كان البنا لا ينفك يتحدث عما ينبغي أن يكون، منطلقا ً في هذا التوجه من متطلبات عقل طاهر متمسك باليوتوبيا، وكنت آخذ عليه أنه يجادل – في غير موضع - بأخلاقيات عصر النبوة دون التفات إلى معطيات الواقع المعيش. وكنت أنقده بمنهج " حداثيّ " يرى أن الصراع بين المختلفين أيديولوجياً وسياسياً على الثروة والسلطة مفهوم ما دام يتبع قانون الحياة الواقعية، وكان مما قلته يومها:
" نحن نعيش اليوم في عصر الرأسمالية وليس عصر النبوات، فلا مجال عن الحديث عن أخلاق سيئة وأخرى حسنة، وآية ذلك أن الرأسماليّ الشخص ليس شريراً في حد ذاته، بل النظام الرأسمالي هو المسئول عن تضخم الأنانية المفضية إلى التطاحن والضغائن فالاضطرابات، ولو أن صاحب مصنع تمسك بالعدل والإنصاف فتنازل عما ُيعرف في علم الاقتصاد السياسي بفائض القيمة (= أرباحه ) لصالح عماله مكتفيا بالقليل مثلهم فلا بد أن يفقد مصنعه في بضع سنين ويبقى النظام كما هو. راجع تجربة الرأسمالي الإنجليزي روبرت أوين (1771-1858م) الذي أفلس بسبب أفكاره الإصلاحية ثم حدثني عن الأخلاق الحميدة " أ.هـ
أما هو فقد أخذ علىّ تأثري بالمادية التاريخية إلى الدرجة التي "لوّنت" قراءتي للفكر الإسلامي، فكان ردي أن القراءة العلمية لتاريخ الأفكار تقتضي ذلك وإلا وقعنا في "مثالية" متوهمة لا يفيد منها سوى الطبقات السائدة المستغلة. فعاد البنا محذراً من أن "الإيمان" بالمادية التاريخية دون سواها قد يمنعني من الحفر عند جذور الفكر الإسلامي لاستخلاص البذرة الأصيلة فيه.
هذان المنهجان كانا جوهر الخلاف بين البنا وبيني . فمن تراه كان أقرب للصواب ؟
اليوم وبعد مرور أعوام طوال أستطيع القول إنني صرت أثمـّن موقف البنا معتبرا ً إياه شريكاً " مصوّباً " في موقعي ذاته. كيف ؟ كلمة السر لهذه الإجابة هي " النقد الذاتي " فكم بينت في أكثر من كتاب ودراسة ومقال كيف أنه لا سبيل لتقدم الأمم والمجتمعات والأفراد بغير اعتماد هذه الآلية النقدية بما تشير إليه من نضج فكري أساسه التسليم بقصور العقل البشري، وضرورة تخلصه من التعصب للذات ( دينية أو قومية أو فردية ) مؤمناً بأن الحقيقة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو بها أولى.
هكذا راح كاتب هذه السطور يعيد النظر فيما استقر عليه - بحكم المنهج المادي التاريخي - من أن تخلفنا عن ركب الحداثة ناجم عن أوضاعنا الجيبوليتيكية الجامدة،المولدة لثقافة تقبل بالإذعان وترتضيه مقابل الأمن والاستقرار، وهو ما سمح للأنظمة الدكتاتورية أن تعلو وتفيض، لتعيد إنتاج ثقافة الإذعان في دائرة شريرة وتسلسل عبثيّ. ذلك ما كنت أظنه حتى انفجرت ثورة يناير.
فلقد أثبتت هذه الثورة أن ما كنت أراه لم يكن نهائياً، فبقدر ما برهنت الجماهير" الصابرة" على قدرتها أن تسقط نظاماً دكتاتورياً كامل الأوصاف في ثمانية عشر يوماً [ بجانب تحريرها لتيارات إسلامية ُحظرت عقوداً بما غذي لديها النزعة الفاشية ] بقدر ما برهنت أيضا ً على أن مطلب الحداثة – بنموذجه الغربي – عسير للغاية على ذائقتها الشعبية، ربما بسبب ما أنزله بها الغرب الاستعماري من أذى وأضرار لم تتوقف حتى في عصر ما بعد الكولونيالية، حيث حلت محل القوة العسكرية الصريحة هيمنة ُ الأقوى سياسياً واقتصادياً على مقدرات الأضعف المقهور.
ومن هنا جاءت ضرورة مراجعتي لمفهوم "الحداثة" نقلاً له من المطلق المجرد إلى النسبيّ المشتبك بأحوال الناس ودرجة تقبلهم للمفهوم ذاته.
العولمة وتحديث وظيفة الدين
لقد بدا لي في غمار ما يمر به الوطن من أحداث جسام، وتغيرات ثورية وضد/ ثورية متلاحقة أن عبور هذه المرحلة ممكن، شريطة إتباع منهج َجدْلي (متجاوز للمادية التاريخية دون أن يلغيها) يستبعد من ثقافة الحداثة "الأوربية" عناصرها السلبية : 1- اللهاث المحموم وراء بهرجة المجتمع الاستهلاكي كما شرحه هربرت ماركيوز 2- الاستسلام لتوجهات الرأسمالية المتوحشة التي لا تفتأ تشعل الحروب في كل مكان وتدمر اقتصاديات الشعوب بنهب مواردها الطبيعية وتحجيم نموها فلا تغدو قادرة على منافسة المتقدمين. 3- الاكتفاء بالعيش في مستواه المادي البحت ونبذ الأديان باعتبارها نوعا ً من مخلفات العصور المظلمة. وإذ يستدعي هذا المنهج من معطيات الحداثة الأوربية عناصرها الموجبة : جدية الإنتاج وتعظيم العقلانية وترسيخ الديمقراطية، فإنه لابد يمحو القناعات اللاهوتية الزائفة التي تعلل الجياع بإناء الرمل والحصى ليبقوا صابرين حتى يأتي المخلص الميتافيزيقي ( يسوع أو الإمام المستور أو المهدي المنتظر ) ومقابل هذا المحو فإنه يستلهم ثقافة النبوة التي تدعوهم لكي يتحركوا هم بقواهم الذاتية ليخلصوا أنفسهم بأنفسهم.
إن هذا المنهج الجدلي الجامع بين التحرر المادي والتشوف الروحي إنما يفتح الأفق أمام التزاوج بين الحداثة – في بعدها التاريخي والعلمي والإنساني – وبين براءة الدين المنبثقة من أصالة النبوة ( قبل أن تؤمم الدولة ُ الدين َ) تلك الأصالة التي تشيع الأمل في قلوب البشر، وتحض على إحقاق الحقوق وتحرض على مقاومة الأباطيل، وتسعى لإنزال الهزيمة بالطواغيت وأتباعهم الفاسدين الفجرة. وبهذا المنهج لا يكون للحداثي حق انتقاد الأشخاص الذين يرون الدين ملبياً لاحتياجاتهم الروحية ومطمئناً لهواجسهم الوجودية ، وبالمقابل فإن من يطالبون الدولة بأن تتخذ لها دينا رسمياً – بينما هي مجرد شخص اعتباري –فإنهم يتصورونها شخصية طبيعية يقلقها أن تموت، ويشغلها مصيرها عند البعث والحساب فتأمل في دخول الجنة وتبتهل من أجل الزحزحة عن النار.
الأزهر يتقدم الصفوف
والق أنه دون التطرق لهذا السياق الفكري – وإن كان ليس بعيدا ً عنه في مستواه السياسي والاجتماعي - دارت مناقشات ثرة بين مؤسسة الأزهر الشريف وبين رموز من المثقفين الوطنيين، فكان مما قاله الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إن الإسلام لم يعرف في تاريخه ولا تشريعاته أو حضارته ما يعرف في الثقافات الأخرى بــ «الدولة الدينية الكهنوتية» التي تتسلط على الناس وتعانى منها البشرية، وعليه فعلى جميع القوى الوطنية أن تتوحد لدعم الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة.
وفي مؤتمره الصحفي بتاريخ 20/6/2011 بمقر مشيخة الأزهر لإعلان «وثيقة الأزهر والمثقفين» حول مستقبل مصر قال الأمام الأكبر «الإسلام ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية» كما أكد فضيلة الإمام علي أهمية اعتماد النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحر المباشر، موضحا أنه الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية بما يضمنه من تعددية وتداول سلمى للسلطة وتحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، مشددًا على ضرورة الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، وتأكيد مبدأ التعددية واحترام جميع العقائد الدينية السماوية الثلاث. كما دعا الشعب المصري بكل فئاته لاحترام آداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار واجتناب التكفير والتخوين وعدم استغلال الدين لبث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، واعتبار التحريض على التمييز الديني والنزعات الطائفية والعنصرية جريمة في حق الوطن. كما أشار إلى أهمية تدعيم علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي ودائرتها الأفريقية والعالمية، وضرورة مناصرة الحق الفلسطيني جنباً إلى جنب الحفاظ على استقلال الإرادة المصرية، وبعث دورها القيادي التاريخي على أساس التعاون تحقيقا ً للخير المشترك لمصلحة الشعوب وتقدم البشرية، والحفاظ على البيئة وإرساء السلام العادل بين الأمم.
تلك هي المبادئ التي تضمنتها وثيقة "الأزهر والمثقفين" والتي تدعو بصريح العبارة لتأسيس الدولة المدنية الدستورية والالتزام بالمواثيق الدولية، كما تطالب باستقلال مؤسسة الأزهر، وعودة «هيئة كبار العلماء» واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر بالانتخاب، والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهري، ليسترد خريجوه دورهم الفكري، وتأثيرهم العالمي في مختلف الأنحاء، واعتبار الأزهر الجهة المختصة التي يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة، من دون مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي متى تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة.
فأي جاحد ذلك الذي يغطرش على حقيقة أن هذه الوثيقة لا غرو ترتفع إلى ( وربما تعلو) مستوى الماجنا كارتا الانجليزية عام 1215 والوثيقة الأمريكية الصادرة عقب إعلان استقلال أمريكا 1776 ووثيقة حقوق الإنسان والمواطن الصادرة عن الثورة الفرنسية 1789ولا تتناقض في غاياتها مع الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948؟
فإذا علمنا أن جميع الشعوب العربية والإسلامية بكل ما تبقى لديها من آمال في التقدم واللحاق بركب الحضارة الحديثة إنما تتطلع إلى قيادة تثق بها وتطمئن لقدرتها على توحيد الرؤية العامة تجاه العالم المعاصر، دون أن تتخلى عن تراثها الإنساني الأصيل الذي عبرت عن مثله العليا النبواتُ والرسالاتُ السماوية؛ لأدركنا لماذا تهفو القلوب والأبصار إلى هذه المؤسسة النبيلة التي حمت وسطية الإسلام في الجانب الفكري، وكانت في طليعة المقاومين للغزاة الأجانب عسكرياً وسياسياً.
وتبقي الوظيفة الاجتماعية للنبوة
كل هذا منعش للآمال حقاً، ولكن يبقى أن يلتفت الأزهر إلى من وظيفة النبوة في مستواها الاجتماعي والتي اضطلع بها الرسول الكريم وخليفتاه والإمام ابن أبي طالب ألا وهي محاربة الفقر، ومن ثم ينتظر من "أزهرنا الشريف" أن يتبنى أهم أهداف ثورة يناير: العدالة الاجتماعية، فيضغط بثقله للإقرار بحد أدني وحد أقصى للأجور، ولوضع نظام للضرائب التصاعدية، وإسقاط السياسات الاقتصادية الفاشلة، التي – بحجة السوق الحر - تركت الوطن للشركات الأجنبية تنزح موارده بينما وكلاؤهم المحليون يراكمون الثروات الأسطورية من أقوات الشعب الجائع، وتركت السوق سداحاً مداحاً لجشع التجار يعيثون فيه فساداً دون اتخاذ أية إجراءات جادة لضبط الأسواق ولو بفرض الرقابة على الأسعار وتحديد هامش ربح معقول كما تفعل كل الدول بما فيها عتاة الرأسمالية.
ويا ليت الصديق المفكر الإسلامي الكبير جمال البنا أن يرى فيما قدمناه من نقد ذاتي ما يرضيه.
-------------
القاهرة
" نحن نعيش اليوم في عصر الرأسمالية وليس عصر النبوات، فلا مجال عن الحديث عن أخلاق سيئة وأخرى حسنة، وآية ذلك أن الرأسماليّ الشخص ليس شريراً في حد ذاته، بل النظام الرأسمالي هو المسئول عن تضخم الأنانية المفضية إلى التطاحن والضغائن فالاضطرابات، ولو أن صاحب مصنع تمسك بالعدل والإنصاف فتنازل عما ُيعرف في علم الاقتصاد السياسي بفائض القيمة (= أرباحه ) لصالح عماله مكتفيا بالقليل مثلهم فلا بد أن يفقد مصنعه في بضع سنين ويبقى النظام كما هو. راجع تجربة الرأسمالي الإنجليزي روبرت أوين (1771-1858م) الذي أفلس بسبب أفكاره الإصلاحية ثم حدثني عن الأخلاق الحميدة " أ.هـ
أما هو فقد أخذ علىّ تأثري بالمادية التاريخية إلى الدرجة التي "لوّنت" قراءتي للفكر الإسلامي، فكان ردي أن القراءة العلمية لتاريخ الأفكار تقتضي ذلك وإلا وقعنا في "مثالية" متوهمة لا يفيد منها سوى الطبقات السائدة المستغلة. فعاد البنا محذراً من أن "الإيمان" بالمادية التاريخية دون سواها قد يمنعني من الحفر عند جذور الفكر الإسلامي لاستخلاص البذرة الأصيلة فيه.
هذان المنهجان كانا جوهر الخلاف بين البنا وبيني . فمن تراه كان أقرب للصواب ؟
اليوم وبعد مرور أعوام طوال أستطيع القول إنني صرت أثمـّن موقف البنا معتبرا ً إياه شريكاً " مصوّباً " في موقعي ذاته. كيف ؟ كلمة السر لهذه الإجابة هي " النقد الذاتي " فكم بينت في أكثر من كتاب ودراسة ومقال كيف أنه لا سبيل لتقدم الأمم والمجتمعات والأفراد بغير اعتماد هذه الآلية النقدية بما تشير إليه من نضج فكري أساسه التسليم بقصور العقل البشري، وضرورة تخلصه من التعصب للذات ( دينية أو قومية أو فردية ) مؤمناً بأن الحقيقة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو بها أولى.
هكذا راح كاتب هذه السطور يعيد النظر فيما استقر عليه - بحكم المنهج المادي التاريخي - من أن تخلفنا عن ركب الحداثة ناجم عن أوضاعنا الجيبوليتيكية الجامدة،المولدة لثقافة تقبل بالإذعان وترتضيه مقابل الأمن والاستقرار، وهو ما سمح للأنظمة الدكتاتورية أن تعلو وتفيض، لتعيد إنتاج ثقافة الإذعان في دائرة شريرة وتسلسل عبثيّ. ذلك ما كنت أظنه حتى انفجرت ثورة يناير.
فلقد أثبتت هذه الثورة أن ما كنت أراه لم يكن نهائياً، فبقدر ما برهنت الجماهير" الصابرة" على قدرتها أن تسقط نظاماً دكتاتورياً كامل الأوصاف في ثمانية عشر يوماً [ بجانب تحريرها لتيارات إسلامية ُحظرت عقوداً بما غذي لديها النزعة الفاشية ] بقدر ما برهنت أيضا ً على أن مطلب الحداثة – بنموذجه الغربي – عسير للغاية على ذائقتها الشعبية، ربما بسبب ما أنزله بها الغرب الاستعماري من أذى وأضرار لم تتوقف حتى في عصر ما بعد الكولونيالية، حيث حلت محل القوة العسكرية الصريحة هيمنة ُ الأقوى سياسياً واقتصادياً على مقدرات الأضعف المقهور.
ومن هنا جاءت ضرورة مراجعتي لمفهوم "الحداثة" نقلاً له من المطلق المجرد إلى النسبيّ المشتبك بأحوال الناس ودرجة تقبلهم للمفهوم ذاته.
العولمة وتحديث وظيفة الدين
لقد بدا لي في غمار ما يمر به الوطن من أحداث جسام، وتغيرات ثورية وضد/ ثورية متلاحقة أن عبور هذه المرحلة ممكن، شريطة إتباع منهج َجدْلي (متجاوز للمادية التاريخية دون أن يلغيها) يستبعد من ثقافة الحداثة "الأوربية" عناصرها السلبية : 1- اللهاث المحموم وراء بهرجة المجتمع الاستهلاكي كما شرحه هربرت ماركيوز 2- الاستسلام لتوجهات الرأسمالية المتوحشة التي لا تفتأ تشعل الحروب في كل مكان وتدمر اقتصاديات الشعوب بنهب مواردها الطبيعية وتحجيم نموها فلا تغدو قادرة على منافسة المتقدمين. 3- الاكتفاء بالعيش في مستواه المادي البحت ونبذ الأديان باعتبارها نوعا ً من مخلفات العصور المظلمة. وإذ يستدعي هذا المنهج من معطيات الحداثة الأوربية عناصرها الموجبة : جدية الإنتاج وتعظيم العقلانية وترسيخ الديمقراطية، فإنه لابد يمحو القناعات اللاهوتية الزائفة التي تعلل الجياع بإناء الرمل والحصى ليبقوا صابرين حتى يأتي المخلص الميتافيزيقي ( يسوع أو الإمام المستور أو المهدي المنتظر ) ومقابل هذا المحو فإنه يستلهم ثقافة النبوة التي تدعوهم لكي يتحركوا هم بقواهم الذاتية ليخلصوا أنفسهم بأنفسهم.
إن هذا المنهج الجدلي الجامع بين التحرر المادي والتشوف الروحي إنما يفتح الأفق أمام التزاوج بين الحداثة – في بعدها التاريخي والعلمي والإنساني – وبين براءة الدين المنبثقة من أصالة النبوة ( قبل أن تؤمم الدولة ُ الدين َ) تلك الأصالة التي تشيع الأمل في قلوب البشر، وتحض على إحقاق الحقوق وتحرض على مقاومة الأباطيل، وتسعى لإنزال الهزيمة بالطواغيت وأتباعهم الفاسدين الفجرة. وبهذا المنهج لا يكون للحداثي حق انتقاد الأشخاص الذين يرون الدين ملبياً لاحتياجاتهم الروحية ومطمئناً لهواجسهم الوجودية ، وبالمقابل فإن من يطالبون الدولة بأن تتخذ لها دينا رسمياً – بينما هي مجرد شخص اعتباري –فإنهم يتصورونها شخصية طبيعية يقلقها أن تموت، ويشغلها مصيرها عند البعث والحساب فتأمل في دخول الجنة وتبتهل من أجل الزحزحة عن النار.
الأزهر يتقدم الصفوف
والق أنه دون التطرق لهذا السياق الفكري – وإن كان ليس بعيدا ً عنه في مستواه السياسي والاجتماعي - دارت مناقشات ثرة بين مؤسسة الأزهر الشريف وبين رموز من المثقفين الوطنيين، فكان مما قاله الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إن الإسلام لم يعرف في تاريخه ولا تشريعاته أو حضارته ما يعرف في الثقافات الأخرى بــ «الدولة الدينية الكهنوتية» التي تتسلط على الناس وتعانى منها البشرية، وعليه فعلى جميع القوى الوطنية أن تتوحد لدعم الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة.
وفي مؤتمره الصحفي بتاريخ 20/6/2011 بمقر مشيخة الأزهر لإعلان «وثيقة الأزهر والمثقفين» حول مستقبل مصر قال الأمام الأكبر «الإسلام ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية» كما أكد فضيلة الإمام علي أهمية اعتماد النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحر المباشر، موضحا أنه الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية بما يضمنه من تعددية وتداول سلمى للسلطة وتحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، مشددًا على ضرورة الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، وتأكيد مبدأ التعددية واحترام جميع العقائد الدينية السماوية الثلاث. كما دعا الشعب المصري بكل فئاته لاحترام آداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار واجتناب التكفير والتخوين وعدم استغلال الدين لبث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، واعتبار التحريض على التمييز الديني والنزعات الطائفية والعنصرية جريمة في حق الوطن. كما أشار إلى أهمية تدعيم علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي ودائرتها الأفريقية والعالمية، وضرورة مناصرة الحق الفلسطيني جنباً إلى جنب الحفاظ على استقلال الإرادة المصرية، وبعث دورها القيادي التاريخي على أساس التعاون تحقيقا ً للخير المشترك لمصلحة الشعوب وتقدم البشرية، والحفاظ على البيئة وإرساء السلام العادل بين الأمم.
تلك هي المبادئ التي تضمنتها وثيقة "الأزهر والمثقفين" والتي تدعو بصريح العبارة لتأسيس الدولة المدنية الدستورية والالتزام بالمواثيق الدولية، كما تطالب باستقلال مؤسسة الأزهر، وعودة «هيئة كبار العلماء» واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر بالانتخاب، والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهري، ليسترد خريجوه دورهم الفكري، وتأثيرهم العالمي في مختلف الأنحاء، واعتبار الأزهر الجهة المختصة التي يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة، من دون مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي متى تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة.
فأي جاحد ذلك الذي يغطرش على حقيقة أن هذه الوثيقة لا غرو ترتفع إلى ( وربما تعلو) مستوى الماجنا كارتا الانجليزية عام 1215 والوثيقة الأمريكية الصادرة عقب إعلان استقلال أمريكا 1776 ووثيقة حقوق الإنسان والمواطن الصادرة عن الثورة الفرنسية 1789ولا تتناقض في غاياتها مع الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948؟
فإذا علمنا أن جميع الشعوب العربية والإسلامية بكل ما تبقى لديها من آمال في التقدم واللحاق بركب الحضارة الحديثة إنما تتطلع إلى قيادة تثق بها وتطمئن لقدرتها على توحيد الرؤية العامة تجاه العالم المعاصر، دون أن تتخلى عن تراثها الإنساني الأصيل الذي عبرت عن مثله العليا النبواتُ والرسالاتُ السماوية؛ لأدركنا لماذا تهفو القلوب والأبصار إلى هذه المؤسسة النبيلة التي حمت وسطية الإسلام في الجانب الفكري، وكانت في طليعة المقاومين للغزاة الأجانب عسكرياً وسياسياً.
وتبقي الوظيفة الاجتماعية للنبوة
كل هذا منعش للآمال حقاً، ولكن يبقى أن يلتفت الأزهر إلى من وظيفة النبوة في مستواها الاجتماعي والتي اضطلع بها الرسول الكريم وخليفتاه والإمام ابن أبي طالب ألا وهي محاربة الفقر، ومن ثم ينتظر من "أزهرنا الشريف" أن يتبنى أهم أهداف ثورة يناير: العدالة الاجتماعية، فيضغط بثقله للإقرار بحد أدني وحد أقصى للأجور، ولوضع نظام للضرائب التصاعدية، وإسقاط السياسات الاقتصادية الفاشلة، التي – بحجة السوق الحر - تركت الوطن للشركات الأجنبية تنزح موارده بينما وكلاؤهم المحليون يراكمون الثروات الأسطورية من أقوات الشعب الجائع، وتركت السوق سداحاً مداحاً لجشع التجار يعيثون فيه فساداً دون اتخاذ أية إجراءات جادة لضبط الأسواق ولو بفرض الرقابة على الأسعار وتحديد هامش ربح معقول كما تفعل كل الدول بما فيها عتاة الرأسمالية.
ويا ليت الصديق المفكر الإسلامي الكبير جمال البنا أن يرى فيما قدمناه من نقد ذاتي ما يرضيه.
-------------
القاهرة