردات والعبارات الفاحشة والبذيئة حاضرة في كل مشهد، لتكمل فضح الشخصيات المريضة الضعيفة غير المكتملة درامياً والوظائف التي تؤديها. فإذا كانت الشتائم بالنسبة لشخص ما عارض بسيط، وتخرج نتيجة كمية كبيرة من تراكم الضغط والاحتقان الحياتي، فهي هنا مجرد لغة عامة وعادية. حتى إنك تعتقد أنهم يريدون تغيير لغة العاصمة الأموية العفوية، لتحل محلها لهجات شاذة مبتذلة سوقية غير ملائمة…
هم يدعون أنهم يصورون “حقيقة الحياة الحالية بكل عريها”، عارضين مجموعة سلبية من تجارب الحياة العاصفة للغاية؛ لكن عرض هاوية الحياة اليومية المفترضة يفتقد للخطوط العريضة، ويبتعد عن الواقعية؛ وبالتالي يختفي “مفهوم الفن” كعنصر ضروري في أي عمل. ومن غير المرجح أن تؤخذ مثل هذه الأعمال الوضيعة على محمل الجد إذا لم تكن تشير إلى اتجاه فني أصيل في الدراما الحديثة. إن الاهتمام المتزايد بالهامش والإنسان الضعيف والطبقات الاجتماعية الدنيا، شغل الكتاب لعقود. فقد قام دوستويفسكي وغوركي أيضاً بتصوير القاع الاجتماعي، لكنهما فعلا ذلك باسم الإنسان، الذي وضعاه على رأس التسلسل الهرمي للقيم العليا. لكن عندنا يغيب الإنسان نفسه في منظومة القيم الأخلاقية والمعنوية، مما يعكس عدم اليقين والصورة الظلية للنموذج البشري السلبي ووجهات نظره الانتهازية البحتة.
هناك وفرة من السخافة وعدم المنطقية والغرائزية والعدوانية الدموية، وهذا يعيدنا بثبات إلى الفن البدائي الهزيل، والذي غالباً ما يتحقق على حساب أغلى شيء: خفض المستوى الجمالي والفكري، وعدم الأخذ بالحسبان المشاهد وأذواقه.
لا شك أن العديد من شركات الإنتاج تملي أيضاً قوانينها الخاصة على الكتاب الطموحين، الذين غالباً ما يخضعون لطلباتها إلى حد كبير. كل هذا لا يمكن إلا أن يؤثر على مستوى جودة ما يؤلفون.. ليس من قبيل المصادفة أن معظم كتاب السيناريو والمخرجين والممثلين السوريين يكسبون المال ويصنعون أسماء لأنفسهم من خلال مزايا تشبيحية تثير الريبة.
لقد ملأت رغبتهم المتحيزة في فضح العلل والرذائل الاجتماعية التي تميز حياة السوري المسكين اليوم، الأجواء الدرامية بالمنتجات الإجرامية والحماس المفرط للقتل.
إن فرصة التحدث بحرية عن الموضوعات المحظورة أدت إلى غياب أي نوع من الحزن الخفيف والموقف الفلسفي تجاه “رحلة الزمن” الحتمية، ما فتح الطريق أمام سيطرة تيار الوعي الهذياني الفصامي؛ وبدلاً من اللوحات والصور المبنية بأناقة هناك تفاصيل مناهضة عن عمد لجمالية الحياة؛ وبدلاً من رؤية واضحة محددة بدقة للعالم هناك مراوغة فضائحية، وحالات مزاجية بائسة، ومواقف سمجة، ونهايات يائسة، ومشاهد السرير الرخيصة، واللغة الفظة، وأخطاء فنية لا تعد ولا تحصى…
العمل الفني هو في النهاية تجربة. بدون تجربة، ستحصل على توليفة تناصية. وهذا لم يعد فناً! إذا تحدثنا عن الاتجاهات الرئيسية في الدراما الحديثة، فإن المسلسلات التلفزيونية هي فن وليست مجرد عروض فارغة تعاني من الأفكار الضعيفة والحوارات والسطحية والتمثيل الرديء؛ فتجسيد المادة الدرامية يعتمد على المفهوم الإبداعي والخيال اللحظي للممثل.
وهنا يحضر كلام الدكتورعلي القيسي “يتضح أن الفن قد غادر أروقة المسارح والمتاحف والمعارض الرفيعة ليستقر في أحضان النوادي الليلية، ممحياً الفواصل بين العرض الفني الراقي والاستعراضات الجسدية المتضخمة بفرط وخزات الابر.. وبهذا، تحولت الثقافة إلى سلسلة من الإطلالات الخلاعية والغرائزية”.
ربما لن يجد شبيحة الفن هؤلاء (من المخرجة رشا هشام شربتجي، مروراً بكاتبي السيناريو، وصولاً حتى الممثلين) أي حرج في ذلك؛ ومن الطبيعي أن يكون ردهم على لسان بطلة المسلسل بنت الحرام والراقصة والمجرمة سلافة معمار (سكر): “ما بشغلني!”. أجل، إن سلطة أمر الواقع في دمشق بحاجة إلى مثل هذه الدراما المشينة للحفاظ على سعادتها بقهر ليس سكان العاصمة وإنما كل سورية. لذلك، ربما، هذه هي الطريقة الوحيدة لتبرير ما فعلته وما تفعله من جرائم بحق الشعب السوري العظيم: أنا، أنا فقط، ومن بعدي الطوفان!
إن تشويه الإنسان (السوري) لا يعني أنه انتهى أو مات حقاً حتى لا يفكر فيه أحد؛ بل على العكس هو حي؛ وما زال قلبه ينبض بكل المشاعر والفضائل الإنسانية الجميلة. يبدو أن التفاهة قد ناسبتكم أكثر من أي شيء آخر يا “ولاد أنيسة”، لذلك سيروا في دروبها الدونية حتى يحتويكم الحضيض بقاعه العميق؛ والذي بدوره يجعل من الصعب الاعتراف بدراماتكم كفن من قبل الجمهور الواعي المثقف.
شخصيات القاع القبيحة
إذا كانت الدراما التلفزيونية عادة ما تركز على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية للمجتمع السوري والحوادث التاريخية التي مرت عليه، وتعكسها من خلال اتجاهات جمالية فنية مختلفة ولافتة للنظر، إلا أن مشهدها الآني في هذا المسلسل كان مليئاً بجميع شخصيات القاع القبيحة: بغايا وقوادة ومدمني مخدرات ومشردين ومهووسين ومجرمين وملعونين ولصوص وسجناء وبلطجية ومجانين من جميع المشارب… وهذا ما جعل الانحرافات نفسها، سواء في النفس أو في أسلوب الحياة، تشكل القاعدة: القتل، المشاجرات، الاغتصاب، السرقة، الخداع، الكذب، المكر، والوقاحة، الوضاعة، الخيانة… وأنت تشاهد هؤلاء تعتقد أن دمشق أصبحت غابة للتوحش والمتوحشين؛ حيث لا يوجد في مجتمعاتها أشخاص طبيعيين وأصحاب نوايا سليمة. وأنه لم تعد هناك روابط أخوة أو صداقة أو رغبة في العيش المشترك… تشعر أنهم جميعاً مرضى نفسيين وجناة وموضع شك واتهام، إلا ذلك المعتوه الأسدي الرابض كمصاص دماء قابيلي في مغارته على سفح جبل قاسيون!لقد تحولت إلى حلقات من الاستمتاع السادي الأبدي بمعاناة الأب والأم، الأخ والأخت، الصديق والصديقة، الحبيب والحبيبة، الجار والجارة… كل شيء مسموح من أجل الحصول على المال والمكاسب.. كل شيء معروض للبيع وبأرخص الأثمان، لاسيما الإنسان. و”عندما يكون الإنسان للبيعِ، كيف نثق أنّه سيكون غداً هو نفسه الذي نعرفهُ اليوم؟ كيفَ أعرف من هو؟ أو لِمن سأمنّحُ ثقتي؟ كيف أثِقُ أنّه لن يقتلني أو يسلبني؟” – كما يقول عالم النفس والفيلسوف إريك فروم!
ليس من قبيل الصدفة أن تكون المفردات والعبارات الفاحشة والبذيئة حاضرة في كل مشهد، لتكمل فضح الشخصيات المريضة الضعيفة غير المكتملة درامياً والوظائف التي تؤديها. فإذا كانت الشتائم بالنسبة لشخص ما عارض بسيط، وتخرج نتيجة كمية كبيرة من تراكم الضغط والاحتقان الحياتي، فهي هنا مجرد لغة عامة وعادية. حتى إنك تعتقد أنهم يريدون تغيير لغة العاصمة الأموية العفوية، لتحل محلها لهجات شاذة مبتذلة سوقية غير ملائمة…
هم يدعون أنهم يصورون “حقيقة الحياة الحالية بكل عريها”، عارضين مجموعة سلبية من تجارب الحياة العاصفة للغاية؛ لكن عرض هاوية الحياة اليومية المفترضة يفتقد للخطوط العريضة، ويبتعد عن الواقعية؛ وبالتالي يختفي “مفهوم الفن” كعنصر ضروري في أي عمل. ومن غير المرجح أن تؤخذ مثل هذه الأعمال الوضيعة على محمل الجد إذا لم تكن تشير إلى اتجاه فني أصيل في الدراما الحديثة. إن الاهتمام المتزايد بالهامش والإنسان الضعيف والطبقات الاجتماعية الدنيا، شغل الكتاب لعقود. فقد قام دوستويفسكي وغوركي أيضاً بتصوير القاع الاجتماعي، لكنهما فعلا ذلك باسم الإنسان، الذي وضعاه على رأس التسلسل الهرمي للقيم العليا. لكن عندنا يغيب الإنسان نفسه في منظومة القيم الأخلاقية والمعنوية، مما يعكس عدم اليقين والصورة الظلية للنموذج البشري السلبي ووجهات نظره الانتهازية البحتة.
الغرائزية والعدوانية الدموية
يبدو أن هناك تيار معاد للفن والجمالية يغزو الدراما السورية.. هذا التيار، الذي لديه ذوق سيء ويتمتع بالابتذال الصريح والمباشر، يسعى وراء الترند. لكن، غالباً ما يؤدي السعي وراء الترند إلى أخطاء فنية كثيرة وقاتلة. تشمل العيوب المتعددة للواقع الدرامي لـ “ولاد بديعة” بالتركيز المتعمد على حضور ما يسمى بـ “وقاحة الممثل” مع التجاهل الجزئي أو الكلي لمفاهيم، مثل: “فن الممثل”، و”التقاليد الإنسانية”، و”الإدراك الجمالي”، و”قانون القيمة”، وغيرها من الأصول…هناك وفرة من السخافة وعدم المنطقية والغرائزية والعدوانية الدموية، وهذا يعيدنا بثبات إلى الفن البدائي الهزيل، والذي غالباً ما يتحقق على حساب أغلى شيء: خفض المستوى الجمالي والفكري، وعدم الأخذ بالحسبان المشاهد وأذواقه.
لا شك أن العديد من شركات الإنتاج تملي أيضاً قوانينها الخاصة على الكتاب الطموحين، الذين غالباً ما يخضعون لطلباتها إلى حد كبير. كل هذا لا يمكن إلا أن يؤثر على مستوى جودة ما يؤلفون.. ليس من قبيل المصادفة أن معظم كتاب السيناريو والمخرجين والممثلين السوريين يكسبون المال ويصنعون أسماء لأنفسهم من خلال مزايا تشبيحية تثير الريبة.
لقد ملأت رغبتهم المتحيزة في فضح العلل والرذائل الاجتماعية التي تميز حياة السوري المسكين اليوم، الأجواء الدرامية بالمنتجات الإجرامية والحماس المفرط للقتل.
إن فرصة التحدث بحرية عن الموضوعات المحظورة أدت إلى غياب أي نوع من الحزن الخفيف والموقف الفلسفي تجاه “رحلة الزمن” الحتمية، ما فتح الطريق أمام سيطرة تيار الوعي الهذياني الفصامي؛ وبدلاً من اللوحات والصور المبنية بأناقة هناك تفاصيل مناهضة عن عمد لجمالية الحياة؛ وبدلاً من رؤية واضحة محددة بدقة للعالم هناك مراوغة فضائحية، وحالات مزاجية بائسة، ومواقف سمجة، ونهايات يائسة، ومشاهد السرير الرخيصة، واللغة الفظة، وأخطاء فنية لا تعد ولا تحصى…
العمل الفني هو في النهاية تجربة. بدون تجربة، ستحصل على توليفة تناصية. وهذا لم يعد فناً! إذا تحدثنا عن الاتجاهات الرئيسية في الدراما الحديثة، فإن المسلسلات التلفزيونية هي فن وليست مجرد عروض فارغة تعاني من الأفكار الضعيفة والحوارات والسطحية والتمثيل الرديء؛ فتجسيد المادة الدرامية يعتمد على المفهوم الإبداعي والخيال اللحظي للممثل.
سلطة بحاجة لهذه الدراما المشينة!
في كل العالم تزدهر جميع فنون الأداء ـ مسرح، سينما، موزيكال.. ـ إلا عندنا فلا تزدهر سوى الدراما التافهة؛ لأنها مخصصة للعقول الصغيرة التي تستطيع أن تأكل وتشرب وتشاهد في نفس الوقت، لاسيما في رمضان!وهنا يحضر كلام الدكتورعلي القيسي “يتضح أن الفن قد غادر أروقة المسارح والمتاحف والمعارض الرفيعة ليستقر في أحضان النوادي الليلية، ممحياً الفواصل بين العرض الفني الراقي والاستعراضات الجسدية المتضخمة بفرط وخزات الابر.. وبهذا، تحولت الثقافة إلى سلسلة من الإطلالات الخلاعية والغرائزية”.
ربما لن يجد شبيحة الفن هؤلاء (من المخرجة رشا هشام شربتجي، مروراً بكاتبي السيناريو، وصولاً حتى الممثلين) أي حرج في ذلك؛ ومن الطبيعي أن يكون ردهم على لسان بطلة المسلسل بنت الحرام والراقصة والمجرمة سلافة معمار (سكر): “ما بشغلني!”. أجل، إن سلطة أمر الواقع في دمشق بحاجة إلى مثل هذه الدراما المشينة للحفاظ على سعادتها بقهر ليس سكان العاصمة وإنما كل سورية. لذلك، ربما، هذه هي الطريقة الوحيدة لتبرير ما فعلته وما تفعله من جرائم بحق الشعب السوري العظيم: أنا، أنا فقط، ومن بعدي الطوفان!
إن تشويه الإنسان (السوري) لا يعني أنه انتهى أو مات حقاً حتى لا يفكر فيه أحد؛ بل على العكس هو حي؛ وما زال قلبه ينبض بكل المشاعر والفضائل الإنسانية الجميلة.