إن الاشتغال على الفكر الديني هو اشتغال على ظاهرة تاريخية تعتبر عصبة التفكير الانساني المستمرة والمتشكلة عبر العصور.ذلك أن الاعتقاد بقوى خفية وتحكمها في الطبيعة والكون وفي النفس البشرية ومستويات ضعفها وخوفها وتوتراتها ومواجهتها للمجهول وللموت والفراغ ولصراعات حياتية دائما تذهب بالانسان نحو الزوال قويا كان أو ضعيفا....
هذا الاعتقاد ساد عند الانسان البدائي وعبر عنه في رسومه وطقوسه الجماعية الاحتفالية والجنائزية وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية،المادية والمعنويةـ الوجدانية... كما انه تطور في وقت لاحق مع تشكل مجتمعات أكثر تقدما عن البدلئية.والحديث هنا عن المرحلة القروسطية في الحياة الانسانية.والحد الادنى هنا للقروسطية سنركز فيه على نمو الجماعة البشرية إلى العشيرة والقبيلة، وإلى تحول الاقتصاد إلى فلاحة وزراعة وإلى استقرار بالارض أكثر ،وبداية التقليص من الصراع اليومي مع الطبيعة في الصيد ومواجهة المخاطر، والترحال والتجوال .... إلى تركيو على الذات وضبط المحيط وبدايات فهم الظواهر بشكل أفضل مما سبق... وظهور رب الاسرة وشيخ القبيلة وذاكرتها وأعرافها التي تشكل شخصيتها وأجيال تدافع عن هذه المقومات الذاتية وتدعوا إلى تقديسها ....
كل هذا في إطار خلق الحماية للفرد وللجماعة أمام و ضد فرد أو جماعة آخرين ، أمام أو ضد المجهول والغائب خيرا كان أو شرا...
مع هذه التحولات الجديدة بقي بين ايدينا تراث ديني يشكلها ويمثلها ، ممتد من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب بشكل متنوع ومتعدد، متقارب ومتباعد، ومع بقاء أمثلة تدينية لما قبله كأنها ترقب للانسانية طفوليتها وبدائيتها وتريد الانتكاص الى الطبيعة الام....
داخل هذا التراث نلاحظ ظهور الديانات الكبرى التي رافقت الحضارات التاريخية المشهورة في آسيا ة أفريقيا وأوربا وأمريكا... وهذه الديانات توارثت أشكال التميز والقوة والشرعية والتوسع... أصبحت فكرا مجردا يريد الاستمرار في الواقع وتغيير ذهنيات الشعوب التي يخترقها ويتجذر في حياتها.. هذه هي قوة التفكير الديني وقدرته على سلخ الجلد القديم والاعضاء البالية لأجل التجدد والتكيف والاستمرارية. فهو زئبق العصبيات والذهنيات والاحداث، لا يقتلع تاريخيا ولا يستسلم، يريد دائما موقعا داخل كل وضع وتجمع إنساني جديد أو قديم وكيفما كان.
يأتي الحديث هنا عن محاولات الانسان العاقلة للتعامل مع الظاهرة الدينية وفرض منطق الواقع والطبيعة والمحسوس عليها.وهي محاولات تطورت مع الفلاسفة عبر التاريخ دون أن تنفي عنهم طابعهم الانساني المتدين أو المثالي أو الاسطوري ، إن بشكل نسبي أو مطلق.
وفي عصرنا الحالي لا زال الفكر الديني حاضرا بقوة ومتجددا في أشكال مؤسساتية وتحالفات سياسية وايديولوجية واقتصادية وثقافية.... لابسا لبوسة العصر الحديث، قائدا الجماعة الانسانية بتهليلاته وأذكاره وطقوسه.. مبررا العدل تارة والظلم تارة أخرى، القوة والضعف كذلك..مُجترا معه الصراعات الماضوية مُحييا لخطاباتها بتقنيات وايديولوجيات معاصرة.. وهذا هو الاخطر فيه...
هذه ملاحظات حول الفكر الديني عامة قديما وحديثا... فماذا عن الحداثة ومشروع التحديث؟
لعل خطاب مشروع الحداثة في هذا التحليل يتوخى خلق بديل للواقع الحالي لم يتحقق بعد، ولكنه مُستوحى من فكر الحداثة الذي نفترض انه موجود و يتوفر على عناصر بديلة للانسانية تخرج بها من ارتباط ماضوي بصراعاته وأفكاره القديمة التي يجب تجاوزها الآن، عناصر تعتبر فرصة تاريخية لخلق مجتمعات أكثر استقرارا وتطورا اليوم وغذا.
فكر الحداثة هذا انطلق في رؤيته رؤية مثالية ترى فيه الصلاحية والعدل والتصحيح للتاريخ ومحاربة الظلم والتخلف... ولكن هل فعلا هذا هو فكر الحداثة؟... نريد بلورة لأسمى ما تصوره الفلاسفة والعلماء ورجال السياسة والتاريخ والاجتماع.. ولو ان منطلقاتهم كانت مختلفة، والمصالح التي خدموها قد رأوها أولا وقبل كل شيء في دائرة ضيقة أو محصورة ومقتصرة على طبقة أو منطقة..
لن يكون فكر الحداثة في هذا التحليل سوى إرادة التغيير بالصورة المرسومة جزئيا ونسبيا فيما سبق ذكره.
لا بد لهذه الإرادة أن تنطلق من الممكن والواقع، مما نستطيع إنجازه وتحقيقه في دوائره الصغرى والمتوسطة والكبيرة. لابد لها أن تتخذ شكل مشروع ونحاول رسم أهدافه ومراحل إنجازه وطرق ووسائل تحقيقه...
ولكن لماذا الحاجة إلى التحديث؟ هناك من سيقول إننا ننعم بالإيمان والعبادة والحب لله، ولازلنا نحتاج إلى طاعته أكثر وتطبيق أحكامه لكي يخرجنا من واقعنا وضعفنا وتأخرنا، ولكي نفوز بالآخرة وننجو من العذاب...
بداية الجواب في انسجام مع ما سبق نقول إن العصر الحالي الذي تعيشه الإنسانية عرف تحولات تاريخية كيفية ونوعية وانتقالات من أشكال تفكير وتنظيم وعيش وحضارة الى أخرى أكثر تطورا وتغيرا. هذا الوضع الجديد يفرض رسم فكر جديد متلائم معه وغير مضيع فرصة التطور والتقدم.إن الفكر الديني الذي مَثل ومَثلته القرون الوسطى يحتاج الى تطوير وتغيير لكي يُمثل ويُمثله العصر الحديث. ولا أحد يجادل في التحولات التاريخية الكبرى التي عرفتها الإنسانية خلال القرون التاريخية والزمنية الأخيرة وعقودها القريبة.
ومعروف أن الإنسان يتصف بالعناد والتعنت والأنانية والتشبت بالقديم وحنين الأجداد والأخبار، وقد عانى الفكر الديني نفسه من عناد هذا الإنسان ولم يستطع اختراقه إلا بصعوبات وتضحيات وتدرج.هذه الحقيقة الموضوعية لا أحد ينفيها أو يجادل فيها، وهي سلاح لنا أو علينا، أكنا مع المشروع الحداثي أو ضده.
وكل دين أراد أن يحافظ على استمراريته لابد له أن يجدد آلياته وتصوراته، وإلا فسيستسلم للتاريخ بفكره ومؤسساته وأتباعه ، ويجعله إرثَه ومجاله لديانات أخرى.
في هذا الإطار تأتي شرعية خطابنا بالحديث عن مشروعية تحديث الفكر الديني، وفي هذا الإطار سيتم الحديث عن مشروع تحديث الإسلام كفكر ديني وتصور حياتي.
فهل فعلا الإسلام في حاجة إلى تحديث وتكيف جديد مع معطيات العصر الحديث؟ هل هذا الاقتراح مشروع أم هو مجرد مصيدة وتربص بالدين الثابت الكامل والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
معلوم أن الإسلام محور هويتنا التاريخية والاجتماعية والنفسية والروحية، ولكنه ليس هو المجال الواقعي الجديد الذي نعيش داخله وفي فلكه.و لا يعني هذا أنه يناقض كلا منا أو يخالفه، بل إن تصورنا له كمسلمين هو الذي أصبح يباعده و يفترق عنه نسبيا.
لقد عرف تاريخنا الحديث تجربة مماثلة عاشها مفكرون إسلاميون بارزون.ثار هؤلاء على أوضاع تخلف وجمود وظلام عانى منها التفكير الإسلامي والمجتمعي والحضاري لأممنا، وسموا ذلك العهد بعصر الظلمات.وفعلا ، فكلما انسدد الأفق وأصبحنا نرسم فلكا مغلقا ومتكررا للحياة والتاريخ، فإننا حكمنا على حركة التاريخ بالتوقف وتكرار بدائية الحياة وثنائياتها البسيطة. وقد عانى هؤلاء المفكرون من رد فعل حراس الجمود والتخلف في التاريخ، كالمنقبض في نمو شخصيته الملازم لطفولته الخائف من فقدان حنينها وعيشها رغم كبره وهرمه وشيخوخته،حارقا مراحل الحياة متغافلا لها.
فهناك من كُفر وسجن ومن سُفه.... ولكن الأجيال شرعنت خطابهم ونداءاتهم ووعت بطروحاتهم فبلورتها في مشاريع سياسية واجتماعية وأخلاقية وتربوية....
والآن، هل النداء بتحديث الاسلام سيكون مقبولا أو مرفوضا؟ وهل القول بعدم صلاحية جملة تصورات وخطابات سيكون صحييحا أم خاطئا؟ لا نبحث عن جواب لأنفسنا فقط، بل للواقع وللتاريخ وللمجتمع...فالواقع يعرف أشكال مقاومة عنيفة لما هو مشروع في مقاومته ولما هو غير ذلك...وهذا أمر يُصعب مهمة المعالجة والتحليل.
هل المجتمع الاسلامي في حاجة إلى تحديث؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كانت الحداثة هي مشروع عقلنة ونظام وضبط وتحكم في التسيير ورقيٍ بالمجتمعات الانسانية وتوفير عيش كريم، وحقوق مستفادة وقيام بواجب في حدود المسؤولية وبنزاهة وشفافية مع محاربة كل ظلم واستبداد وتجبر واستعباد... إذا كانت الحداثة هي هذه ، فلعل هذا لم يتحقق في التاريخ الانساني قبل ،ولا في التاريخ الاسلامي كذلك.... ليأت المخالف بخلاف ما نقول من الواقع الموضوعي والتاريخ الفعلي لحياة البشرية وللمجتمعات الاسلامية.
ما هو واقع المجتمعات الاسلامية اليوم؟ كثيرا ما تبرر مجموعة من الخطابات شرعيتها برد اللوم على الآخر على الاستعمار وعلى الكافر وعلى الصهيونية والامبريالية و و و.... ولكن ستر وحجب الشمس بالغربال لا ينفع اليوم في هذا السياق.فنحن كمجتمعات اسلامية نجتر تاريخا مليئا بالتخلف والاستعباد والقهر والخوف والاستبداد، وبالكبت والجهل والأمية، وبرفض التغيير والتطور...والامثلة الدالة على ذلك كثيرة وعريضة....
مع قرارة أنفسنا يجب أن نقر بأننا نعيش الفوضى وسوء التنظيم والتخطيط، وأننا نساهم في انتشار الفقر ومعه فقدان الحقوق ، ولا نساهم في تحسين وضع الانسان والرقي به كشخص والسمو به كمواطن وكفرد... فبمجرد أننا نمارس خطابا جبريا وقهريا وزاجرا ومتوعدا، فإننا نكرس الخضوع والاستبداد والطاعة في غير مواضعها والاستعباد بأشكاله الراقية الجديدة.
لم نبق الآن مجتمعات رعوية وبدوية وفلاحية فقط، أصبحت فينا تحولات تاريخية بنيوية،وأصبحت فينا فئات وطبقات نوعية لم تكن بالأمس القريب. إن المجتمع الاسلامي اندمج في التحولات الحضارية الجديدة وفي الحركة الاقتصادية الحديثة وفي أشكال الحياة اليومية المعيشة الآن.ويجب علينا أن نواكب هذا الاندماج ونجعله أكثر مردودية وايجابية واستفادة، ونجعله مساهما ومنتجا وليس مستهلكا وتابعا أو رافضا ومتناقضا.
إن التحولات العمرانية والتنظيمية والسكنية واالمهنية...جعلت الانسان يأخذ أدوارا جديدة داخل المجتمع ترتبط بالجهد المبذول والكفاءة المتوفرة والمنتوج المحصول، ولم يعد لتقسيم القبيلة والعشيرة والشريف والوضيع والذكر والانثى والعبد والسيد والامير والخادم...لم يعد لكل هذا مجال للحديث أو للتكريس.هذا ما تريد الحداثة تغييره. وقد ارتبطت بهذه التحولات أخلاق جديدة ومسؤوليات محددة ورؤى بديلة عن كل ما سبق.
هذه التحولات لا تعني غياب أشكال سابقة سائدة اليوم. ولكن لنتساءل ما هو الأفضل : التحرر أم الاستعباد؟ الاستقلال أم الاتكال والاعتماد...؟
فهل نفسية المسلم وشخصيته مستعدة لتقبل هذه التحولات والاندماج فيها أم لا؟
إن الفرد المسلم اليوم محاصر بمجموعة من الخطابات والصراعات والازمات تجعله دائم التوتر وتسد أمامه آفاق الانفتاح والتطور النوعي داخل التاريخ.إن الصدمات احضارية التي يعيشها تبرر له تمسكه بالخطابات الماضوية المتشددة والرافضة للواقع وحتى للمستقبل،الرافضة كذلك لكل محاولات التجديد والتغيير الحداثي الذي يجب أن يكون مجردا في طلبه عن كل انزلاقات التبعية والاستعمار والاستغلال البشع أو حتى الاحتلال الممنهج والتذويب والاحتقار الفظيع لشخصية هذا المسلم من طرف أعداء له في الواقع.
ولكن ، هل طلب التحديث هو قضاء على هذا المسلم وخدمة لهؤلاء الاعداء؟ بالطبع ليس هذا هو المطلوب، إذ امطلوب هو تحديث حضاري مع تحقيق للكرامة واحترام للسيادة للفرد والمجتمع ولمقوماتهما الشخصية. وهذا يفترض كما قلنا أن يكون استعداد المسلم لإحداث تغيير في نفسيته وتفكيره أولا، وإقناعه بأن التغييرات الحداثية هي تحولات سلمية وتربوية معقلنة، لا كما يرى ونرى بها تاريخ الانسانية.إذ غالبا ما كان تحول الشعوب من دين الى آخر، ومن نظام سياسي إلى آخر بالقوة والعنف وليس دائما بالاحتكاك والاقتناع.
وقبل أن نقترب من أي تصور للحداثة هو المنشود والمأمول، نلقي الضوء على الواقع التاريخي للمجتمعات الانسانية والاسلامية على الخصوص لنرى الداعي إلى التغيير والتحديث.
بدون اجترار الدراسات والبحوث الكثيرة في هذا الموضوع نسجل أن المجتمعات الانسانية اليوم دخلت مع النصف الاخير من القرن العشرين في حصاد ثورتها العلمية والفلسفية والصناعية والاقتصادية ككل.. وكذلك التقنية والمعلوماتية، مستفيدة من اكتشافاتها واختراعاتها ومختبراتها إن في المجال الخلوي والوراثي أو المجال الذري والنووي....
لكن هذا التطور البارز الذي عرفته الانسانية يجعلنا نفرز طبقات وفئات عن أخرى.إذ من يشارك فيه ويتحكم في سيرورته؟ بالطبع فالمجتمعات الغربية اليوم هي المتحكمة والمساهمة فيه بشكل أكبر. وإن كان العالم قد عرف تجربتين حضاريتين ذاتا بعدين فلسفيين وسياسيين وهما الرأسمالية والاشتراكية، فإن الكفة اليوم تميل للمشروع الليبرالي الرأسمالي مع أفقه الجديد المتمثل في محاولة العولمة الشاملة لمشروعه السياسي والاقتصادي والايديولوجي والمصلحي كذلك..مع التذكير بأن تجربة الصين لا زالت مستمرة ومنتجة، ولكن بالمقارنة مع الغرب، فإن الرقي والتطور عند الفرد الانساني يلاحظ في الغرب أكثر. وهذا لا يعني الافضلية والتفوق، قلا ننسى أن ازدهار العالم الغربي بالامس وغدا هو على حساب ثروات شعوب وتعبها واستغلالها ماديا ومعنويا.
فهل الحداثة مشروع غربي فقط؟
الجواب بنعم قد يجعلنا إطلاقيين.فإما الارتماء في أحضان هذا المستغل المتجدد الاشكال والتشكلات أو الرفض له والانزواء.وفي الحل الاول استسلام وانحلال، كما في الثاني تشدد وابتعاد عن أرض الواقع ومسار التاريخ.
إن الحداثة هي ركوب قاطرة التاريخ ومواكبة محطاتها وتصوراتها والتعامل والاستفادة من مكوناتها وعنصرها، هي جعل التطور إلى الأفضل والاحسن ما هو غاية للانسانية طبعا.فكلما استطعنا القضاء على الجهل والفقر، نشرنا العلم والمعرفة والوعي.وكلما قضينا على المرض والجوع حققنا سلامة الانسان وعيشه الكريم.وكلما وفرنا الحقوق والكرامة والعدالة لهذا الانسان سحقنا أشكال القهر والاستبداد والاستعباد والظلم والطغيان، وجعلنا الانسان أكثر تحضرا والتزاما بالقانون وراغبا في العيش الكريم والسليم...كلما حققنا النظام وحسن التسيير قضينا على الفوضى التي تسود مجتمعاتنا في التفكير والتسيير والانجاب والانتاج ومجالات الحياة عامة .
هذا الاعتقاد ساد عند الانسان البدائي وعبر عنه في رسومه وطقوسه الجماعية الاحتفالية والجنائزية وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية،المادية والمعنويةـ الوجدانية... كما انه تطور في وقت لاحق مع تشكل مجتمعات أكثر تقدما عن البدلئية.والحديث هنا عن المرحلة القروسطية في الحياة الانسانية.والحد الادنى هنا للقروسطية سنركز فيه على نمو الجماعة البشرية إلى العشيرة والقبيلة، وإلى تحول الاقتصاد إلى فلاحة وزراعة وإلى استقرار بالارض أكثر ،وبداية التقليص من الصراع اليومي مع الطبيعة في الصيد ومواجهة المخاطر، والترحال والتجوال .... إلى تركيو على الذات وضبط المحيط وبدايات فهم الظواهر بشكل أفضل مما سبق... وظهور رب الاسرة وشيخ القبيلة وذاكرتها وأعرافها التي تشكل شخصيتها وأجيال تدافع عن هذه المقومات الذاتية وتدعوا إلى تقديسها ....
كل هذا في إطار خلق الحماية للفرد وللجماعة أمام و ضد فرد أو جماعة آخرين ، أمام أو ضد المجهول والغائب خيرا كان أو شرا...
مع هذه التحولات الجديدة بقي بين ايدينا تراث ديني يشكلها ويمثلها ، ممتد من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب بشكل متنوع ومتعدد، متقارب ومتباعد، ومع بقاء أمثلة تدينية لما قبله كأنها ترقب للانسانية طفوليتها وبدائيتها وتريد الانتكاص الى الطبيعة الام....
داخل هذا التراث نلاحظ ظهور الديانات الكبرى التي رافقت الحضارات التاريخية المشهورة في آسيا ة أفريقيا وأوربا وأمريكا... وهذه الديانات توارثت أشكال التميز والقوة والشرعية والتوسع... أصبحت فكرا مجردا يريد الاستمرار في الواقع وتغيير ذهنيات الشعوب التي يخترقها ويتجذر في حياتها.. هذه هي قوة التفكير الديني وقدرته على سلخ الجلد القديم والاعضاء البالية لأجل التجدد والتكيف والاستمرارية. فهو زئبق العصبيات والذهنيات والاحداث، لا يقتلع تاريخيا ولا يستسلم، يريد دائما موقعا داخل كل وضع وتجمع إنساني جديد أو قديم وكيفما كان.
يأتي الحديث هنا عن محاولات الانسان العاقلة للتعامل مع الظاهرة الدينية وفرض منطق الواقع والطبيعة والمحسوس عليها.وهي محاولات تطورت مع الفلاسفة عبر التاريخ دون أن تنفي عنهم طابعهم الانساني المتدين أو المثالي أو الاسطوري ، إن بشكل نسبي أو مطلق.
وفي عصرنا الحالي لا زال الفكر الديني حاضرا بقوة ومتجددا في أشكال مؤسساتية وتحالفات سياسية وايديولوجية واقتصادية وثقافية.... لابسا لبوسة العصر الحديث، قائدا الجماعة الانسانية بتهليلاته وأذكاره وطقوسه.. مبررا العدل تارة والظلم تارة أخرى، القوة والضعف كذلك..مُجترا معه الصراعات الماضوية مُحييا لخطاباتها بتقنيات وايديولوجيات معاصرة.. وهذا هو الاخطر فيه...
هذه ملاحظات حول الفكر الديني عامة قديما وحديثا... فماذا عن الحداثة ومشروع التحديث؟
لعل خطاب مشروع الحداثة في هذا التحليل يتوخى خلق بديل للواقع الحالي لم يتحقق بعد، ولكنه مُستوحى من فكر الحداثة الذي نفترض انه موجود و يتوفر على عناصر بديلة للانسانية تخرج بها من ارتباط ماضوي بصراعاته وأفكاره القديمة التي يجب تجاوزها الآن، عناصر تعتبر فرصة تاريخية لخلق مجتمعات أكثر استقرارا وتطورا اليوم وغذا.
فكر الحداثة هذا انطلق في رؤيته رؤية مثالية ترى فيه الصلاحية والعدل والتصحيح للتاريخ ومحاربة الظلم والتخلف... ولكن هل فعلا هذا هو فكر الحداثة؟... نريد بلورة لأسمى ما تصوره الفلاسفة والعلماء ورجال السياسة والتاريخ والاجتماع.. ولو ان منطلقاتهم كانت مختلفة، والمصالح التي خدموها قد رأوها أولا وقبل كل شيء في دائرة ضيقة أو محصورة ومقتصرة على طبقة أو منطقة..
لن يكون فكر الحداثة في هذا التحليل سوى إرادة التغيير بالصورة المرسومة جزئيا ونسبيا فيما سبق ذكره.
لا بد لهذه الإرادة أن تنطلق من الممكن والواقع، مما نستطيع إنجازه وتحقيقه في دوائره الصغرى والمتوسطة والكبيرة. لابد لها أن تتخذ شكل مشروع ونحاول رسم أهدافه ومراحل إنجازه وطرق ووسائل تحقيقه...
ولكن لماذا الحاجة إلى التحديث؟ هناك من سيقول إننا ننعم بالإيمان والعبادة والحب لله، ولازلنا نحتاج إلى طاعته أكثر وتطبيق أحكامه لكي يخرجنا من واقعنا وضعفنا وتأخرنا، ولكي نفوز بالآخرة وننجو من العذاب...
بداية الجواب في انسجام مع ما سبق نقول إن العصر الحالي الذي تعيشه الإنسانية عرف تحولات تاريخية كيفية ونوعية وانتقالات من أشكال تفكير وتنظيم وعيش وحضارة الى أخرى أكثر تطورا وتغيرا. هذا الوضع الجديد يفرض رسم فكر جديد متلائم معه وغير مضيع فرصة التطور والتقدم.إن الفكر الديني الذي مَثل ومَثلته القرون الوسطى يحتاج الى تطوير وتغيير لكي يُمثل ويُمثله العصر الحديث. ولا أحد يجادل في التحولات التاريخية الكبرى التي عرفتها الإنسانية خلال القرون التاريخية والزمنية الأخيرة وعقودها القريبة.
ومعروف أن الإنسان يتصف بالعناد والتعنت والأنانية والتشبت بالقديم وحنين الأجداد والأخبار، وقد عانى الفكر الديني نفسه من عناد هذا الإنسان ولم يستطع اختراقه إلا بصعوبات وتضحيات وتدرج.هذه الحقيقة الموضوعية لا أحد ينفيها أو يجادل فيها، وهي سلاح لنا أو علينا، أكنا مع المشروع الحداثي أو ضده.
وكل دين أراد أن يحافظ على استمراريته لابد له أن يجدد آلياته وتصوراته، وإلا فسيستسلم للتاريخ بفكره ومؤسساته وأتباعه ، ويجعله إرثَه ومجاله لديانات أخرى.
في هذا الإطار تأتي شرعية خطابنا بالحديث عن مشروعية تحديث الفكر الديني، وفي هذا الإطار سيتم الحديث عن مشروع تحديث الإسلام كفكر ديني وتصور حياتي.
فهل فعلا الإسلام في حاجة إلى تحديث وتكيف جديد مع معطيات العصر الحديث؟ هل هذا الاقتراح مشروع أم هو مجرد مصيدة وتربص بالدين الثابت الكامل والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
معلوم أن الإسلام محور هويتنا التاريخية والاجتماعية والنفسية والروحية، ولكنه ليس هو المجال الواقعي الجديد الذي نعيش داخله وفي فلكه.و لا يعني هذا أنه يناقض كلا منا أو يخالفه، بل إن تصورنا له كمسلمين هو الذي أصبح يباعده و يفترق عنه نسبيا.
لقد عرف تاريخنا الحديث تجربة مماثلة عاشها مفكرون إسلاميون بارزون.ثار هؤلاء على أوضاع تخلف وجمود وظلام عانى منها التفكير الإسلامي والمجتمعي والحضاري لأممنا، وسموا ذلك العهد بعصر الظلمات.وفعلا ، فكلما انسدد الأفق وأصبحنا نرسم فلكا مغلقا ومتكررا للحياة والتاريخ، فإننا حكمنا على حركة التاريخ بالتوقف وتكرار بدائية الحياة وثنائياتها البسيطة. وقد عانى هؤلاء المفكرون من رد فعل حراس الجمود والتخلف في التاريخ، كالمنقبض في نمو شخصيته الملازم لطفولته الخائف من فقدان حنينها وعيشها رغم كبره وهرمه وشيخوخته،حارقا مراحل الحياة متغافلا لها.
فهناك من كُفر وسجن ومن سُفه.... ولكن الأجيال شرعنت خطابهم ونداءاتهم ووعت بطروحاتهم فبلورتها في مشاريع سياسية واجتماعية وأخلاقية وتربوية....
والآن، هل النداء بتحديث الاسلام سيكون مقبولا أو مرفوضا؟ وهل القول بعدم صلاحية جملة تصورات وخطابات سيكون صحييحا أم خاطئا؟ لا نبحث عن جواب لأنفسنا فقط، بل للواقع وللتاريخ وللمجتمع...فالواقع يعرف أشكال مقاومة عنيفة لما هو مشروع في مقاومته ولما هو غير ذلك...وهذا أمر يُصعب مهمة المعالجة والتحليل.
هل المجتمع الاسلامي في حاجة إلى تحديث؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كانت الحداثة هي مشروع عقلنة ونظام وضبط وتحكم في التسيير ورقيٍ بالمجتمعات الانسانية وتوفير عيش كريم، وحقوق مستفادة وقيام بواجب في حدود المسؤولية وبنزاهة وشفافية مع محاربة كل ظلم واستبداد وتجبر واستعباد... إذا كانت الحداثة هي هذه ، فلعل هذا لم يتحقق في التاريخ الانساني قبل ،ولا في التاريخ الاسلامي كذلك.... ليأت المخالف بخلاف ما نقول من الواقع الموضوعي والتاريخ الفعلي لحياة البشرية وللمجتمعات الاسلامية.
ما هو واقع المجتمعات الاسلامية اليوم؟ كثيرا ما تبرر مجموعة من الخطابات شرعيتها برد اللوم على الآخر على الاستعمار وعلى الكافر وعلى الصهيونية والامبريالية و و و.... ولكن ستر وحجب الشمس بالغربال لا ينفع اليوم في هذا السياق.فنحن كمجتمعات اسلامية نجتر تاريخا مليئا بالتخلف والاستعباد والقهر والخوف والاستبداد، وبالكبت والجهل والأمية، وبرفض التغيير والتطور...والامثلة الدالة على ذلك كثيرة وعريضة....
مع قرارة أنفسنا يجب أن نقر بأننا نعيش الفوضى وسوء التنظيم والتخطيط، وأننا نساهم في انتشار الفقر ومعه فقدان الحقوق ، ولا نساهم في تحسين وضع الانسان والرقي به كشخص والسمو به كمواطن وكفرد... فبمجرد أننا نمارس خطابا جبريا وقهريا وزاجرا ومتوعدا، فإننا نكرس الخضوع والاستبداد والطاعة في غير مواضعها والاستعباد بأشكاله الراقية الجديدة.
لم نبق الآن مجتمعات رعوية وبدوية وفلاحية فقط، أصبحت فينا تحولات تاريخية بنيوية،وأصبحت فينا فئات وطبقات نوعية لم تكن بالأمس القريب. إن المجتمع الاسلامي اندمج في التحولات الحضارية الجديدة وفي الحركة الاقتصادية الحديثة وفي أشكال الحياة اليومية المعيشة الآن.ويجب علينا أن نواكب هذا الاندماج ونجعله أكثر مردودية وايجابية واستفادة، ونجعله مساهما ومنتجا وليس مستهلكا وتابعا أو رافضا ومتناقضا.
إن التحولات العمرانية والتنظيمية والسكنية واالمهنية...جعلت الانسان يأخذ أدوارا جديدة داخل المجتمع ترتبط بالجهد المبذول والكفاءة المتوفرة والمنتوج المحصول، ولم يعد لتقسيم القبيلة والعشيرة والشريف والوضيع والذكر والانثى والعبد والسيد والامير والخادم...لم يعد لكل هذا مجال للحديث أو للتكريس.هذا ما تريد الحداثة تغييره. وقد ارتبطت بهذه التحولات أخلاق جديدة ومسؤوليات محددة ورؤى بديلة عن كل ما سبق.
هذه التحولات لا تعني غياب أشكال سابقة سائدة اليوم. ولكن لنتساءل ما هو الأفضل : التحرر أم الاستعباد؟ الاستقلال أم الاتكال والاعتماد...؟
فهل نفسية المسلم وشخصيته مستعدة لتقبل هذه التحولات والاندماج فيها أم لا؟
إن الفرد المسلم اليوم محاصر بمجموعة من الخطابات والصراعات والازمات تجعله دائم التوتر وتسد أمامه آفاق الانفتاح والتطور النوعي داخل التاريخ.إن الصدمات احضارية التي يعيشها تبرر له تمسكه بالخطابات الماضوية المتشددة والرافضة للواقع وحتى للمستقبل،الرافضة كذلك لكل محاولات التجديد والتغيير الحداثي الذي يجب أن يكون مجردا في طلبه عن كل انزلاقات التبعية والاستعمار والاستغلال البشع أو حتى الاحتلال الممنهج والتذويب والاحتقار الفظيع لشخصية هذا المسلم من طرف أعداء له في الواقع.
ولكن ، هل طلب التحديث هو قضاء على هذا المسلم وخدمة لهؤلاء الاعداء؟ بالطبع ليس هذا هو المطلوب، إذ امطلوب هو تحديث حضاري مع تحقيق للكرامة واحترام للسيادة للفرد والمجتمع ولمقوماتهما الشخصية. وهذا يفترض كما قلنا أن يكون استعداد المسلم لإحداث تغيير في نفسيته وتفكيره أولا، وإقناعه بأن التغييرات الحداثية هي تحولات سلمية وتربوية معقلنة، لا كما يرى ونرى بها تاريخ الانسانية.إذ غالبا ما كان تحول الشعوب من دين الى آخر، ومن نظام سياسي إلى آخر بالقوة والعنف وليس دائما بالاحتكاك والاقتناع.
وقبل أن نقترب من أي تصور للحداثة هو المنشود والمأمول، نلقي الضوء على الواقع التاريخي للمجتمعات الانسانية والاسلامية على الخصوص لنرى الداعي إلى التغيير والتحديث.
بدون اجترار الدراسات والبحوث الكثيرة في هذا الموضوع نسجل أن المجتمعات الانسانية اليوم دخلت مع النصف الاخير من القرن العشرين في حصاد ثورتها العلمية والفلسفية والصناعية والاقتصادية ككل.. وكذلك التقنية والمعلوماتية، مستفيدة من اكتشافاتها واختراعاتها ومختبراتها إن في المجال الخلوي والوراثي أو المجال الذري والنووي....
لكن هذا التطور البارز الذي عرفته الانسانية يجعلنا نفرز طبقات وفئات عن أخرى.إذ من يشارك فيه ويتحكم في سيرورته؟ بالطبع فالمجتمعات الغربية اليوم هي المتحكمة والمساهمة فيه بشكل أكبر. وإن كان العالم قد عرف تجربتين حضاريتين ذاتا بعدين فلسفيين وسياسيين وهما الرأسمالية والاشتراكية، فإن الكفة اليوم تميل للمشروع الليبرالي الرأسمالي مع أفقه الجديد المتمثل في محاولة العولمة الشاملة لمشروعه السياسي والاقتصادي والايديولوجي والمصلحي كذلك..مع التذكير بأن تجربة الصين لا زالت مستمرة ومنتجة، ولكن بالمقارنة مع الغرب، فإن الرقي والتطور عند الفرد الانساني يلاحظ في الغرب أكثر. وهذا لا يعني الافضلية والتفوق، قلا ننسى أن ازدهار العالم الغربي بالامس وغدا هو على حساب ثروات شعوب وتعبها واستغلالها ماديا ومعنويا.
فهل الحداثة مشروع غربي فقط؟
الجواب بنعم قد يجعلنا إطلاقيين.فإما الارتماء في أحضان هذا المستغل المتجدد الاشكال والتشكلات أو الرفض له والانزواء.وفي الحل الاول استسلام وانحلال، كما في الثاني تشدد وابتعاد عن أرض الواقع ومسار التاريخ.
إن الحداثة هي ركوب قاطرة التاريخ ومواكبة محطاتها وتصوراتها والتعامل والاستفادة من مكوناتها وعنصرها، هي جعل التطور إلى الأفضل والاحسن ما هو غاية للانسانية طبعا.فكلما استطعنا القضاء على الجهل والفقر، نشرنا العلم والمعرفة والوعي.وكلما قضينا على المرض والجوع حققنا سلامة الانسان وعيشه الكريم.وكلما وفرنا الحقوق والكرامة والعدالة لهذا الانسان سحقنا أشكال القهر والاستبداد والاستعباد والظلم والطغيان، وجعلنا الانسان أكثر تحضرا والتزاما بالقانون وراغبا في العيش الكريم والسليم...كلما حققنا النظام وحسن التسيير قضينا على الفوضى التي تسود مجتمعاتنا في التفكير والتسيير والانجاب والانتاج ومجالات الحياة عامة .